صفحات العالم

كفوا أذاكم عن مسلمي أوروبا

محمد الحاج صالح()
اختتم إعلاميّ شهير برنامجه في قناة فضائية عربية أشهر بخطأ مقصود على الأرجح؛ من أن سويسرا منعت بناء الجوامع. أكرر منعت بناء الجوامع. والأصح هو منع بناء المآذن كما هو معروف.
ليس من شيء أشد ضرراً للمسلمين المقيمين في أوروبا من متلازمة التطرف في الخطاب وتلك اللهجة التعبوية التي لا ترى في الغرب إلا عدواً. تصوروا أناساً آمنهم الغرب من بعد خوف، أو من بعد حاجة، ووفر لهم الإقامة ووسائل العيش، فهل يكون جزاءُ الإحسان الحديث، دون رمشة من حياء، عن أولاد القردة والخنازير فضلا عن نسف القطارات والأنفاق و… والأنكى أن عدداً لا يستهان به من مسلمي أوروبا يعيش على صندوق الضمان الاجتماعي، أي أنهم يعيشون بالمعنى الحرفي “عالة” على دافع الضرائب. إن مجرد الحصول على الفيزا ودخول بلد أوربي، أو أي بلد على الإطلاق؛ هو بمثابة عقد وعهد. عقد بأنكَ قبلتَ الخضوع لقوانين البلد وعلى البلد المعني أن يحميك ويرعاك وفق قوانينه. فما هو التقييم الأخلاقي والقانوني لناكث العهد وناقض العقد يا ترى! على الإسلاميين أن يجيبوا.
“أمّا بجاحة!” على رأي إخواننا المصريين.
يجب أن يكون واضحاً أننا عندما نتكلم عن الإسلاميين وخطاب الإسلاميين، لا نقصد الإسلام كدين. فالدين الإسلامي مثله مثل الأديان الأخرى، يمكن للمرء أن يجد فيه نصوصا ونصوصاً. لكن أكثريتها نصوص محبة وتسامح وتدابير حياة. السلبي والمقصود هو خطاب الإسلاميين، أي مستخدمي الدين في السياسة، الذين لا يوفرون فرصة إلا ويحشرون الدين فيه إلى درجة مملة وقميئة. هؤلاء الذين يعلنون أنهم يريدون أسلمة أوروبا باسم الهداية. هؤلاء الذين يستغلون الليبرالية والديمقراطية الأوروبية فيعبرون عن آراء متطرفة لا تفيد إلا في تغذية اليمين الأوروبي.
بالمناسبة، للمرء، إذا ما نظر في برامج وتصريحات الساسة الأوروبيين المنتمين لليمين، أن يكتشف بوضوح مدى التحالف الموضوعي والتناغم ولزوم الواحد للآخر. ونعني الإسلاميين واليمين الأوروبي. إنهم “أعدقاء” الضرورة الذين يتنفسون من الهواء الفاسد ذاته، ويحملون ذات الصفات من نفاق وجوانية في الضعف، واستئساد وعنف متنوع عندما يستشعرون القوة. الاثنان يمتحان ردودهما من منطقة الغرائز في الدماغ. والحال إن التطور البشري الأكثر ثورية في الوعي كان هو الانتقال التدريجي من منطقة الغريزة أي منطقة الوظائف الفيزيولوجية والغضب والعنف، إلى الوظائف العقلية والحسابات والتروي. يكفي أن ترى إسلامويا يخطب أو يعطي مقابلة في فضائية، لترى زبداً في زوايا الفم، وصوتا عاليا على الأرجح، وغضباً، وعنفاً، والأدهى فواتاً عقلياً كما لو أن الدنيا توقفت عند السقيفة، أو عند الغدير، أو حتى عند حملة ريتشارد قلب الأسد. مثله تجد اليميني الأوربي على طريقته طبعاً، يخوّف من شبح إسلامي يتجول في أوروبا، ويقتنص رمزاً إسلاميا مغايراً ليشبع الجمهور الأوروبي بالخطر الداهم، حتى لو كانت المغايرة مجرد فتاة محجبة رغبتْ في دخول سلك الشرطة النرويجية، فانتبهي يا أوروبا! يصرخ اليمنيّ. وانتبهو واصحوا يامسلمين! يصرخ الإسلاميّ. هذا حدث هنا في “النرويج” فعلاً. وفي النرويج أيضا الملا “كريكار” لا فض فوه والذي رشح مؤخراً وفي مقابلة في فضائية عربية أخرى مع ذات الشخص، لاحظوا! الذي قُوبل في برنامج الفضائية الأولى حيث حدث الخطأ التحريضي المقصود، رشح أسامة بن لادن أو الظواهري أو حكمتيار لخلافة المسلمين. “ياهمّلالي!” ولْتَسعدوا يا مسلمين.
إذن لماذا الاحتجاج على عدم بناء المآذن وهي طارئة على العمارة الإسلامية في طورها الأول، في الحين الذي يُعاق فيه بناءُ الكنائس في أكبر البلاد الإسلامية، وتمنع في غير بلد منعاً باتاً؟ لماذا هذا الفصام؟ كي لا نقول شيئاً عن بناء كنيست يهودي! أليست الحجة عند إسلاميينا هي حرية الأديان؟ هنا نطالب بالديمقراطية وحرية الأديان. وهو حق لا مراء فيه. ونسكت عن هناك، عندنا! أليس هذا هو النفاق والكذب. ولو أنهم ينتبهون لمضمون خطابهم لأدركوا أنهم يقرون بأن أوروبا تنعم بحرية أديان، ويقرون أيضاً أن لا حرية أديان عندنا هناك في بلاد المسلمين السعيدة.
الاثنان اليميني الأوروبي والإسلامي يحتاج أحدهما للآخر. إنهما يتغذيان من بعضهما. تصوروا معي المشهد التالي: شاطئ اسكندنافي في تموز. الناس في ملابس السباحة، بلا مبالغة من ابن السنة ونصف إلى ابن أو ابنة التسعين. أُعيد: التسعين. رجالاً ونساء. ولا من يبصص أو يتلصص. هي نظرة واحدة، وخلاص. بين الجمع هذا تظهر عائلتان مسلمتان. المرأتان محجبتان. إحداهما منقبة. حتى العينان لا تظهران. البنات الصغيرات محجبات. إحداهن لا تزيد عن الثلاث سنوات. الذكور من الأولاد والرجلان نزلا الماء أولا بلباس بحر عادي. ثم نزلت المرأتان إلى الماء بكامل لباسهما دون تخفف. فما كان من الناس إلا أن أفسحوا لا إرادياً لهما كما لو انهم يبتعدون عن خطر ما. ولْنتخيل ماذا سيكون فيما بعد حديث العائلتين، وبالأخص الرجلين، عن هذه الرحلة وعن فساد وعهر المجتمع الأوروبي. وما الذي سيكونه حديث اليميني الأوروبي الذي أشرق وجهه كما لو أنه فاز في الانتخابات، حيث راح يسألنا بتلذذ نحن الشرقيين الآخرين عن رأينا فيما نراه. وببراءة وسرية راحت كاميرات الهواتف النقالة تصور مشهد الحجاب في البحر.
صحيح تماماً أن هناك صراعاً ومشاكل عويصة ومتصلة بين الغرب والعالم الإسلامي، كثيراً ما كان الغرب فيها في موقع القوي الظالم. حل هذه المشاكل لن يتم بمثل ما يجري الآن. ولا ينبغي أن يحمّل المسلم الأوروبي وزر خيانة البلد الذي يعيش فيه من أجل أحلام الإسلاموين في الخلافة والحجاب، ولا بالطبع ذوبانه النهائي في المجتمع من أجل إرضاء اليمين الأوروبي والظهور بمظهر المتأورب دون أصالة شخصية.
وبالتأكيد ما يحتاجه المسلم الأوربي هو العمل، والعلم، والتأهيل، وإيجاد حد أدنى للتفاهم في العمل والشارع والحي، أي ما يشكل القاسم المشترك بينه وبين أصحاب البلاد الأصليين. وليس أبداً الخطاب الذي لا ينتهي عن الحجاب وعن عهر الأوروبيات، وعن الشريعة وتطبيقها، وعمّن هو المسلم الصحيح…. إنه قلب للمسألة. وما يساعد على قلب المفاهيم هذا أن تحرض فضائيات عربية المواطنين المسلمين الأوروبيين على كره أوطانهم الجديدة، وعلى أن يتعلموا النفاق والكذب والغش والعنف. لأنهم بكرههم أوطانهم الجديدة هذه يقعون تحت خطأ أخلاقي وقانوني، يضطرون إلى إخفائه وإظهار عكسه، وإلا حُوسبوا. إنه تعليم وتعليب الكذب والتدليس ولا اسمَ آخر.

() طبيب وكاتب سوري مقيم في النروج
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى