المستبد العادل والطائفية العادلة
سليمان تقي الدين
في مطلع القرن الماضي أصدر المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي كتابه «طبائع الاستبداد». كان يعتقد أن نهضة الأمة تبدأ من كشف هذا الداء.
من هيمنة تركية إلى استعمار غربي صارت مواجهة «الخارج» تغطي على مرض «الداخل». لكن الاستبداد كان يؤدي إلى تلك «القابلية للاستعمار».
في لبنان ودنيا العرب مدارس وأكاديميات عليا لهذا الفن. ألم يقل والي مصر محمد علي باشا إنه يعرف من أحابيل السياسة أكثر بكثير مما جاء في كتاب «الأمير» لمكيافيللي! بديهي، بحسب ابن خلدون، أن ورثة الملك من الجيل الثالث يغرقون في امتيازات السلطة ويجهلون معاناة الجيل الأول المؤسس. إذا كان توريث الملك مدعاة للانحطاط فإن توريث الثورات وحركات التغيير يبدو أنه أسوأ، فهناك أقزام وجبابرة.
لبنان «صنّاجة العرب» أو الصورة الأكبر عن أحوالهم. يكاد زعماء لبنان يستنسخون النماذج العربية كلها. خرج هؤلاء الزعماء على الجمهور بإلقاء أوصاف على السماء فكانت زرقاء، برتقالية، صفراء، خضراء، حمراء، واختلف الناس في شأنها، ثم عادوا لسبب معروف مجهول، يقولون إنها واحدة.
يقول الزعماء إنهم يكافحون الفساد وحين يجتمعون «يدفنونه» معاً. ينشطر الشعب بين الوطنية أو العمالة، وحين يلتقي القادة تصبح العمالة وجهة نظر.
لو خرج الحجّاج بن يوسف الثقفي يعنِّف جمهوره في لبنان لتقاعسهم وقال «إن رؤوساً قد أينعت وحان قطافها» لصفق له الجمهور. المسألة ليست في معرفة «طبائع الاستبداد» بل المستبِدّ بهم. هؤلاء هم الناس الذين «يلحسون المبرد»، الذين يبيعون مستقبل أولادهم وبلادهم من أجل تلبية ما يقيم أود حياتهم اليومية الراهنة. هذه المعادلة الخطيرة بين الحرية والعيش هي التي تحكم العلاقة بين الطرفين. للاستبداد بنية اقتصادية اجتماعية ثقافية سياسية أمنية متكاملة.
يمكن للمرء أن يتحدث ألف ليلة وليلة عن سلوكيات الاستبداد، لكن الأهم في لبنان أنه مغلّف بهوامش الحرية التي تبيحها التعددية الطائفية. ربما كانت «الطائفية بنّاءة» في نظر شرائح من الناس لهذا السبب. ومثلما لدينا في ثقافة القدماء دعوة إلى حضور «المستبد العادل»، لدينا دعوة تتجدد إلى «طائفية عادلة».
لا نعرف حتى اللحظة مستبداً عادلاً وطائفية عادلة. الطائفية أحد أبرز مكوّنات الاستبداد. التشاتم بين الطوائف أو التصارع بينها ليس حرية. التقاسم الوظيفي أو التشارك في تقاسم السلطة ليس حرية وليس عدلاً. لا داعي لإشغال الفكر في طرح مشاكل البلاد السياسية والأمنية والاقتصادية واقتراح حلول في إطار نظام لم يراكم على الوحدة الوطنية أو المجتمعية منذ أربعة عقود.
وظيفة النظام الطائفي في لبنان تقسيمية. يستحيل على هذا النظام أن يستعيد أمجاد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إذا كانت حقيقية أو يمكن ذكرها. هيمنة طائفية واحدة فجّرت البلد. لا سبيل إلى هيمنة الطوائف الثلاث الكبرى.
لبنان الطائفي موجود وجغرافيته قد لا تزول وكيانه قد لا ينفصل أو ينقسم أو يلتحق بكيان آخر. لكن هذا اللبنان هو مشروع لا ينتهي من النزاعات والحروب ومن تدمير طاقات شعبه وهدر ثرواته الإنسانية والطبيعية.
كم يحتاج اللبنانيون إلى البدء في اختيار لبنان آخر!؟ اعتاد اللبنانيون بملايين المهاجرين والمغتربين أن يختاروا أوطاناً رديفة حتى لا نقول بديلة. لكن المبدأ أن الوطن يبنيه أهله مما أعطي لهم ولا يختارونه. كم في الثقافة اللبنانية والأدب والفكر والفن من مشاريع لهذا اللبنان؟! متى نبدأ الحفر تحت ركائز الطائفية والاستبداد؟
السفير