أزمة سوريا والعراق: تضاربات خطرة تتراكم في منعطف متعثر
عبد الامير الركابي
الأزمة بين العراق وسوريا، تقف خلفها تضاربات خطرة، تتراكم ضمن لحظة تحول لم تكتمل ملامحها ولا عناصرها بعد: فالعراق يبدأ لحظة عسيرة وصعبة نحو استعادة آليات تشكله وانطلاقه من جديد بعد حقبة من التمزق والفوضى.
هذا الميل الذي ما يزال غير ملاحظ على نطاق واسع، لاحت عليه دلائل جدية منذ بداية العام الحالي، مع الانتخابات المحلية، وظهور المجتمع كناخب أكبر مستقل عن القوى المتحكمة بالأوضاع. في مثل هذه الحالة يتوقع أن تظل القوى الأخرى المعنية، تنظر اليه، أو تستمر في التعامل معه وفق مقاييس مستمدة من حالته السابقة المستمرة منذ 2003. وهو يرفض.
الاحتلال يتراجع، ويسعى لتدبر صيغة استعمارية مستحيلة. هنالك فارق بين حالة الاحتلال، مثل ذلك القائم في العراق الآن، وحالة الاستعمار، كما كانت عليه الحال أيام الاحتلال الانكليزي منذ بداية القرن حتى عام 1958، الا أنه يريد الخروج، أو تقليص وجوده الى أدنى حد. الآخرون لا يرون ذلك، ويصرون على التعامل مع الوضع المستجد على أنه لعبة «استعمارية». المقاومة، ويا للمفارقة انتهت. لا فعل لها منذ أشهر ضد الاحتلال الا ما ندر، وبعضها يفاوض المحتلين، والبعض أعطى تفويضات لقوى وأشخاص ثبت أنهم لم يعودوا فاعلين أبداً. رغم هذا ما يزال الكثيرون يتصرفون حتى اللحظة ، وكأن الأميركان يتساقطون يومياً بالعشرات.
ايران فقدت أو هي على وشك أن تفــقد نفوذها الذي أحرزته منذ الغزو الأميركي حتى الآن، تلقت ضربة جعلتها تترنح، الا أنها ما زالت تــحاول تقليص خسائرها، وحزب الدعــوة الذي رفض العودة لـ«الائتلاف الشيعي» التابع لها، موجود منذ عشرين يوماً قبل اعلان قائمته الخاصة «تحت الارض»، مكاتبه مستنـفرة وكوادره متخفية، وقياداته تحت أعلى درجات الاحتراز الأمني. معلوماتهم تقول: إنهم سيتعرضون لحملة اغتيالات تطال كوادرهم وقادتهم. سوى ذلك، هنالك موجة من تحضير الملفات بغرض استعمالها إعلاميا في المساجد والفضائيات التابعة لقوى الائتلاف ضد المالكي، والغرض تشويه سمعته، خاصة باعتباره قد سمح بعودة الملاهي الليلية وبيع الخمور.
كل هذا ترجم على الارض، وحقق ما هو مرجو من مقولة «اذا لم تتمكنوا من استعادتهم فاخنقوا صوتهم»، شعار جهاز المخابرات الإيراني المعتد منذ اشهر، والذي من شأنه تحويل قائمة المالكي «دولة القانون» الى هيكل بلا خطاب سياسي ولا شعارات، أي الى كتلة صماء ، وهنا يكمن نصف المعركة.
سوى ذلك، وإذا كنا نريد فتح الأبواب على مصراعيها، فلنتابع شيئاً من الظنون المتراكمة على الجبهتين/نحن بصدد التركيز فقط على سوريا بمقابل العراق/مثلا هنالك من يرى، أو قد سمع بأن سوريا مأخوذه منذ بداية هذا العام، بمشروع «العراق مقابل الجولان» السعودي. ومن وقتها تجسد مثل هذا التطور عملياً، وبالفعل تحسنت العلاقة بين سوريا والسعودية وصولاً حتى الى أميركا، وهذه الأخيرة أرسلت وفداً عسكرياً الى دمشق للبحث في الشأن العراقي. يقال إن المطلوب منها تأمين علاقة/سنية ـ اميركية/مباشرة بالتعاون مع تركيا. فإما أن يقبل من يحكمون في العراق، إدخال البعثيين وبعض المقاومة والعشائر السنية في النسيج الحاكم، أو تتكرس ثنائية في العلاقة الأميركية بالأطراف العراقية، تؤدي الى انتهاء مرحلة الصلة الحصرية بالشيعة.
هذا مبرر جيد لاتهام ســوريا بأنها وراء إفقاد المالكي منجزه الامني، الأمر الذي جــرى العــمل عليه خلال الأشــهر الماضـية منذ الانتــخابات المحلية حتى انفجارات بغداد الدامية. لكن المشهد أكثر تعقيداً. فالأميركيون يتحسسون معركة بين المالكي وإيران منافستهم و«عدوهم»، ومن الصعب تصور قوة أفضل من طرف شيـعي حاكم يواجه ايران.
والحكمة تقول إنك في العراق لا تستطيع محاربة إيران بالسنة، ذلك يعني ببساطة فناءهم. اذن وضع الاميركيين مرتبك للغاية وخططهم التي يحب البعض ان يحولها الى حقائق، تكاد تكون مجرد «إرضاء» لا يرقى لمستوى الالتزام. من جهتها سوريا تحرص على تجميع الاوراق التي أخذت تطرق بابها مؤخراً، مع أنها لا تحصل عليها كاملة. وما يحــيط بـها وما تطمح اليه، يغذي خصلة بعثية أصيلة تجعل الكأس نصف الممتلئ يطفح بالماء، وهذا ما يواضب على فعله البعثيون العراقيون بالذات منذ فترة، بينما هم يروجون بوسائل محكمة، خبر عودتهم الوشيكة للحكم في العراق، لدرجة أن جريدة رصينة مثل «الشروق» المصرية، وقعت في الفخ ونشرت تأكيدات من هذا القبيل، أساسها مجرد تمنيات فارغة، ومحاولات حضور، وإيحاء لأطراف وقوى معنية.
المراهنة على اجتذاب سوريا بعيداً عن إيران أصبحت الآن معقدة، ولا يمكن تبين مداخلها، اذا كانت هنالك معركة حقيقية تخاض ضد نفوذ إيران، فالأميركيون لهم مصلحة في تقديم الدعم لموقف المالكي لا التخلي عنه أو إزعاجه. لكن آذانهم لا يمكن أن تظل صماء حين يتعالى الصوت السعودي، وهذا يتداخل مع سوريا بحساسية، كأنه يطرح مشروعاً كتب على ورق رقيق شفاف من الصعب قراءته بوضوح ومن السهل رؤيته وهو يتمزق تحت أي عارض.
ليس بالأمر البعيد عن المركزية الحاسمة أن يقرر شيعة بموقع هام في العراق اليوم مواجـهة إيران. هل هم اذا فعلوا ذلك وعزموا علــيه سيحــصلون على الدعم الســني اللازم؟ أم أن هذه ستكـون أخــطر الاختبارات، ويصير هؤلاء أمام امتحان وسؤال صعب: /وطنية أو طائفية سنية /في وقت يشهد العراق انعطافة شعبية نحو الثوابت الوطنية، ومع الأسئلة السابقة تضاف أسئـلة أخرى: هل ما يحكى عن مستوى العداء لنفوذ إيران سنـياً ادّعاء أم موقف إيمان فعلي؟
المشكلة مركبة، فالاعتــراف بوجــود معركة شيعية ضد النفوذ الإيراني قد تفضي الى تكريس ملامح مشــروع وطـني عراقي، أي أن يتكرس نفـوذ الشيعة في دولة مســتقرة تتمـتع بالشرعية، ولا يمكن من هنا وصاعداً تبرير رفع السلاح بوجهها. هذا ما كان أحد محفزات هجوم المالكي على سوريا، وهو يحاول الهرب من ثقل التصادم المباشر مع إيران فيربكها وقد ضغط فجأة على زناد مدفعيته العنيفة شرقاً.
الأميركيون لا يجدون في الصدام بين المالكي والإيرانيين مصدر راحة، فماذا مثــلاً لو حـدث انعطاف وطني سني شيعي ووقــع المحظور، أي عادت اللحمة بين المكونين. وماذا سيكون الهدف التالي: الاحتلال طبعاً. هنالك ثنائية وثابــته وطنية تتلاقى مع انبعاث الوطنية العـراقية اليوم. لا يمكن أن تحارب إيران من دون أن تكون على وشك مواجهة الاحتلال وطرده. وضع الاميريكــيين سيئ للغاية وأكثر مـما نتــصور، لكن علــينا أن لا ننسى كل سيرة غزوهم للعراق، باعتباره نموذجاً للســيرة الاحتلالية الخرقاء. كل ما فعلوه كان خراقة صافية، وما يحاولونه الآن من رجاء الإبقاء على «تحالف استراتيجي» سيكون خراقتهم الأخيرة. النقطتان الهامتان اللتان يمكن ذكرهما والتعــويل علــيهما من قبل المحتلين والإيرانيــين والقوى الإقليمية الاخرى هما: عدم تبلور أو تماثــل مشــروع المالكي مع الضرورة الوطنــية، مع غـياب التمـثيل السياسي والفكري المطابق للعراق الصاعد من سيرورة الفناء بعد فترة الغزو والاحتلال وانهيار الدولة الحديثة، وهو ما عاشته البلاد بين 2003/2008.
المالكي تقف وراءه تداخلات وصراعات بين أطراف وقوى، منها التيار الصدري وتيار آل الحكيم، ومحركات تحتم الخروج من دائرة الاحتلال ومشروعه. التيار الصدري عجز عن التناغم معها من خارج «العملية السياسية» كما من داخلها. و«الدعوة» والتيار الصدري من منبت واحد، وأصولهما ترجع معاً الى محمد باقر الصدر، بما يمثله من محاولة تجديد ثانية في تاريخ المرجعية والمشروع الشيعي العراقي . بينما يمثل آل الحكيم اتجاهاً شيعياً مغرقاً في التقليدية، ويفــتقر لأية جذور شعبيه أو مبررات واقعية صلبه، وهو تيار مرتبــط بإيـران كلياً، بينما الدعوة والصــدريون تشـكلوا على أسس وقاعدة ضاربة الجذور في الوطنية العــراقية وتطورها الحديث. ومع سوء حالة التيار الصدري، ووقوعه تـحت قيادة «مقتــدى الصدر»، وهو واحد من اسوأ القادة السياسيين او الدينيين الذين يمكــن تصــورهم، فقــد مال حزب الدعوة الى انتهاز فرصة وجوده في رأس القرار السياسي عبر رئاسـة الوزارة، كي يكــرس تنــاغماً مع تبلورات وطنـية كانت قد بدأت تـلوح بقــوة في الواقع وبين الرأي العــام العراقــي، فتبنى لفظياً منذ عام 2008 شعارات مناهضة للطائفية وللمحاصصة والفيدراليات التقسيمية، ومع تعديل الدستور، وتقليص مطامح القادة الأكراد، وإقامة دولة مركزية.
وليـس لدى المالكـي العدة والوســائل والكــوادر أو الحركة الجديرة بقيادة انقلاب ضخم كالذي ينتظره العراقيون والــعراق. هذا ناهيك عنه شخصياً وعن مستوى وعيه هو بالذات. ولا يمكن التقليل من أثر العوامل الموضوعيــة، وتشابك المصالح والصراعات، واحتمالات دفعها المالكي خطوات أبعد، الا ان حدود ذلك ستــظل أقـل بكثير مما هو مطلوب. من الناحيــة الأخــرى تبدو التبلورات على المستوى الشعبي الخام والذاتي، خارج فعل القـوى والمليشــيات المتنــفذة، قادرة على التجــلي سيــاسياً أحــياناً بتأييد هذا الطرف أو ذاك، وقد تحول المجــتمع بذاته الى ناخب أكبر، وهو يجـد في المالكي تعــبيراً يستحق التثبيت والدعم بحدود، بانتظار أن تتــبلور رؤية عراقية وطنــيه تطابــق عبور العــراق الى المرحلة الثالثة من تشـكله الوطنــي الــحديث، بعد مرحــلتين مرتا وانتهتا، وذلك مـسار آخر قد يطـول ويأخذ أبعاداً ليست عراقية وحسب، بل إقليميه وعربية وعالمية.
نعلم أن الدول لا تبني سياساتها ومشاريعها، أو تعاملاتها وفقاً لتــقديرات خــبراء، أو أصحاب رأي أو أفكار. وسوريا لن تجازف وتبدأ بتغــيير رؤيتها بناء على ما يعرض هنا، مع انها ستجد نفسها معنية بأن تلتفت لحضور عنـصر مستــجد موضوعياً يعمل خارج ارادة الجميع، لتبدأ بمراقبته من باب الحرص ولأجل التثــبت من دقته وصوابه أو لا. وفي هذا السـياق يفــترض أن يعــاد وزن مشاريع ومقاربات أخرى من قبـيل مشروع «المصالحة والتحرير» وما يترتب عليه من توجهات تخـص المعارضـة العراقــية والمقــاومة، وغيرها من الظواهر، التي هي اليوم في حالة أزمة، مع أنها ما تزال تمثل بالنــسبة لسوريا، مصـدراً وحيداً وأحادياً في تقدير الوضع في العـراق، وهنا أيضاً علينا أن نهتم بضرورة من ضــرورات انتقال لم تلحظ جيداً بعد، فالمعارضة العـراقية وقوى مناهضة الاحتلال، بالصيغة المعروفة حتى الآن انتهت ولم تعد صالحة هيكلياً وسياسياً للحياة، وهي تعاني أزمة مستعصية تقرب بها من الموت اذا لم تغير هي الأخرى نظرتها وتركيبها وأولوياتها وفقاً للمستجدات.