صفحات ثقافية

“خطأ انتخابي” لمحمد ديبو: التهكم لا يحول دون حرفة السرد

null
مازن معروف
تبدو مجموعة محمد ديبو القصصية “خطأ انتخابي” (دار الساقي)، فشة خلق للوهلة الأولى. تأخذك السطور الأولى في كل قصة، إلى مناخ واحد متهكم يسيطر عليك. تعتقد أنك شريك في هذا التهكم، وأن ديبو يقول كل ما تريد أنت أن تقوله. لكن تفوتك حرفية السرد التي يتمتع بها، والأدوات الخاصة التي يستعملها، من ابتكار للتشابيه، والاستعارات، وانتقاء الأسهل من المفردات، والشديد المباشرة. هو بذلك، يتمسك بكل قوانين كتابة القصة القصيرة، لكن من دون أن يقلد أحدا. الكتابة في السياسة، ليست بالعملية البسيطة، وبخاصة، حين يتناول الأمر الأنظمة الحاكمة في القسم العربي من العالم. ذلك أن الشأن السياسي العام، صار جزءا من حياة الانسان العربي، سواء شاء ذلك أو أبى. تالياً، فإن الأمر الواقع، مكتمل الصورة الى درجة تصعّب على الكاتب نسج عمل أدبي (قصصي تحديدا) انطلاقا من هذا الواقع. فالمصيبة لا تخفى على أحد، وهناك العديد من الممارسات ترتكبها الأجهزة العربية في حق المواطنين، بحجة الحماية الوقائية، والحرب الاستباقية على “العدو”. ادولف هتلر، باجتياحه بولونيا عام 1939، كان أول من حدد، بالفعل، هذا المفهوم. أدخل على القاموس السياسي، بندا يجيز اجتياح دولة قريبة، أو بعيدة، بغية الدفاع عن النفس. كان لهتلر مفهوم، يتعلق كذلك باعتقاده بتفوق العرق الجرماني (الآري) على باقي الأعراق البشرية. هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فقد كان ثمة تنافس ألماني (هتلري) مع باقي أوروبا. أراد الفوهرر أن يبرهن أنه في خلال أربع سنين (1935- 1939)، سيقوم المارد الألماني، المجروح من الحرب العالمية الأولى، ليبدأ حربا جديدة، انتقامية، معززا نفسه بتماسك اقتصادي أذهل به القائد العسكري القصير القامة، قادة أوروبا وبريطانيا تحديدا. لكن هذا الأفق الإيديولوجي الواسع للحرب، يتم تقليصه في أنحاء كثيرة، من العالم، من دون أن يفقده قوته. تصبح الحرب العالمية، حربا داخلية، او شأنا داخليا. ويصبح النظام، أعرق من الفرد، وتاليا، فإن الفرد لن يلتبس عليه، أن يختار النظام السياسي معاقبته. من هنا، تصير المسألة، مجرد شأن داخلي يخص كل دولة على حدة. ترفض دول كثيرة، أن يتم نقدها على ايدي جمعيات حقوق الإنسان. تتجاوز كل دولة، الخطوط الحمر، في أسلوب مشابه تماما، وهو ليس حصرا على بعض الأنظمة في العالم العربي، بل قد نجده في أميركا اللاتينية، وبعض أنحاء آسيا، بشكل دراماتيكي ومثير للرعب. هذا التجاوز لمنطق عيش الفرد وحرية رأيه، يتسبب به أمران: أولا أن الدول جميعها تقريبا، تعيش ما يمكن تسميته، بالحالة التكنولوجية الواحدة، تالياً، فإن هناك وسائل اتصال سريعة، لا تستطيع أجهزة الأمن ضبط عملياتها ومراقبتها كما تشتهي، مما يُنتج لدى هذه الأجهزة، قلقا لا يتوقف من احتمال مس دولة أجنبية بهيكلها الحاكم، تحت ذريعة نشر الديموقراطية (مثال على ذلك، الحرب الأميركية على العراق). تتمسك الأنظمة نتيجة لذلك، بحقها في حماية نفسها، وقوميتها وإيديولوجيتها وتاريخها وتراثها. تتحول السياسة المضادة تجاه هذه الدول، حرباً صغيرة، يشنّها النظام على كل مواطن، بشكل مستقل لكن بطريقة مشابهة. أما الأمر الثاني، فهو غياب صدقية الدول التي تدعي حرصها على نشر الديموقراطية في العالم الثالث، مما يزيد الأنظمة شراسة.
إثنتا عشرة قصة، أو حالة إنسانية منتقاة لتبلّغ عن اختصارها للمجتمع. الخلل الأساسي كما يطرحه ديبو، يكمن في النظام السياسي، الذي يخلف وراءه، آثارا تظهر على شكل مفاهيم مغلوطة في الدين والحب والجنس والتعليم وحرص الأهل، الذين يبدون كحراس، لدائرة الإبن – الإبنة الاجتماعية. في معظم القصص، يبدو ديك السلطة متأهبا للانقضاض على كل شخص وتحويله ركاماً، والوقوف فوقه. بدورها، تطفو الكوميديا على العبارة، من دون أن تكون سوداء أو بيضاء. وفي اللحظة التي تشتد فيها أزمة القصة، تشتد فيها الكوميديا. لذلك نقع في كادر أكبر مما قد يبدو كوميديا سوداء ساخرة، لأن صورتنا ههنا جاهزة. كل ما يفعله ديبو، هو أن يقطع عنها الزوائد، ليقربنا أكثر من حقيقة مأساتنا الإجتماعية (رجل يخاف أن يكون قد أدلى بصوته ضد الزعيم، يذهب إلى المعنيين للتأكد بنفسه، على رغم خطورة الأمر. مواطن يدّعي أنه مثلي جنسيا، للالتحاق بجمعية عالمية لإخراجه من البلد. رجل ينال لقب المواطن العالمي، فترفضه جمهورية آرابيا الديموقراطية، وتجرده من مواطنيته العربية. شاب يقرر الهجرة بسبب رشاوى رجال الشرطة، والفساد العام، فيلاحقه الفساد حتى آخر محطة بولمان).
في قصص أخرى، يتداخل العاطفي مع الواقعي، ويتصارع الحلم مع الاحتجاج، ويلتقي النقيض وأحد نقائضه، فالفرح والخوف، والأمل والانكسار، والتأمل والذاكرة، والتلاشي والانتفاض. ويبدو الحب أكثر المشاعر الانسانية هشاشة. يعاق الشعور، ويختنق. فلا سبيل الى البوح به، او استعماله، كمصدر قوة، وكجسر لعبور الحياة. يقابل انكسار الضحية الفيزيائي، انكسار ميتافيزيقي. تحاول الشخصية أن تهرب من مصيرها، وأن تلجا الى الذاكرة، من دون ان يسعفها هذا، لأن الذاكرة مقرونة بحدث مضى ولن يتكرر. حتى لو كان هذا الحدث، فجيعة في أعلى مستوياتها، أي الموت. وهو الموت الذي يحضر كل مرة، كأقصى دلالات الغياب، الذي لا يكون طريا ههنا. فهو محوط بالممارسات القمعية لرجال الشرطة ضد النساء تحديدا. يختار ديبو المرأة، ككائن يغيب لسببين: أولا أن المرأة، كونها أنثى، هي الأسهل، والأقدر على امتاع الرجل. تتحول اقتناعاتها ممرا غير متوقع، لعبور رجال الشرطة إلى فرجها، أو باقي أنحاء جسدها. في هذه الحالة، التعذيب الجسماني لكائن، يؤمّن لكائن آخر نوعين من اللذة، نفسياً وجنسياً. أما حبيبها، فيحمل الصمت كبضاعة لا تجد سبيلا إلى التصريف. العامل الثاني، لاختيار ديبو المرأة، هو أن مثل هذه الحالات، تمثل جزءا من التاريخ السياسي، لا يمكننا الانفصال عنه، وهو لا يدعو الى الافتخار. فالمرأة مكوّن أساسي من مكوّنات النضال ضد الاستبدادية، والسجون السياسية ملأى بالنساء.
المجتمع الذي يطرحه ديبو، يعاني اختناقا مزمنا، وغير مفهوم، لا ينصف أبناءه، وتولد فيه أنظمة عشوائية. في كل قصة، هناك زاويتان، تقفان مواجهتين إحداهما للأخرى من دون تكافؤ، وتحملان خيط السرد بعناية: زاوية المدني، وزاوية العسكري. بينهما صراع غير منصف. يضع القاص كل زاوية في كفة ميزان، بأثقالها ومحيطها، ثم يرجّح الكفة أولا لمصلحة العسكري، الذي يمثل النظام، قبل أن تستقر الحالة على الأمل الذي يأتي مرتديا بذلة الميلودراما المتخيلة. يكون هناك تشابك بين سوسيولوجيا هذا وذاك.
لكن في نهاية المجموعة القصصية، ينحرف ديبو قليلا عن مساره السردي. يقدم حالة شديدة الفرادة، في تكوينها الأدبي، لكنها ذات دلالة حياتية عميقة. قصة “أم علي حديد”، غنية بالمفارقات. تقدم فيها شخصية “مناضلة”، غير مثقفة، انفعالية ولا تتنازل عن موقفها. إنها متمردة بأسلوبها، وهي على النقيض من معظم شخصيات القصص الأخرى، من حيث أنها تنتصر في نهاية الأمر. في هذه القصة بالتحديد، يتهرب القاص، من الخيط السياسي، ليعلن أبعادا جمالية، لقدرته على الكتابة بعيدا من المباشر الفكاهي والذي يراوح في أحيان كثيرة، داخل مربع الاسكتش، فلا يعلق في الكليشيه. إحدى أجمل قصص هذه المجموعة، هي قصة “ام علي حديد”. فيها نكتشف إمرأة قروية من نوع آخر، تمتلك وعيا فطريا بالأشياء، ولا تزيح قيد أنملة عن اقتناعاتها. وهي بذلك تمثل رمزية لإنسان يتطرف لبلوغ حقه. يستبدل النظام العام بنظامه الشخصي، ويرفض الخنوع. وهو بذلك، يقدم مثالا عن الخلل في المؤسسة الدينية والعسكرية، والاجتماعية على وجه التحديد. أما في القصة الأخيرة من المجموعة، فيسلط ديبو الضوء على الجنس، وانتهاك جسد المرأة، كما يحاول التوغل في نوع خاص من العلاقة المثلية، بين معلمة وتلميذتها، ومن ثم علاقة التلميذة برجال آخرين من طريق المعلمة. وفي رأينا الشخصي، أن ديبو استعجل في هذه القصة، لسبب أن نهايتها المفتوحة، جاءت ضعيفة وغير متزنة، كما ان الموضوعات الحساسة التي يطرحها تطبق عليه أدبيا وإن لم يتنازل القاص عن خصوصية تجربته.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى