الـ’سوبر ـ أطرش’
صبحي حديدي
ثمة حكايات تُروى وتُروى لأنها تظلّ ذات صلة بما يستجدّ أو يتواصل في الحياة اليومية للبشر، ولأننا نَلَذّ لها، كما كان شيخنا عبد القاهر الجرجاني يقول. هذه واحدة من تلك الحكايات، التي يلذّ لي شخصياً أن أستعيدها كلما رنّ ناقوس في مسألة حبال الرحم التي تربط الدولة العبرية بالولايات المتحدة، وكلما اجتهد نطاسي لإقناعنا (وربما إقناع نفسه معنا ضمناً، أو حتى قبلنا) بأنّ هذه العلاقة تقوم على مزيج أوحد من ركائز ‘العقلانية الباردة’ و’السياسة الذرائعية’.
في مطلع القرن الماضي انتُخب الجمهوري ثيودور روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، على خلفية شعار كبير جذاب يقول بمحاربة مجموعات الضغط أيّاً كانت طبيعة نشاطاتها: إقتصادية، سياسية، إثنية، أو دينية. وحين أعلن روزفلت تعيين اليهودي أوسكار شتراوس وزيراً للتجارة والعمل، سارع الصيرفي جيكوب شيف (عميد يهود أمريكا آنذاك) إلى إقامة مأدبة عامرة احتفالاً بالمناسبة، كان روزفلت ضيف الشرف فيها. ولقد ألقى الأخير كلمة تقصّد أن تحتوي على فقرة تشير إلى أنه لم يعيّن شتراوس في المنصب ذاك لأيّ اعتبار آخر، سوى أنه كان الرجل المناسب في المكان المناسب: ‘لم أعيّنه لأنه يهودي. ولسوف أحتقر نفسي لو وضعت بعين الإعتبار مسائل العرق أو الدين عند اختيار رجل لمنصب رفيع. الجدارة، والجدارة وحدها أمْلَت هذا التعيين’.
الفضيحة وقعت حين لم يفطن أحد إلى ضرورة إعلام شيف (الأطرش!) بما قاله الرئيس لتوّه، فنهض الرجل بدوره وألقى كلمة بدأها بالجملة التالية: ‘لقد استدعاني السيد الرئيس قبل تشكيل حكومته، وأعلمني برغبته في تعيين يهودي في الحكومة، وطلب منّي أن أسمّي الرجل الذي يُجمع اليهود على اختياره. ولقد أعطيته اسم أوسكار، فعيّنه، ولم يخيّب الرئيس آمالنا’! وتقول بقية الحكاية إنّ الحضور صفّقوا بعصبية وارتباك، وأمّا الرئيس الـ 26 للولايات المتحدة الأمريكية فقد امتقع وجهه، وحملق في الفراغ.
اليوم، مع تصويت الولايات المتحدة ضدّ تقرير القاضي ريشارد غولدستون حول انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في غزّة، لا يعود بنا الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما إلى عهد روزفلت فحسب، بل يذكّرنا بأنّ أي عهد لم يختلف عن سواه في ما يخصّ حبال الرحم الأمرو ـ إسرائيلية تلك. كذلك نتزوّد من أخلص رجال الرئيس، وعلى رأسهم بنت جلدته سوزان رايس، مندوبة الولايات المتحدة الدائمة في مجلس الأمن الدولي، ببرهان جديد على أنّ ما سعى أوباما إلى بنائه في تركيا ومصر، أخذ يتداعى ويتهدّم حتى قبل أن ترتفع أعمدته، بمعول يحمله البنّاء نفسه.
وبالطبع، لا نخال أنّ ساذجاً واحداً على هذه البسيطة يمكن أن ينتظر من مندوب الولايات المتحدة إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان الإمتناع عن التصويت، أو حتى الفرار منه، كما فعل فرسان بريطانيا (أحفاد الـ Magna Carta أو ‘الميثاق الأعظم’ لضمان الحقوق الأساسية)، وفرنسا (بلد ‘إعلان حقوق الإنسان والمواطن’، ومهد فلسفة الأنوار). بيد أنّ البيت الأبيض كان قادراً على ‘إدارة’ الملفّ على نحو يُبلغ رسالة من نوع ما إلى حكومة بنيامين نتنياهو، لطيفة مهذبة ودّية صداقية… على مألوف التراسل الأمرو ـ إسرائيلي، تلجأ إلى مناورة ـ مخففة، محدودة، تكتيكية محضة، هنا أيضاً ـ لإنقاذ ماء وجه الإدارة إزاء الإمتناع الإسرائيلي عن تجميد المستوطنات، والإقبال على تجميد أشغال المبعوث الأمريكي جورج ميتشل. ألا يجوز لممارسة كهذه أن تندرج، بدورها، في سياق ‘العقلانية الباردة’، و’السياسة الذرائعية’؟
لسنا، ولعلّنا لم نكن في أيّ يوم، بحاجة إلى رجل أطرش مثل جيكوب شيف لكي تفوح روائح الفضيحة من ذلك الخطاب الأمريكي الرسمي، الذي يقتفي مفردات الخطاب الإسرائيلي الرسمي، وغير الرسمي، في تأثيم القاضي غولدستون، وكأنه ليس المشرّع الدولي المعروف الذي يحظى باحترام بالغ في أوساط حقوق الإنسان العالمية، والعضو المستقلّ النزيه في لجنة بول فولكر للتحقيق في برنامج ‘النفط من أجل الغذاء’، والقاضي المخضرم في محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة… أو كأنه، وهنا المغزى الخاصّ، ليس الشخصية اليهودية البارزة، رئيس جمعية ‘أصدقاء الجامعة العبرية’، والرئيس الفخري لجمعية الـ ORT، التي يعود تأسيسها إلى سنة 1880، في قطاع أنظمة التعليم اليهودية!
وذات يوم اعتبر المعلّق البريطاني روبرت فيسك أنّ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حُوّل، بعد توقيع اتفاقات أوسلو، من ‘سوبر ـ إرهابي’ إلى ‘سوبر ـ رجل دولة’، دون إسقاط حقّ إسرائيل والولايات المتحدة في ردّه من جديد إلى الـ’سوبر ـ إرهابي’. ولقد حصل هذا، سريعاً أيضاً، مع فارق أنّ الفلسطيني المطلق، وليس عرفات وحده، هو الذي حُوّل مجدداً إلى ‘سوبر ـ إرهابي’: ليس في غزّة ورام الله والبيرة ونابلس والخليل، أو في الناصرة وأمّ الفحم ويافا وحدها، فحسب؛ بل في الأردن وسورية ولبنان ومصر، في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، هنا وهناك، أينما حلّ الفلسطيني وارتحل على امتداد هذا العالم الشاسع الواسع.
في المقابل، ثمة دائماً ذلك اليهودي الطيّب، المحاصَر من جيرانه، المهدَّد في بيته وكنيسه ومستوطنته، الراغب في السلام، الباحث عن الوئام، الكسير والتراجيدي والشاعري، الـ… ‘سوبر ـ أطرش’، غنيّ عن القول!
خاص – صفحات سورية –