اليسار السينمائي
نديم جرجوره
لم يتغيّر المخرج الوثائقي الأميركي مايكل مور. يدأب في مقارعة السلطة السياسية والاقتصادية «اليمينية» في بلده، من دون أن يبلغ مرتبة يسارية رفيعة المستوى. يستقي المعطيات من أفراد مصابين بمآزق أرادها موادَّ لأفلامه، ويعيد برمجة نتاجه وفقاً لمتطلباته الذاتية ورؤاه الفكرية والثقافية. لا يهدأ. يُنقّب في الكوارث الضاربة في عمق المجتمع الأميركي، ويتجوّل في أنحاء العالم لإقامة مقارنة بين سياسات الأنظمة الديموقراطية الأوروبية مثلاً، والسياسات المعتمدة في بلده. يشنّ حملة عنيفة ضد الشركات الرأسمالية الكبيرة والنظام الصحي وتجارة الأسلحة الفردية. يُفكّك الحالات المستعصية، ويعيد تركيبها وفقاً لمزاجه النضالي. يطلّ على المشهد مناضلاً ملتزماً قضايا ناسه. يتلاعب بالحقائق ويخلط المعطيات بعضها بالبعض الآخر، كي يستقيم خطابه التحريضي. مع هذا، لا يُمكن التغاضي عن نتاجاته الوثائقية السجالية، لأنها متضمّنة كمّاً مهمّاً من المعلومات والمقارنات، المرتكزة على آراء السينمائي وجهاده ضد الرأسمالية المتوحشة، وتأثيراتها السلبية على الأفراد. «الرأسمالية: قصّة حب» (فيلمه الأخير) دليل إضافي على وحشيته هو في مواجهة الوحوش المالية والاقتصادية الليبرالية.
لا يختلف البريطاني مايكل وينتربوتوم عنه كثيراً. يساريته غير معلنة، لكنه مناهض لفكر يميني متسلّط. «الطريق إلى غوانتانامو» (2006) دليل على قناعاته الإنسانية والأخلاقية، التي تدفعه إلى البحث في بواطن الأمور والحالات عن جذور المآزق الناشئة في البيئات الفقيرة والمعدمة. يجد في الهوامش متناً لأفلام تسير عكس التيار السائد في أروقة الحكم، الاقتصادية والسياسية والثقافية. لديه مواقف يُعبّر عنها سينمائياً. لكن مواقفه هذه تثير سجالات حول مضامينها، وحول كيفية استخدامها السينمائي. يصفه البعض بالراديكالي. يراه البعض الآخر براغماتياً. لا بأس. التسميات والتصنيفات عديدة. والأهمّ كامنٌ في نتاجه السينمائي. آخر أفلامه صدمة حقيقية، شكلاً ومعالجة وموضوعاً. رافق الكاتبة الكندية المثيرة للسجال نعومي كلاين، مرتكزاً على كتابها «استراتيجية الصدمة: صعود الرأسمالية من الكارثة»، ومقدّما سيرة الرأسمالية الأميركية الفارضة شروطها وقواعدها بالقوة، بعد وقوع كارثة طبيعية أو بشرية. اتّهم الرأسمالية بإثارتها كوارث جمّة، كي تطرح حلولها وفقاً لأجندتها. الكتاب مثير للسجال حقّاً. فيلمه الأخير «مبدأ الصدمة» (أنجزه بالتعاون مع مات وايتكروس) أيضاً. لا فكاك بينهما، وإن برزت عبقرية المخرج السينمائي في ربط الفقرات والتواريخ والمعطيات في سياق درامي صادم وقاس..
مايكل مور مُتّهمٌ بالتلاعب، أي بالكذب. لكنه مصرّ على تأدية واجب أخلاقي تجاه نفسه أولاً. ومصرّ على المضي قدماً في محاربة تنانين المال والأعمال والسياسة. أفلامه، بجانبها السينمائي، متشابهة شكلاً ومعالجة. هذا كلّه متناقضٌ وأسلوب مايكل وينتربوتوم في تفتيته البنى الداخلية للفكر الرأسمالي ومدرسة شيكاغو (مبدأ الصدمة)، بل في آلية اشتغاله السينمائي ككل.
هذان نمطان سينمائيان يُمارسان حرباً ثقافية ضد طرف واحد، يمعن فتكاً بشعوب وحضارات ودول. هذان نموذجان «يساريان» في زمن «موت» اليسار العالمي كلّه. هل قلتُ اليسار اللبناني أيضاً؟
السفير