الوقوف على أنقاض عالم يتداعى
دمشق – عابد اسماعيل
يسعى الشاعر السوري أكرم قطريب في مجموعته «قصائد أميركا»، (دار النهضة العربية)، إلى اقتراح أسلوبية جديدة تريد أن تحدث قطيعة مع دواوينه الثلاثة الأولى، التي طغى عليها الزخرف اللفظي، والتشكيل التعبيري النافر، إضافة إلى هاجس التجريد الذي يقفل القصيدة على مجازاتها، ويبقيها حبيسة نسق دلالي غائم، لا يخرج البتة عن تقليد البلاغة الأدونيسية، المفتونة بوهج العبارة، وبريقها الخطابي الرفيع.هنا، في قصائده الجديدة، نلمس رغبة في التخفّف من الغلو الإنشائي، عبر الانتباه إلى قيمة الدلالة، العارية والصادمة، بصفتها صلة الوصل بين التجريد والتشخيص، والحلقة التي تربط الدال بالمدلول، وتحول، بالتالي، دون وقوع اللغة في الترف اللفظي المحض. كما أننا نلمس نزوعاً إلى استثمار النبرة المباشرة، المستندة إلى نقاوة الرؤيا، ودقة الملاحظة، من دون التضحية بجماليات الصورة، ومحسّناتها البديعية الراسخة.
ومع أن القصائد تستنهض جغرافيا حداثية راهنة، حياتية وثقافية، يرمز إليها المغترب الأميركي الجديد، إلاّ أن حضور المكان، في أمثلة كثيرة، ظلّ تقليدياً، زخرفياً وبرانياً، يقتصر على أسماء شوارع ومحطات وبارات، من دون الغوص في العوالم السفلية، الداكنة والخطرة، للمدينة الحديثة، ووصف تناقضاتها وصراعاتها ومفارقاتها.
بمعنى آخر، لم يكن تحرّر قطريب من سطوة البلاغة الأدونيسية كافياً لجعل قصيدته متورطة في زخم الحياة وعبثها، ومنفتحة على شرطها التاريخي والإنساني، ومستشرفة، بالتالي، أحلام الأنا وكبواتها في الزّمن الراهن. إذ ليس للمكان في قصيدته ذاك الحضور الأنطولوجي الحاسم. بل أكاد أقول إن قطريب في أكثر من قصيدة يقع فريسة استحضار مكان وهمي، قوامه هواجس مستقرة، ثابتة، تؤلف صورته رموزٌ نمطية جاهزة، منقطعة، جوهرياً، عن بيئتها الزمانية والمكانية. كأنّ صورة المكان تسبق كينونته الحسّية، وفكرة المدينة «الأزلية» تتقدم على فضائها، وشوارعها وبشرها، وتنوعها وتعدّدها، وتمرّدها وتبدّلها.
هنا يتكلّس المفهوم تحت تأثير قراءات الشاعر وانطباعاته الثاوية، ما يفسّر جزئياً استسلام قطريب لسطوة النوستالجيا، التي تلهم الكثير من قصائد مجموعته، وهي حالة يمكن اختصارها بشعور دائم بالغربة، والوقوف الطللي على أنقاض عالمٍ يتداعى، يفصله عن أنا الشاعر حائط حضاري وثقافي شاهق، لا يمكن القفز من فوقه. وقد ترجم الشاعر هذا الإحساس في قصائد خاطفة ومكثفة، تأخذ شكل رسائل شعرية، حارة ومباشرة، موجّهة، إمّا إلى أصدقاء شخصيين، أو إلى شعراء معروفين (يوسف بزي، بسام حجار، عباس بيضون، سعدي يوسف، فراس سليمان…)، وذلك في قسم منفصل سماه «قصائد الأسماء»، كأنما في محاولة للتمسك ببراءة الماضي، والعودة إلى طفولة أزلية في مدن الشرق المتصدّعة، بعيداً من طغيان النسق الحضاري الجديد، الذي يحاصر الرّوح الشعرية.
إلاّ أنّ سطوة التذكّر واستحضار الماضي أوقعا الشاعر في ضبابية تعبيرية قسرية جعلته يرى المكان بعين المفهوم فحسب. إذ يغيب المكان وينسحب، كما نوهنا، ويتعرّض لخلخلة بصرية في بنيته المعرفية والتشكيلية والرمزية، لتحل مكانه رؤى الشاعر وهواجسه المستقرّة. في قصيدة «في نيوجرسي المقفرة»، على سبيل المثال، يخلو المكان ويقفر، ولا يرى الشاعر من المدينة الصاخبة سوى صحراء خاوية، تكتفي العين برصد هجيرها، مازجةً التذكّر بالتصوّر، ومستحضرة أطياف الماضي الداكنة، التي تعبر المشهد كأصداء غابرة. كأن عين الشاعر تنظر ولا ترى، مكتفية بترجمة صراعات الأنا الداخلية وآلامها الصامتة: «في نيوجرسي المقفرة يتحدّث عن نفسه لسائق سيارة الإطفاء/ وهو يقفز عن سلّم الحياة العزيزة».
هذا القفز عن سلّم «الحياة» يوقع الشاعر في فخّ الفكرة، ويؤجّل بالتالي حضور المكان، المتناقض والإشكالي. ناهيك بأن الحديث عن «نفسه» يجعله لا يرى في الآخر سوى مرآة تعكس آلام الذات فحسب. في قصيدة أخرى بعنوان «نيوإنغلاند» يعترف الشاعر بأن علاقته بالمكان تكاد تكون «مقطوعة»، وهي علاقة سائح جوّال يخشى الاقتراب من المحسوس أو الولوج إلى لجّته المعتمة: «لم أستطع أن أشرب من ماء هدسون،/ أو أن أسبح فيه،/ لأن النهر الذي يشبه امرأةً في اللّيل/ لا يعرف سبباً لرجفتي على صخور نيوإنغلاند».
لا تسير قصائد المكان كلها على نسق واحد. إذ تنجو أكثر من قصيدة من النظرة النمطية، التي لمّحنا إليها آنفاً، ونرى قطريب أكثر استعداداً لاقتحام التابو البصري والثقافي لأميركا، متوقفاً أمام أبجدية الحياة الحديثة وتكويناتها المعقدة، بعيداً من المعيارية الأخلاقية التي لطالما هجت الحضارة الغربية بإطلاق، وأصبغت عليها صفات ثابتة، أزلية، متكلّسة وعقيمة.
وفي قصائد أخرى، يعود قطريب القهقرى إلى شغفه القديم بالتشكيل البلاغي واللفظي، مازجاً الألوان والأصوات والأطياف، كأنما في محاولة لسد الفراغ الذي يتركه انسحاب المكان من القصيدة. في قصيدة «كرز ميتشيغان» نراه يبدأ بصياغة طقس تشكيلي قائم على تجريد خالص، حيث «الشمس المحمولة/ على ظهر حصان أسود» تحثّ الناظر إلى استحضار شمس آفلة، و «العودة إلى الماضي في سيارة أجرة». في قصيدة «بعد نصف ليل»، استرجاع للحظات حميمة مع امرأة خرافية، سرعان ما تتبخّر وتختفي، لكنّ تفاصيلها الأنثوية تظل ماثلة للعيان، تتشكّل بهدوء تحت ضربات اللون والحركة والإيقاع، إذ «بوسعه أن يلمس طرف الهواء/ على شفتكِ السفلى/ أو الغيم على الثديين». وفي قصيدة «بالرغبة التي معهم» سعي للمزج بين طاقة الكلمة على التعبير، وطاقة اللّون على التصوير: «في العتمة/ الرسومُ الحجريةُ لقطيع الثيران،/ تنهبُ ما خالطَ بياضُه حمرةً». بل يخرج «العريُ» ذاته من الماء، متنكراً في هيئة امرأة، ليتحوّل تمثالاً بضربة إزميل واحدة. لكن هذا اللعب برؤى تجريدية، طيفية، لا يثني الشاعر، في المقابل، عن استحضار وجوه حقيقية، باكية، ومكفهرة، لمهاجرين حيارى لا يجمع شملهم سوى الرّعب والضياع والخوف، كما في القسم المعنون «قصائد الحرب» والذي يكرّسه لرصد مأساة الحروب المتواصلة في المشرق الآسيوي، وبخاصة العراق.
لا يخفي أكرم قطريب الرغبة في إحداث قطيعة جمالية مع نصوصه القديمة، عبر هجره البذخ التعبيري واللغوي، الذي ميّز أسلوبه باكراً، مسترقاً، هنا، السمعَ، وفي أكثر من قصيدة، إلى صخب «الواقع» في مدّه وجزره، لتهبط لغته من نزقها البلاغي، وتنزل إلى شفافية العبارة، مُعمّدةً بدمِ الدلالة.
الحياة