حامد بدرخان شاعر النبرة العالية
دمشق – ابراهيم حاج عبدي
عاد الشاعر الكردي السوري حامد بدرخان (1924 – 1996) الى الواجهة بعد صدور أعماله الشعرية العربية كاملة عن دار عبدالمنعم – ناشرون (حلاب، 2009) في طبعة أنيقة، ضخمة (950 ص من القطع الكبير)، وهي توزع مجاناً. ويعود الفضل في هذا الإصدار إلى السيدة نازلي خليل، صديقة بدرخان، في محاولة منها لإعادة قراءة هذا الشاعر الذي خط لنفسه مساراً خاصاً ضمن المشهد الشعري السوري المعاصر.
أصدر حامد بدرخان نحو ثلاثين ديواناً منها خمسة عشر باللغة التركية، وأحد عشر باللغة العربية، وديوانان بلغته الكردية الأم، فضلاً عن كتاب مذكرات. لكنه، وعلى رغم هذه التجربة الغنية، لم يحظَ بالمكانة التي يستحقها، ولم ينصفه النقد الذي أدار ظهره لمنجزه الشعري بعدما تغير شكل القصيدة وبناؤها، وتغيرت معها معايير النقد، فلم يعد يعول على تلك القصائد الحماسية المفعمة بروح الثورة والنضال، والحافلة بالشعارات الكبرى كتلك التي كان يكتبها بدرخان، إذ بدأ هذا النقد يميل إلى القصيدة الخافتة النبرة، والمشغولة بهموم الذات وهواجسها.
كان بدرخان، طيلة عقود، ناطقاً رسمياً باسم الفقراء والكادحين والعمال، وقضى حياته حالماً بالعدالة الاجتماعية، وبعالم يسوده السلام والحب والحرية، وبمجتمع خال من الظلم والاستبداد، لكنه رحل بعدما سقطت أحلامه مع سقوط جدار برلين. هذا السقوط الرمزي المدوي، وانهيار دول المنظومة الاشتراكية لم يخمدا «عنفوانه الشعري». فلئن أخفقت الدول في تطبيق المبادئ الاشتراكية، فإن هذا التطبيق السيء لا يعني، بحسب رأيه، إخفاق الفكر اليساري الذي آمن به بدرخان، وناضل لأجله حتى الرمق الأخير.
هذا الإيمان المطلق بفكرة العدالة الاجتماعية، والانتصار لثورات التحرر الوطنية التي شهدها القرن العشرون، والتغني بنضالات الشعوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، يتجسد في أشعاره وقصائده المكتوبة بالعربية. والواقع أن القارئ حين يتصفح هذه القصائد، يعثر على لغة عالية النبرة، وهذه النبرة، التي تعد عيباً فنياً بمعايير النقد في هذه الأيام، لم تكن مستهجنة في عقود الستينات والسبعينات من القرن الماضي، بل كانت مفردات النضال والثورة شائعة في أدبيات تلك المرحلة التي صاغتها أحلام البسطاء. ولعل عودة سريعة إلى دواوين شعراء كبار من أمثال محمود درويش، ولوركا، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت، ورسول حمزاتوف، ورفائيل ألبرتي وسواهم تكشف عن هذه النزعة الإنسانية الحالمة، إذ اعتقد أولئك أن في مقدور الشعر أن يغير خريطة العالم، وأن على الشاعر، على قول نيرودا، «أن يكون مؤرخ عصره»، من دون أن ننسى التحولات التي طرأت على بعض التجارب.
اقترن اسم بدرخان، إذاً، بفترة المد الثوري، وهيمنة تيار الواقعية الاشتراكية في الأدب، ومن هنا تجنب البلاغة والغموض والرمز لمصلحة قصيدة بسيطة، سهلة في شكلها وبنائها. وعلى رغم اهتمام هذه القصيدة بالقضايا الكبرى إلا أنها جاءت رشيقة؛ سلسة ملتصقة بحرارة الواقع، ومعبرة عن أحلام الملايين من البسطاء، والمضطهدين. ولأن الشاعر كان يستهدف تلك الملايين، كان يتوخى المفردات الشائعة والعبارات البسيطة كي تصل قصيدته إلى اكبر عدد ممكن من القراء، تجسيداً لمقولة الشاعر الفرنسي جاك بريفر بأن على الشعر أن «يعبر عن رؤيتنا للعالم بلغة الحياة، لتبلغ أكبر قدر من الناس، ولتزيد في وعيها».
لم يكتب بدرخان الشعر انطلاقاً من دوافع ذاتية بحتة، ولم يشأ التركيز على جماليات القصيدة، وفنيتها، ناهيك عن رفضه أن يكون الشعر وسيلة ارتزاق. كان يرى في الشعر، شأنه في ذلك شأن شعراء كبار في مرحلته، وسيلة للتحريض والاستنهاض والرفض والاحتجاج، كان «شاعر البروليتاريا» بامتياز، ومن دون أقنعة، حتى ليصح القول أنه كان «شاعراً عقائدياً». ولئن كانت هذه الصفة مستهجنة بمعايير النقد في أيامنا هذه، فإنها لم تكن كذلك في عقود مضت، وإنما كانت وظيفة الشعر «الأخلاقية والنضالية» هي المعيار الحاسم في الفرز بين غث الشعر وسمينه.
ولعل ما يميز قصيدة بدرخان هو «طابعها الكوني»، إذا جاز التعبير، ونبرتها التفاؤلية؛ الرومنطيقية، ونزعتها الإنسانية المنزهة عن التصنيفات والانتماءات الضيقة، ذلك انه لم يكن يعبأ بتلك التصنيفات، بل سعى إلى كتابة قصيدة تعانق الألم الإنساني في كل زمان ومكان، وتسمو فوق الانتماءات والأعراق والحدود الجغرافية، ومن هنا نراه يحيي ثوار فييتنام وفلسطين، مثلما يمجد نضال شعبه الكردي، ويشيد بصبر وصمود نيلسون مانديلا مثلما يتغنى بانتصارات غيفارا وفيديل كاسترو. إنه يجوب تضاريس الكرة الأرضية ليلقي التحية على كل فلاح وعامل وثائر، راغباً في محو الفوارق الطبقية، وحالماً بالمساواة والعدالة.
الحياة