صفحات مختارة

تشومسكي الخطير!

بدر الابراهيم
كُتُبُ تشومسكي ممنوعة في معتقل غوانتانامو، لأنها تشكل خطراً على عقول السجناء. هكذا قرر القائمون على السجن الشهير. وهذا ما دعاهم لرفض كتاب (تدخلات) لتشومسكي الذي قدمه أحد المحامين هديةً لأحد السجناء. أوضح السجانون نوعية الكتب المحظورة: الكتب المعادية لأميركا وللغرب وللسامية، وعلّق تشومسكي بالقول: «إن هذا يحدث أحياناً في الأنظمة التسلطية».
يحدث هذا دائماً في الأنظمة التسلطية في العالم الثالث، حيث الوصاية على الأفكار والأخلاق والسلوكيات في (أبهى) صورها. وتلتزم الأنظمة التسلطية وأوصياؤها الأخيار بمنع هذا الكتاب وذاك الفيلم وتلك الصحيفة حرصاً على عقل المواطن وخوفاً عليه من التلف الفكري والأخلاقي.
هذه الوصاية تحدث أيضاً في «واحة الديموقراطية والحريات» المبشرة على الدوام بحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، وفي السجن الذي ينطق بالشهادة على الوحشية الأميركية المغلفة بالشعارات الديموقراطية. هذه الوصاية شاهد جديد على الاستبداد الأميركي الذي يحاول بعض العرب من محبي جلد الذات تجاوزه والحديث عن الاستبداد كمنتج أصيل للثقافة العربية.
من المعلوم لدى شعوب العالم الثالث التي اكتوت بنيران أميركا أن الولايات المتحدة تمارس انتقائية وازدواجية فظيعة في ما يخص شعاراتها، فحقوق الإنسان تخص الإنسان الأميركي الأبيض دون سواه في داخل أميركا وخارجها، وحرية التعبير ونشر الآراء قد تتوافر للبعض لكنها لن تتوافر بالكامل لآخرين ممن يفضحون الممارسات الأميركية في الخارج، ويكشفون زيف الصورة الأميركية المتبرجة بشعارات الحرية، وأسهل تهمة يمكن إطلاقها في أميركا والغرب في وجه كل من يتجرأ على الحديث عن إرهاب إسرائيل هي معاداة السامية مع ما يترتب عليها من إرهاب فكري مشابه لما يحدث في العالم الثالث باسم الدين والقومية، والشواهد كثيرة على ذلك.
يمكن اعتبار الولايات المتحدة دولة إرهابية مميزة، فالتدقيق في حجم الكوارث التي سببتها السياسات الأميركية للعالم يجعل قول مثل هذا الكلام صحيحاً. مارست أميركا أقصى درجات التناقض مع شعارات الديموقراطية، فكانت مصالحها الاستراتيجية في التحالف مع الأنظمة التسلطية حول العالم وقمع الشعوب وقتلهم خياراً استراتيجياً.
كل هذا الاستبداد يتم تغطيته في الداخل الأميركي، فرأس المال الذي يحكم البلاد ويتحكم بإعلامها يغطي على الجرائم التي ترتكبها أميركا بحق الإنسانية والديموقراطية والحريات فيُعطي الصورة الداخلية للاستبداد الخارجي، ويمارس السياسيون الأميركيون والمثقفون التابعون للمؤسسة الحاكمة الكذب على الذات فيصدقون أنهم رسل سلام ودعاة ديموقراطية ويضلّلون الرأي العام الأميركي وما أمكن من الرأي العالمي.
لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة واحة الديموقراطية المثالية كما يصوّر البعض، ولا يمكن التسليم بتجزيء مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان من قِبَل الأميركيين وقبول ذلك ببساطة، وعليه فمن غير الجائز القول إن الاستبداد مرض متوارث في الجينات العربية وخاصٌ بالعرب دون سواهم، فالاستبداد والتسلط وكذلك الجهل والتخلف لا علاقة لها بثقافة دون أخرى بل بسياسات استبدادية تُمَارَس في كل مكان ترى في حرية المعرفة خطراً على وجودها ومصالحها.
لا مجال لإنكار تقدم الولايات المتحدة مع كل ما ذُكِر على العالم العربي في مجال الحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون داخل الولايات المتحدة، لكن قبول المفهوم العنصري للحرية والديموقراطية وتجاهل قمع الأصوات المعادية للسياسات الأميركية والصهيونية أمرٌ مرفوض، والتهوين من هذه الأمور يمثل إشكالاً كبيراً في خطاب بعض المثقفين العرب.
هؤلاء يصورون الثقافة العربية كجثة هامدة لا حل معها سوى البصق عليها، بينما يمتدحون من سبب تكريس التخلف والجهل والاستبداد وضياع الحقوق العربية ويصفونهم بالعقلانية والذكاء، فأي مهزلةٍ هذه؟!
[ كاتب سعودي
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى