قصائد لسامر أبو هواش: أقف جميلاً في البيت
قصيدة لا أحد فيها
تلعب فيها شمس
ويداعبها هواء.
يرتفع فيها دخان قهوة
لم تصنع لأحد
ويتأرجح عليها كرسي
تحت ثقل لا أحد
وتنصفق خلفها نافذة
أمام نظرات لا أحد.
كتابة قصيدة لكي يلحّنها خالد صبيح
أسيد التنك يقرقع في المعدة. كالأفكار العاطفية في “جكبكس”. كصوت يسيل من مئذنة إلى مواء قطّة تستجدي بعض الحنان في بقعة شمس. نجد سبباً لظهيرة: نكلّم أرواحاً هائمة، نحسبها سعيدة، على ضفاف أنهر بعيدة. نصدّق أن الحديقة يمكن أن تكون، بلفظ مرام، حديقةٌ أو حديقةٍ. لا أكثر. ندع أيدينا تستلقي على الهواء الذي في طبيعة الحال يصير حجراً قد نحسبه، دونما حاجة إلى ذكر النجوم، يشعّ ضوءاً. نبارك الأغنية التي نعرف أنها لن تأتي؛ ليس اليوم على الأقل.
ماء غزير يتسرّب إلى أرواحنا.
يد عجوز ترقّ العجين.
النهايات السعيدة
في مدينة ما، لا تصل الحافلة.
المنتصرون يعانون من نهاية الحكاية،
بينما يذهب المهزومون إلى حكاية أخرى
يهزمون فيها منتصرين آخرين.
في مقهى ما، تهطل الشمس قاسية من الواجهة.
ليس أمامنا سوى كوب الماء البارد.
وفكرة نرسمها دوائر على الطاولة.
الدوائر تستمر بعدنا
في أصابع أخرى.
في صحراء ما،
“ويلي”/ فوكنر يكفّ عن الكحول والإبر
يحطّم طائرته في السماء
تاركاً في عيون الرعاة والقدّيسين
ضحكة أخيرة ساخرة.
على جزيرة ما، في حلم ما،
“ماكس”/ برغمان يعدّ دقيقة واحدة.
يقول لألما: “… أتعرفين أن الدقيقة زمن كثير؟
عشر ثوان… عشرون ثانية…
أف… أخيراً انتهت…”.
أخيراً، أترك وحوشي في الصالون
أنسلّ إلى السرير
وأحيطك بذراعيّ،
تسألينني إذا كان شعرك يزعجني…
وأبتسم.
الملائكة في أيدينا
الملائكة في أيدينا خرزات متعبة
من كثرة الأعداد
في صحبة الليل،
الدعاء مرتعشٌ
يحلم بالقفز
من جبل الشفاه.
الفكرة هي
الفكرة هي أنني لا أعرف هذا القط الذي يلحس الآن قدمي
كأنها علبة سردين فارغة
وبطريقة ما تصلني خيبة أمله
لأن لسانه لا يؤدي المطلوب لدماغه
أو لأن علبة السردين لا تؤدي المطلوب للسانه،
أو لأن معدته…
لكن بالتأكيد ثمة سوء تفاهم كبير
بين لسانه ودماغه وعلبة السردين وبيني
لأنني أكاد لا أصدّق خيبة أمله
والأسوأ أنني، أخذاً بجميع الاعتبارات،
أو بأقل الاعتبارات،
أكاد لا أصدّق
أن ما يجثم على قدمي
مجرّد قطّ
يلحس في هذه الساعة
علبة سردين متخيّلة.
عمّال
هناك في الباحة
تحت شمس حارة
وأسف بارد
يقف عشرون
أو لنقل
واحداً وعشرين عاملاً
مرتدين عشرين
أو إحدى وعشرين بزة زرقاء
معتمرين عشرين
أو إحدى وعشرين خوذة بيضاء
ناظرين إلى عشرين
أو إحدى وعشرين سماء
مقفلة.
Memory Card
لئلا تفوتنا لحظة سعيدة.
لفروة الرأس تغنّي “الريغي” إذ نُحدث فيها بكل اقتدار ثقوباً واسعة تكفي لحرث ذاكرة جديدة تليق بجريمة ناصعة. “سول ستورم” تدندن العظام وهي تفرقع تحت القمر كأصابع جديدة يمكن كسرها – كملاقط غسيل – بضربة واحدة. ليست إلا ضربة حظ يمكن كسرها بأمنية. أو رتقها برجاء. ونعلّق الرجل من خصيتيه الحزينتين على سلك كهربائي قديم. ونتبسّم للشمس بسنّ سوداء لامعة. وننقضّ بفأس رائعة على شجرة رائعة. ونتحلق حول روزنامة تاريخية. منتظرين انبعاث المطر.
أوقات منزلية
سترتي رائعة
لا أعرف وصف لونها
لكنني أعرف
أنك تحبينني.
أعير السقف حذائي
وأدع غيمة آتية من بعيد
تعقد الشريط.
أستلهم كتاباً
نسيناه مفتوحاً
تحت الكنبة
لأروي لك سيرة ألمي.
النافذة خضراء
ليست بلون عشب
ولا قلب،
وتخجل من الذهاب إلى الحفلة
الحنفية الأليفة تجفّف لها دموعها
بمنديل أزرق.
ليلاً، جميع أشرار “البلايستايشن”
يغزون سرير اسماعيل الصغير،
ألتصق ببطلي المذعور،
لأداري خوفي.
لا نحتاج إلى أكثر من هذا:
العتبة عجوز دافئة
تفاجئ مساءنا
بذكريات عن ريح قديمة
تداعب شعر القرى.
القطط تأتي من كل مكان
إلى رائحة حميمة
ارتجلتها مرام
في لوحة الحساء.
واثق أيضاً
من أن الطاولة
غفرت جميع ذنوبنا
ومن أننا
حين ننام أخيراً
تصحب العجوز الكتاب
في رحلة طويلة
يعرف أنه سيرجع منها،
لكنّ حذاء السقف
يمطر روائح حميمة
وتسهر حنفية النافذة
على أحلامنا.
من أعمال هوبر
عناقنا في وسط المطبخ
يشاركنا به لمعان السيراميك
الأشدّ حناناً من الزجاج
ما تهمسه الشمس
لأخضر النافذة المبتذل
وأريستوقراطية البياض
في زاوية الثلاجة المخلصة
ثرثرة الأطباق التي ترشح ماء
كقبلات بطيئة في المطر
ونظرات ابنتنا
الأوسع من صالون
بين أقدامنا.
سيجارة ترفض أن تنطفئ
يحدث لشتى الأسباب:
نقص الهواء في الغرفة أو زيادته،
أو سهوها التام حين تمتدّ يدك إلى المنفضة،
أو ربما كلمة قلتها عفواً وأحدثت أثراً ما، اضطراباً ما
في عالم القطران والنيكوتين،
أو في عالم أحلام السجائر،
إذ يمكن أن نفترض للسجائر أحلاماً أيضاً،
تماماً كما الغيلان، كما الأرواح التي تخرج من أصابع الأقدام،
كما – بعد أن يموت الموتى – نكتشف أننا كنا نعرف – إذ كانوا
يعرفون – أنهم سيموتون.
يمكن أن نفترض للسجائر مشاعر أيضاً،
مثلما تحدس الحملان الذاهبة إلى الذبح،
تحدس سيجارة أنها في طريقها إلى الفناء،
فتحزن،
وليس هذا الدخان المكبوت المتصاعد منها إلا عواءها الأخير،
أو لعلّها – إذ ترفض فجأة أن تنطفئ – تمارس وداعاً ما،
لأن بعض السجائر – كالأسماك – قصير الذاكرة،
لكن بعضها كالأشجار لا يعرف شيئاً عن الذاكرة،
لكنها تشعر بصمغ تاريخ قديم يتسلّل إلى قلبها كأثر أسود، كأفعى، كشيء
ذاهب إلى قبر، وعندئذ لا بدّ على الأقل من أن تلوّح للظلال والنوافذ
التي شاركتها بضع ثوان من عمر ناقص.
لكن ربما كان كل هذا التحليل خاطئاً.
ربما سيجارة ترفض أن تنطفئ
ليست إلا سيجارة ترفض أن تنطفئ.
وذلك الدخان الذي يستمرّ في الارتفاع منها،
بعد إطفائها للمرة الثالثة،
ليس إلا دخان سيجارة لا يزال يرتفع
بعدما أطفئت للمرة الثالثة.
رافعات دبي الصفراء
ثم سنصحو ذات يوم شاعرين بحزن شديد
ولن نعرف السبب
ستكون المدينة قد أنجزت ونقلت الرافعات الهائلة
إلى مدينة أخرى قيد الإنجاز
ولن نعرف السبب لكننا سنشعر كسكان المدن المثلجة
حين فجأة لا يهطل الثلج
سنفرح أياماً قليلة
لكننا بعدئذ سنشعر بصداع لونيّ حاد
بأن ثمة خطأ فادحاً في عيوننا
أو ربما في السماء
أو ربما في عيوننا إذ تنظر إلى السماء
ولن نعرف السبب
لكنه سيكون كل هذا الأصفر
الذي اختفى من حياتنا:
الزكام الذي انقرض فجأة
كلبنا الأليف
الذي دهسته شاحنة بعد ظهيرة هادئة
سلحفاتنا المائية
التي فجأة
تطفو ميتة على سطح الأكواريوم.
إخلاصاً لسترة
أقفُ جميلاً في البيت
أجمّد الوقت لثوان في وجه الحائط،
أجمّد ظلاً عالقاً
في ابتسامة حبيبتي؛
أحسب السقف صديقي فأرفع نخبه
بجفنين خالصين.
لا أنتظر.
لا أنتظر بعد.
الخلاص في زرّ الغفلة التي
بعد الظهر، في قلب الخزانة،
في فكرة الشتاء.
وحدها روح الستائر
تغسل روحي.
سننجو
سنخرجُ أخيراً من أوتوستراد الحبّ السريع
لاعنين مهندسي الطرق والقلوب
وسنتشاجر قليلاً
لأننا تجاوزنا المنعطف الصحيح
للمرة الثانية.
سنتوه بين مدن قاحلة
ارتجلها خيالٌ بارع في القيظ
سنبحث في الصحراء عن بيتنا
وعن اسمينا
في الإشارات المغبرة
سنندم على ظهيرة أضعناها
في الأسف
وسنسأل أشباح الطريق
عن الطريق
سنملأ الوقت الضائع بالجزع
وإخلاصاً للموقف
سنستبدل الجاز بأغنية مبتذلة عن الحبّ
يغنّيها لبناني بلهجة مصرية،
سنقرأ خط الحياة في كفّ الرمل
وفي الأعالي
سيضحك منا وجه مهرّج بلاستيكي
ولن نكتشف شيئاً لا نعرفه سلفاً
لكننا في النهاية سننجو،
لأننا – إذ نحسب أننا تهنا تماماً –
ستدلّنا عيوننا إلينا
وسنعرف أن أيدينا
التي لم تقل شيئاً حتى الآن
تحفظ الطريق أكثر منا ¶