الدوبلاج السوري للسياسة التركية
ياسر عبد العزيز
قبل نحو عقد من الزمان، كانت تركيا على وشك شن حرب ضد سورية، لكن أموراً عديدة جرت؛ فتم حل أعقد المشكلات بين البلدين، وتم إرجاء بعضها، حتى وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في أنقرة، في وقت كانت دمشق فيه في أمس الحاجة إلى تعزيز عمقها الإقليمي، فتلاقت المصلحتان، وأنجز البلدان فصلاً فريداً من التعاون والتنسيق السياسي.
وفي يناير من العام الجاري، هب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، خلال مشاركته في منتدى دافوس، مهاجماً الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، بسبب استخدام الدولة العبرية المفرط للقوة في حربها الأخيرة على غزة، لتتوتر العلاقات الوثيقة بين الحليفين الاستراتيجيين، ويلقى أردوغان استقبال الأبطال في بلاده، وتشعر سورية، ومعها فصيل ‘الممانعة العربية’ بارتياح عميق.
وما إن حل الربيع من العام نفسه، حتى أجرت دمشق وأنقرة أول مناورات عسكرية برية مشتركة من نوعها، قبل أن ينعقد الاجتماع الأول لـ’مجلس التعاون الاستراتيجي’ التركي-السوري في الشهر الجاري، حيث احتفل عشرون وزيراً من الجانبين باتفاق لإلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين، ضمن جملة من الاتفاقيات الأخرى المحفزة للتعاون في شتى المجالات.
لا شك أن سورية كانت في غاية الارتياح بسبب تلك التطورات الإيجابية والمهمة مع الجار التركي، خصوصا أنها كانت حسمت أمرها وقررت في نهاية عهد الرئيس حافظ الأسد عدم فتح جبهة مناوئة في الشمال، ومحاولة رأب الصدوع في علاقاتها بأنقرة، وتفويت الفرص على تأجيج الخلافات العميقة بين الجانبين، سواء تلك المتعلقة بالتمرد الكردي أو بمشكلات المياه أو لواء الإسكندرون.
لكن الرياح أتت لسورية بأكثر مما اشتهت سفنها؛ فقد علقت أنقرة مشاركة إسرائيل في مناورات ‘نسر الأناضول’ المتعددة الجنسيات التي كانت مقررة هذا الشهر؛ وهي مناورات جوية غاية في الأهمية تشارك فيها الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول ‘الناتو’.
لطالما شعرت سورية بقلق كبير تجاه المناورات التي أجرتها تركيا مع إسرائيل، خصوصاً في الأوقات التي كانت تشهد توتراً في الأجواء الإقليمية؛ وقد جاء قرار أنقرة تعليق المشاركة الإسرائيلية في تلك المناورات في الوقت المناسب، خصوصاً أن واشنطن تجري مناورات مع الدولة العبرية على نطاق واسع يدعو إلى القلق خلال الشهر الجاري.
شعرت إسرائيل باستياء كبير من جراء تعليق مشاركتها في ‘نسر الأناضول’، كما انتقدت واشنطن ذلك الإجراء التركي، وتم إرجاء المناورات، لكن أنقرة لم تعتبر قرارها بمنزلة انقلاب على تعاونها الممتد مع الدولة العبرية، وفي الوقت نفسه وضعت القرار ضمن الإطار الذي أنتجته الحرب الإسرائيلية على غزة في ديسمبر ويناير الماضيين.
بالنسبة إلى سورية، ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ فعلاقاتها العربية تتراجع خصوصاً مع مصر، ومحاولة استعادة الدفء إلى علاقاتها بالرياض مازالت في طورها الأول من دون تيقن من النتائج، وإيران تغلي من الداخل وتواجه مجهولاً، وأوراقها في لبنان وفلسطين تواجه المزيد من الضغوط؛ لذلك فإن التقارب مع تركيا بمنزلة تعويض مناسب عن التراجعات الأخرى.
على مدى عام ونيف، أخذت الدراما السورية على عاتقها محاولة تعريف الجمهور العربي بالدراما التركية؛ فقامت الاستديوهات والمنتجون والممثلون والفنيون السوريون بعملية ‘دبلجة’ عدد من المسلسلات التركية، وبيعها لعدد من الفضائيات العربية.
كان المنتج النهائي (دراما تركية بدوبلاج سوري) ناجحاً ومطلوباً في معظم الأسواق العربية، وبسبب تلك المسلسلات زادت السياحة العربية إلى تركيا، وأطلق العرب أسماء النجوم الأتراك على أبنائهم وبناتهم، وذاعت النغمات الموسيقية التركية، وأطلقت قناة متخصصة في عرض هذا النوع من الدراما، وطُلقت زوجات بسبب افتتانهن بأبطال المسلسلات التركية، وصار ‘مهند’ (شخصية درامية في أحد المسلسلات) أكثر شهرة ورواجاً من أردوغان لدى الجمهور العربي.
كانت الدراما المكسيكية لاقت نجاحاً ورواجاً مشابهاً قبل نحو عقد من الزمان، لكن الاهتمام بها تضاءل حتى اختفى، رغم أن ‘دوبلاجها’ كان بالعربية الفصحى. واليوم ليس معروفاً بشكل قاطع ما إذا كان الاهتمام بالدراما التركية المدبلجة سورياً سيلقى المصير نفسه أم لا.
لكن تركيا قررت فجأة الاهتمام بالتوجه للتأثير في عقول العرب وقلوبهم، عبر إطلاق مجلة ‘حراء’ باللغة العربية، وإطلاق قناة تلفزيونية تابعة للمحطة الحكومية ‘تي أر تي’ باللغة العربية أيضاً، حيث ستهتم المجلة والقناة بـ’عرض البانوراما التركية على المشاهد العربي’، وإجراء حوارات مع مثقفين أتراك وعرب، وتنظيم لقاءات بينهم، لإحداث مزيد من التقارب والألفة بين الجانبين.
وحتى هذه اللحظة، فقد برهنت تركيا، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، على قدرتها على التزام خط أكثر عدالة ونزاهة تجاه المشكلة الفلسطينية، حتى إن كلفها هذا إلحاق الضرر بعلاقاتها الاستراتيجية بحليفتها الإقليمية الوثيقة إسرائيل.
إن السياسة التركية الجديدة تجاه المنطقة إيجابية وأكثر نزاهة وعدلاً تجاه قضايا العرب الرئيسة، لكن مشكلتها تكمن في أنها دخلت فقط من الباب السوري وعبر ‘الدوبلاج’ السوري، وحتى تصبح تلك السياسة أكثر اندماجاً مع المحيط العربي وتلبية لطموحاته؛ فإنها تحتاج دوبلاجاً خليجياً يركز أحياناً على القلق من نووي إيران، ودوبلاجاً مصرياً يريد حلاً عاجلاً لمشكلة الانقسام الفلسطيني، ودوبلاجاً لبنانياً يريد أن يشكل حكومة لا ترتهن للمجهول.
* كاتب مصري
الجريدة