إيران وتركيا: نظريّتان
حازم صاغيّة
ليس من المبالغة صوغ السياسات الجديدة لتركيا على النحو التالي: الحفاظ على التعاون الأطلسيّ الوثيق مع الولايات المتّحدة والقوى الغربيّة، وفي الآن ذاته إنشاء قدر من المسافة مع إسرائيل. وهذا النهج، إن قُيّض له النجاح، يتكفّل تبديد تلك النظريّة الخطيّة والأحاديّة عن التحالف العضويّ الذي يجمع من يصادق الغرب ومن يصادق إسرائيل لأنّ الطرفين يملكان “موضوعيّاً” المصالح إيّاها.
كائناً ما كان الحال، فإن أتراك “حزب العدالة والتنمية” يستعيرون، بخطّهم السياسيّ هذا، تلك النظريّة العربيّة التقليديّة التي شاعت بين أواخر الأربعينات وأواسط الخمسينات، وارتبطت بوجوه كالملك الأردنيّ عبد الله الأوّل وخصوصاً برئيس حكومة العراق نوري السعيد وغيرهما. فهؤلاء كانوا، بلغة المطالب، يحاولون الجمع بين ما يُعطى للغرب وما يؤخذ من إسرائيل، كما يجهدون لتحويل التحالف مع الأوّل إلى مادّة يُضغَط بها على الثانية. وقد لا يكون صدفة محضة أن عدنان مندريس، السياسيّ التركيّ الذي حالف نوري السعيد وأقرانه حتّى إعدامه، كان الأب المؤسّس لما بات يُعرف لاحقاً بحالة الإسلام السياسيّ في تركيا.
بيد أنّ ما أحبط الجهد الذي رعاه المحافظون العرب عهد ذاك جسّدته الناصريّة التي نقلت الصراع، مع الغرب قبل إسرائيل، إلى مصاف متقدّم وانفجاريّ. هكذا صعد الهياج الجماهيريّ مؤازراً زعيم مصر و”مؤمّم القناة”، ومحاصراً التوجّه السياسيّ والعقلانيّ الذي كان يُينى لبنة لبنة. وواضحٌ أن الزعيم المصريّ كان في وسعه، لو شاء، أن يستأنف المعادلة إيّاها، مستفيداً من دعم الولايات المتّحدة له في حرب “العدوان الثلاثيّ”. إلاّ أنّه شاء عكس ذلك. فهو، قبل 1956، جمع بين استراتيجيّتين متضاربتين، واحدة تريد الحصول على التمويل الغربيّ لبناء السدّ العالي، والأخرى تتّجه إلى الاعتراف بالصين الشعبيّة في عزّ الحرب الباردة، فضلاً عن عقد صفقات سلاح مع بلدان المعسكر الشرقيّ. أمّا بعد 1956، فكلّف نفسه مهمّة مطاردة النفوذ الغربيّ، الأميركيّ قبل البريطانيّ، في الشرق الأوسط. فعندما ظهر “مبدأ أيزنهاور” في 1957، بدا كأنّ “المبدأ” يستهدف القاهرة الناصريّة بقدر ما تستهدفه هي.
واليوم، يتراءى كأنّما الجهد الذي سبق أن استثمره عبد الناصر في اصطدامه بـ”الرجعيّة العربيّة”، يتكرّر مع الجهد الإيرانيّ في اصطدامه المحتمل، أو تعثيره الممكن، للجهد التركيّ. فإذا ذهبت طهران بعيداً في راديكاليّتها، وتبدّد الانفراج الجزئيّ الأخير في خصوص الملفّ النوويّ، غدا من الصعب على الأتراك أن يمضوا في سبيلهم، لا تقدّم في ذلك ولا تؤخّر ضخامة المصالح التي تربطهم بإيران.
والحال أن وفادة إيران إلى الصراع العربيّ – الإسرائيليّ إنّما حصلت أصلاً بعد ضمور الصراع المذكور، لا سيّما وقد خرجت منه مصر الساداتيّة، ما جعل طهران تسعى إلى إعادة تأجيجه متوسّلةً ذلك قاطرةً إلى نفوذها. وهذا ما يخالف جذريّاً المنطق التركيّ الذي تسوقه المصالح، بما فيها المصالح مع إيران، نحو سياسات متوازنة، سياساتٍ لا يسعها أن تتعايش طويلاً مع نزعات التفجير النجاديّة المحتقنة.
الحياة