البلاد العربية وسد الثقوب السوداء!
ميشيل كيلو
يوجد، في كل بلد عربي، ثقوب سوداء تبتلع جهود الشعب وعافيته، وتقوض وظائف الدولة، على ما بين الشعب والدولة من تباين في الدور والموقع، ورغم أن هذه الثقوب السوداء من صنع الحكومات، بدرجة أساسية.
– أول هذه الثقوب السوداء هو الفساد. إنه لا يلتهم فقط عوائد التنمية، إن وجدت، ولا ينتزع اللقمة من أفواه معظم المواطنين، إن حصلوا عليها، بل يقوض كذلك ما قد يبذل من جهود للخروج من التخلف، ويغرق العرب في تأخر يتفاقم دون هوادة، فيجدون أنفسهم في وضع من يركض إلى الخلف ووجه إلى الأمام، فهو يتراجع رغم جهوده، التي تزيده عنتا وإرهاقا. الفساد داء وبيل أصاب بلداننا، فأحبط سعيها إلى الخروج من تأخر مزمن، وردها إلى حال أسوأ من تلك التي حاولت التخلص منها. هذا الداء قسم الأمة إلى أمتين: أمة التخمة وأمة الجوع، أمة الثروة وأمة الحرمان، ولغم بتعاظمه مجتمعاتنا بمشكلات مستعصية غدت مادة متفجرة تهدد وجود بلداننا. وكان متمرد كبير هو ‘ماو تسي تونغ’ قد قال: لم أثر إلا من أجل على الفساد، الذي يقتل الأمة الصينية ويحكم عليها بالموت السياسي، ولم أقاتل في سبيل نظام شيوعي إلا لاعتقادي أنه أكثر قدرة من غيره على تخليص الصين من الفساد. كان تعداد الأمة الصينية آنذاك خمسمئة مليون إنسان، مع ذلك خشي ماو أن يقضي عليها الفساد. أليس وضعنا شبيها بوضع الصين قبل ثورتها؟. ألا يقضي الفساد علينا ويقوض مجتمعاتنا وينهك دولنا ويجعل كل شيء عندنا قابلا للبيع والشراء: من الذمم والضمائر إلى أرض الوطن؟. وهل هناك حاجة إلى سرد أمثلة عن فساد دمر الذمم فباعت أوطانها، يوجد منها العشرات والمئات في كل بلد عربي؟. وهل ينكر أحد أن كل شيء عندنا صار معروضا للبيع والشراء، وان الفساد قتل القيم والكرامات وأواصر العيش الجميل والعلاقات الإنسانية النبيلة؟. ذات مرة سأل راكب سائق سيارة على الحدود بين بلدين عربيين: إذا كنت مررت بعشرة دولارات كل هذه المهربات، فماذا تستطيع أن تمرر بألف دولار؟. جواب السائق : لواء إسرائيلي مدرع براياته وأعلامه. هذا الجواب قد لا يكون صحيحا بالضرورة، لكنه يعطي فكرة عن رأي المواطن في فساد استشرى في كل مكان وخرب كل شيء تقريبا، وخاصة النفوس، التي لا يبقى بعد خرابها صلاح لشيء، فالنفوس أساس أي تقدم وأية نهضة ومقاومة ووجود. واليوم، ماذا نفعل وقد بلغنا نقطة فاصلة علينا أن نختار فيها، بكل بساطة، بين الفساد والتنمية، وبين قلة من لصوص أثرياء وبين الوطن ؟.هل نختار الفساد، فنواصل تدمير أنفسنا، أم ندير ظهرنا له بصدق ونختار التنمية، والحياة والوطن؟.
ثمة ثقب أسود ثان ولد الفساد وعممه، في السياسة وفي سواها من مناحي حياتنا. إنه السلطة الفردية، التي لم تترك وسيلة إلا ولجأت إليها كي تضعف المجتمع وتصادر حقوق المواطن، بدل أن تقوي نفسها بتقويته، وتوسع مكانتها عبر صيانة وتوسيع حقوقه. بعد قرابة أربعين عام من حكم الفرد، صار من الصعب الدفاع عنه وعن ‘إنجازاته’، فليس له من إنجازات غير تلك التي تظهر واضحة في كل ما يعرفه الوطن العربي من ويلات وبلايا. ليس لحكم الفرد إنجازات، إلا إذا اعتبرنا فشل التنمية إنجازا، والعجز طيلة نيف وأربعين عاما عن استرداد أرض العرب المحتلة في فلسطين وسورية ولبنان إنجازا، والخلافات العربية المستعصية إنجازا، وتمزيق الداخل القومي والوطني إنجازا. إن من يراقب حالنا سيجدنا محكومين بواقع ثلاثي المصائب، يعبر عنه تدهور علاقات العرب بعضهم ببعض، وتدهور علاقات الحكم بالداخل الوطني، وتردي الوحدة الوطنية في البلدان العربية ووجود تناقضات ظاهرة أو خفية بين مكوناتها تهددها بأفدح الأخطار. هذه هي إنجازات حكم الفرد، ولأنها لا تعالج بحكم الفرد، فإنها تجعل الإصلاح الديمقراطي مسألة تتخطى السياسة إلى إنقاذ الوطن، المهدد قولا وفعلا بالحكم الفردي ونتائجه الظاهرة في كل زاوية وركن من زوايا وأركان الوطن العربي. إذا كنا نحتاج إلى التخلص من الفساد، ليكون لدينا تنمية تنقذ شعوبنا من الجوع، فإننا نحتاج إلى الإصلاح الديموقراطي كي ننقذ دولنا وشعوبنا من التلاشي.
نصل الآن إلى الثقب الأسود الثالث : إنه العدالة والمساواة، وهما من القيم التي لم نعرفها بصفتها هذه في قديم الأزمان، ولا نعرفها بعد في زماننا، مع أن تبنيها غدا حتميا، وإلا استحال إنقاذ دولنا ونظمنا، نعم نظمنا، التي لطالما تجاهلت العدالة والمساواة وأقامت أوضاعا مناقضة لهما، رأت في قيامها شرط استقرارها، مع أنها في الواقع مصدر تهديد شديد الخطورة لوجودنا كأشخاص وكمجتمعات ودول. يعي المواطن العربي، بحكم تجربته، أهمية العدالة والمساواة، ويعلم أنهما من حقوقه الثابتة، التي لا يجوز له التنازل عنها، وأن حجبهما عنه مخالف لسنن الحكم الرشيد. وإذا كان المواطن صامتا اليوم على ضياعهما، فإنه صوته قد يتعالى في أي وقت للمطالبة بهما: فهما خشبة خلاصه الوحيدة، القادرة على تحريره من بؤس مخيف يرزح تحته. لو سألت أي عابر سبيل عن سبل إصلاح الحياة العربية، لقال دون طول تفكير: إنها لا تقبل الإصلاح بغير أمور ثلاثة هي: التنمية، والحرية، والعدالة والمساواة.
يجب أن نقضي على الفساد، لتنجح التنمية وينجو الشعب من الفقر والجوع. ونحتاج إلى الإصلاح الديمقراطي، لننقذ أوطننا من الانهيار، وإلى العدالة والمساواة لينجو النظام من ردود الفعل على الظلم الذي يوقعه بمواطنيه. ثمة ثقوب سوداء ثلاثة لا يقرها أحد، يمثل كل واحد منها خطرا جديا بالنسبة إلينا: بشرا وأوطاننا وأنظمة حكم، فلا مفر من التخلص منها، كي لا تتفاعل وتتداخل وتتفاقم تقضم عافيتنا، كما هو الحال اليوم ؟!
الثقب الأسود الطبيعي هو خرق لا يكاد يرى بالعين، يستطيع ابتلاع مجرات بكاملها في غمضة عين. أما الثقب الأسود السياسي/الاجتماعي، فهو خرق هائل الحجم، يبتلع الشعب والوطن، ويدخلهما في جوفه الواسع، الذي لا يعرف الشبع. في مواجهة هذه الثقوب السوداء، لا تفيد طريقتنا الشائعة في البكاء والتظلم والندب، ولا يفيد الإيمان بأنها مما يمتحن الله (جل جلاله) به عباده الصالحين. الثقوب السوداء الثلاثة حالة موت، يوقفها تصميم البشر الصادق على جعل حياتهم لائقة بإنسانيتهم، أي: شريفة وحرة وعادلة!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي