حول توازنات القوى في الشرق الأوسط (*)
الدكتور عبدالله تركماني
منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها لم تكن منطقة الشرق الأوسط متأججة فيها حمَّى الجغرافيا السياسية مثلما هي عليه الآن، فالمشهد السياسي لم يعد مقتصراً على قضية الصراع العربي – الإسرائيلي فقط، وإنما طفت على السطح مسائل أخرى ذات أهمية: ” المسألة اللبنانية ” و ” المسألة العراقية ” و ” المسألة الإيرانية ” و ” المسألة اليمنية ” و ” المسألة السودانية “. ولم يعد الأمر يقتصر على ذلك، فالكلام مشْرَعٌ على ” مسألة سنية ” و ” مسألة شيعية “.
وإذا كان مصطلح التوازن ينطوي على تقييم حالة القوى وعناصرها المكونة لها في منطقة معينة، فإنّ هذا التقييم يختلف في حالة الحرب عنه في حالة السلام، فمَن يمتلك خيارا الحرب والسلام معاً هو الذي يلعب الدور الأول في أية توازنات. إذ يبدو أنّ الموارد البشرية الكفؤة والتطور الاقتصادي هما العاملان الأساسيان في موازين القوى والتوازنات الاستراتيجية، أما العامل العسكري، خاصة القوى التقليدية، فقد تضاءل دوره – نسبيا – في هذه الموازين وفي العلاقات الدولية عامة، فالأمن لم يعد يدار بالقوة العسكرية المجردة فقط، وإنما – أساساً – بالقوة الاقتصادية. وكثير من العلاقات بين الدول والأقاليم لم يعد يضمنها غير النفوذ الاقتصادي والمالي الذي عوّض، أو كاد أن يعوّض، النفوذ العسكري. وعليه، فإنّ الوضع الجيو- استراتيجي لدولة أو لمنطقة إقليمية معينة، يعني التفاعل بين مقوماتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وتأثير ذلك في سياستها الخارجية، ثم تأثيره على علاقاتها مع المناطق المجاورة لها.
ويبدو أنّ سمات أنموذج الأمن القومي الجديد بدأ يتشكل انطلاقاً من قاعدة مفادها: إنّ مصدر الخطر الأكبر على الأمن القومي لن يأتي من الدول التي قد تمتلك أسلحة الدمار الشامل فحسب, ولكن من الفجوة الكبرى والعميقة بين الدول التي دخلت بعمق إلى عالم العولمة بكل تجلياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وتلك الدول التي بقيت على هامش هذا العالم. وتتعدد أسباب عدم دخول هذه الدول – حتى الآن – دائرة العولمة، فقد تكون دولاً فاشلة سيطرت عليها نخب سياسية حاكمة استبدادية فشلت في اتخاذ الديمقراطية كنظام سياسي مع أنها أصبحت هي روح القرن الحادي والعشرين, أو خاب تخطيطها الاقتصادي نتيجة جمودها واعتمادها على اقتصاد الأوامر, وعلى أهل الولاء، وإبعادها أهل الكفاءة عن إدارة مواردها الاقتصادية والبشرية.
كما تتوقف مكانة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط على وعي مراكز الثقل الإقليمية بالتحولات الاستراتيجية التي بدأت بالتشكل منذ سقوط جدار برلين في العام 1989، وعلى سعيها لتعزيز مصالحها بالشراكات الإقليمية، والأهم من هذا وذاك التوظيف العقلاني المجدي لمواردها الاقتصادية والبشرية ولموقعها الجغرا – سياسي. والمهم هو الإرادة والتصميم والهدف الواضح، والرؤية الثاقبة والتوظيف الأمثل لعوامل القوة المتاحة، فعلى درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة، وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموماً والشعوب المحيطة بها بشكل خاص، تتوقف فرصتها في الحصول على موقع في هذه الشراكة. وبقدر ما يكون للدولة من مشاركة إيجابية في بناء إطار فعّال وناجع للتعاون الإقليمي، وبالتالي بقدر ما تساهم في تحسين فرص التنمية عند المجتمعات المحيطة بها وليس فقط داخل حدودها، كما هو حال الدور التركي في الشرق الأوسط، تحظى بقدر أكبر من المصداقية، وتزداد فرص حصولها على الشرعية العالمية.
وفي الواقع، لم يعد مفهوم القوة لدى الدول في عالمنا المعاصر، على ما بات يحيط به من مداخلات وتعقيدات وتحولات، يقتصر على مقدار ما تتمتع به دولة ما من مقدرات تتعلق بمساحتها وعدد سكانها وقوتها العسكرية ومواردها الاقتصادية، فقد بات الأمر أعقد من ذلك بكثير.
هكذا فإنّ عدد السكان الكبير يمكن أن يتحول إلى عبء، نتيجة التحول من الاقتصاد الزراعي والصناعي إلى الاقتصاد ما بعد الصناعي، وبالنظر إلى أنّ أكلاف النمو السكاني تفوق معدلات النمو الاقتصادي. وكذا الأمر بالنسبة لمساحة الدولة، حيث أنّ هذه المسألة لم تعد ميزة اقتصادية أو أمنية، خصوصاً بعد أن كثفت أو قلّصت وسائل الاتصال الحديثة المساحات والمسافات، وبعد أن باتت كثير من الدول تعجز أو تنسحب من مجال تقديم الخدمات الأساسية لسكانها.
أما القوة العسكرية فهي إن لم تكن متوازنة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تتحول إلى كارثة، فإذا لم تقترن الموارد الاقتصادية بإدارة رشيدة، وقدرات تكنولوجية، وبنية مؤسساتية، فلن يكون لها تأثير فعّال على مجتمعاتها، ولا تطوير إمكانات الدولة المعنية.
وهكذا، يمكن الاستنتاج بأنّ ثمة تضاؤلاً في قيمة عناصر القوة التقليدية، المتمثلة بمساحة الدولة وعدد سكانها وقدرتها العسكرية ومواردها الاقتصادية، في مجال قياس قوة الدول وتحديد مكانتها النسبية في موازين القوى في حقل العلاقات والصراعات الدولية، في مقابل التزايد في قيمة عناصر القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعلمية والإدارية.
تونس في 20/10/2009 الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
خاص – صفحات سورية –