عن علي الجندي والحياة التي تفيـض على الشـعر
شوقي بزيع
منذ سنوات عدة حل علي الجندي ضيفاً مميزاً على منبر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. ورغم لمسة الطرافة والظرف التي كانت ما تزال عالقة بأهداب روحه إلا ان ما تبقى لديه من حيوية الجسد، الذي أفرط في استهلاكه حتى القطرة الاخيرة، لم يحل بينه وبين التلعثم في الإلقاء بحيث لم نجد نحن اصدقاءه ومحبيه بداً من قراءة قصائده بدلاً منه. ورغم ان تلك الحادثة قد شكلت إيذاناً ببداية التقهقر الفعلي لشاعر الافتتان الصاخب بالحياة فإنه استطاع ان يتوارى طويلاً عن أعين الموت الذي لم يعد لديه ما يفعله، بعد اختطاف محمود درويش ومحمد الماغوط وممدوح عدوان وآخرين، سوى انهاء عقود الشعراء مع وجودهم الترابي وإعطائهم تذكرة الى الخلود كان يؤثر علي الجندي، لو عاد الأمر إليه ان يبيعها غير آسف مقابل كأس واحد يحتسيه في احدى الحانات، أو مقابل اهتزاز نهدي صبية يافعة تهمّ مسرعة بالصعود الى حافلتها. ولو صحّ ما قاله لوقيانوس السميساطي في كتابه «مسامرات الأموات» من ان الموتى يعمدون في جلسات سمرهم الى التباهي بما كانوا يمتلكونه في الحياة الفانية من وسامة او مكر او ثراء لكان الأمير الضليل، كما سماه احدهم، يطالب نكاية بالشعراء بأن يحتفظ بلقب الشاعر الأكثر وسامة والأكثر اجتذاباً للنساء، حتى ولو لم يظل منه ومنهن سوى كومة من العظام ممدّدة تحت قبة ضريح.
كيف لي اذاً ان أتحدث عن علي الجندي بصيغة الغائب. وكيف أمكنه هو بدوره ان يتنازل عن حياة لا تليق إلا به وبأشباهه، وأن يرتضي الاقامة في كنف قبر ضيّق لا يتسع للتثاؤب او لاظهار السخط واطلاق الشتائم واللعنات في وجه العالم، وهو المتبّرم، الساخط، القلق، المتذمر، المتململ والملول حتى في كنف قارة من الضحك. كيف تخلى طواعية وبملء إرادته عن تجرّع ما لم يعاقره من كؤوس، وما لم يقتنصه من لذائذ، وما لم يروّضه من جمال حروف، وما لم يكتبه من قصائد، وما لم يقرأه من كتب، وما لم يقترفه من آثام. ربما هي خيانات الجسد التي أفصح عنها من قبل صديقه ممدوح. ربما هي الشيخوخة الداهمة التي عصفت بأحلامه الغزيرة ودفعته لإنقاذ قسمات وجهه من غدر المرايا. ربما هي الصدوع العميقة في جسد الأمة التي لم تفلح جزر مقاومتها المتناثرة في منعها من السقوط. ربما حاجة الأسطورة الى غياب صاحبها عن المسرح. وربما لكل هذه الاسباب مجتمعة ولتكاثر «النزف تحت الجلد» خلع علي الجندي وتارة الدينوي محتفظاً بنواة الحياة، تاركاً لنا ان نضغضغ كالعجائز قشور أيامنا الباقية.
يخيل لي احياناً بأن آل الجندي بما يحملونه من جذوة النبوغ وقلق الاسئلة وتشابه المصائر لم يكونوا سوى النسخة السورية المعدّلة قليلاً من الاخوة كارامازوف، وان علي الجندي لم يكن شخصاً بعينه بل خليط دلالي من يوسف وطرفة بن العبد وديك الجن وزوربا اليوناني. ففيه من يوسف بئره العميقة وقمصانه الفاتنة. وإذا كانت قمصان يوسف، بتدخل إلهي حاسم، مقدودة من الخلف فإن قمصان علي مقدودة جميعها من الامام، ليس لأنه لم يهرب من امرأة قط بل لأنه في المنازلة الرمزية الفاصلة بين الملاك والشيطان كان ينتصر دائماً للثاني على الاول، لأن في الاول رائحة الخنوثة المموّهة بالعفة وفي الثاني مراوغة الذئب وشبقه السافر. ولأن الاول ناتر كسول يبيع الثلج عند أبواب الجنة والثاني شاعر مشاكس يبحث عن اللهب حتى عند أبواب الجحيم. وفيه من طرفة بن العبد احتفاؤه باللذة وازدراؤه للموت، اضافة الى نوع من الصعلكة لا يتصل بالطقوس الشكلية الفارغة التي يمارسها البعض بل بالاعتراض على سلطة التصاميم، والنماذج المفهومية البليدة، ونظام القيم السائد. وفيه من زوربا قدرته على تجرّع الخسارات والرقص الهذياني على أنقاض ما تهدم. أما ما يجمعه بديك الجن فليس قتله لمن يحب، وان كان يتمنى ذلك في اعماق نفسه بل في كون حياته وقصيدته وجهين لخنجر واحد يسدّده في وجه العدم. وكما عدّت حياة ديك الجن أجمل قصائده فإن الأمر نفسه ينسحب على علي الجندي الذي نفيض حياته عن عبارته بحيث بدا ما ذرفه على الورق من شعر مدوّن، على تميزه وعمقه، أقل بكثير مما سفحه من النكات والطُّرف، ومن الشعر الشفوي المراق في المقاهي وجلسات السمر وموائد الصداقة.
وكان لا بد من ممدوح عدوان لكي يكتمل عقد التوريات الساخرة والاصابات اللماحة التي تحتاج لكي تبلغ طابة الكلام هدفها النهائي الى لاعبين اثنين بالغي المهارة كما هو الحال في كرة القدم. ففي بلد عربي، لن أسميّه، عقد مهرجان حاشد للشعر واكبه فشل ذريع في الضيافة والتنظيم. حتى اذا تهيأ الجميع للمغادرة سأل أحد الصحفيين ممدوح عدوان عن مشاريعه للمستقبل، فأجاب ممدوح ساخطاً «كل ما أتمناه الآن أن أرى زوجتي». فسارع علي الجندي الى القول: «تصوروا مدى رداءة بلد تصبح رؤية المرء لزوجته فيه واحداً من أعز الأمنيات». وفي مناسبة أخرى لاحظ ممدوح رتابة وتكراراً في شعر علي. وإذا قال له الاخير «وكيف لي تجنب هذه الآفة في رأيك» أجاب ممدوح «عليك بقراءة الشعر الأجنبي مترجماً اذا تعذرت عليك قراءته بلغته الأم». لم يخيّب علي ظن ممدوح وفارقه لأيام ثم عاد ليخبره بأنه قرأ مجموعة رائعة لشاعر ألماني اسمه بالفونغ فانغر. فأجابه ممدوح ضاحكاً: «يبدو انك لن تتطور قط لأن ما حسبته بالفونغ فانغر ليس سوى عنوان مجموعتي الشعرية «يالفونك فانغر»!. ومرة أسر علي الجندي الى ممدوح بأن جهة ثقافية ما ترغب في تكريمه. فقال ممدوح «يبدو الأمر غريباً حقاً». وحين سأل علي «وما وجه الغرابة فيه؟» اجاب ممدوح «لأنه في جميع الدول يتم تكريم الجندي المجهول إلا في سوريا فإنهم يكرمون الجندي الجاهل!». والتقيت علي الجندي مرة في إحدى دورات مهرجان المحبة منتصف التسعينيات، فاتهمني بعد التحية والعناق بالغدر والافتئات على الحقيقة. وحين سألته عن السبب قال «كيف تكون صديقاً لي وأنت القائل في إحدى قصائدك «أنا الثالث في كل سرير». و«ما الخطب في ذلك»، قلت. فأجاب مقهقهاً: «لو كان في السرير متسع لشخص ثالث فسيكون علي الجندي بالذات، أما أنت فلن تكون سوى الرابع في أحسن الأحوال!».
ومع ذلك فلا يملك المرء سوى أن يلاحظ غياب ملامح السخرية والطرافة عن شعر صاحب «البحر الأسود المتوسط» حتى لتشعر وكأننا أمام «علي» جندي متغايرين تماماً. فما ينم عنه الشعر لا يتفق مع سلوك الشاعر الظاهري بل يحفر في أشد الاماكن تثلماً واكثرها اتصالاً بربع وجوده الخالي. ثمة أقنعة عديدة للكتابة، لكنها تتوحّد في هشاشة الداخل وفي فكرة الموت يأساً من واقع الأمة، حيث يخاطب غسان كنفاني بقوله: «لا تأسف لما نالك/ نصف الحملوا نعشك ماتوا او أميتوا/ والذين انتحبوا خلفك يغتالون/ والباقي انتهوا عبثاً على درب القضية/. ثمة زرع كتير إذا لا يحصده سوى الموت حيث «الطرقات الأمنية لم يبق منها ولا معبرٌ/ غير ذاك المؤدي الى المقبرة». وثمة رؤية بودليرية الى الجمال المتحد هو الآخر باضمحلاله: «كل آية من جسمك البليغ مقبرة».
أما فلسطين فتكمل بدورها عقد الخسارات وتفضح نفاق الشعارات «فباسم فلسطين غنوا/ وتاجر بعضهم بهويتها والجدائل/ وانتضى الفاء واللام والسين والطاء والياء والنون سيفاً من الكذب المتواصل/ آه فلسطين/ هل صار تاريخك المر فوق المنابر أغنية عاهرة؟».
«في كل حزن عميق فرحٌ مفقود» يقول هاري مارتنسون. ولو قدّر له ان يعرف علي الجندي لقلب القول على الوجه الثاني: «في كل ضحك عميق حزن مفقود». لكنه ليس حزن الصيارفة والسماسرة والمضاربين بالبورصة عند سقوط الأسهم بل ذلك الحزن الوجودي الذي يشبه حزن أبي عبد الله الصغير وهو ينزلق موهناً ووحيداً عن صخرة الأندلس، او حزن من يرتطم رأسه بجدار اللغة الصلد فيهتف ببنت خياله «علّميني لغة لا تنتمي للأبجدية»، او حزن من لم تعد تحركه، كجده المتنبي، تلك المدام المنخزة في رتابة الكؤوس فيبادر وحشته قائلاً «أفتش عن نبيذ لم يذقه بعد إنسان».
على ان كل ما بحث عنه علي الجندي يظل ناقصا اذا لم ينصهر في أتون الأنوثة الكونية ويتحد بجوهرها الاصلي. ولان كل ما لا يؤنث لا يعوّل عليه، وفق قولة محيي الدين بن عربي، فقد اعتنق علي الجندي كل ما هو قابل للتأنيث من الحياة والصداقة والمقاومة والثورة وصولا الى اللغة والقصيدة والشهوة والمعصية. وإذ جاءه الملاك الذّكر ليرافقه في رحلة اللاعودة سأله علي الجندي: «يا عم أليست لك زوجة او ابنة او أخت او أم على الأقل؟». فقال: «بلى». فقال علي «اذن أغرب عن وجهي وابعث لي بواحدة منهن لترافقني بدلاً منك!». وهكذا كان. ولم يستسلم علي الجندي إلا لأنوثة الموت!
السفير الثقافي