سوسيولوجية دكتاتور
محمد خالد
يأتي الدكتاتور وعلى جبينه الكارثة
(…)
“لقد رأيت العقل يمتطي حصاناً”.. هكذا صاح الفيلسوف الألماني هيغل منبهراً عندما شاهد نابليون الفاتح يدخل بلاده وينشر فيها القوانين التقدمية الجديدة.
ولكن عبقرياً ألمانياً آخر هو الموسيقار بتهوفن الذي كان قد أهدى سيمفونيته الخامسة (البطولة) إلى نابليون عاد فمزقها أمام الجمهور وقاد الأوركسترا من دون إهداء لنابليون الدكتاتور.
نابليون نفسه اعترف: “لقد كنت دكتاتوراً رغماً عني لأنهم كانوا يعرضون عليّ من السلطة أكثر مما أردت، وأكثر مما كنت بحاجة إليه”.
هل عرض على هتلر وستالين وسالازار وفرانكو وهولاكو وبينوشيه وصدام حسين من السلطة أكثر مما أرادوا، أم أنهم انتزعوها انتزاعاً من مجتمع خائف مدجن مستسلم سلفاً لثقافة القطيع؟
مجتمع أنصاف رجال “تجمعهم زمّارة وتفرقهم عصا”، وإذا تجرأ قليلاً ارتفع إلى مستوى شعب “يخاف ما يختشيش” ينفس عن كربه بالتنكيت على الحكام وشتمهم في الليل والتصفيق لهم في النهار.
المسرحي الألماني برتولد بريخت تهكم على كل دكتاتورية عندما قال: “لقد صوت الشعب ضد الحكومة.. الحل هو تغيير الشعب”.
بهذا الصدد قيل عن بسمارك إنه جعل ألمانيا كبيرة والألمان صغاراً، كما قيل عن نابليون إنه ترك فرنسا أصغر مما وجدها عليه.
أشكال من الدكتاتورية
تاريخ البشرية هو تاريخ دكتاتوري، رغم تعدد الأسماء: (الفرعون الامبراطور القيصر كسرى الشاه الملك الخليفة رئيس القبيلة القائد العسكري رئيس الحزب الولي الفقيه رئيس جمهورية ملكية رئيس الحزب الديني)، تعددت الأسماء والدكتاتورية واحدة.. الشيء الأساسي المشترك بين جميع الأسماء هو أنه لا يقبل الرقابة من أحد، يُحاسِب ولا يُحاسَب، إنه رئيس القطيع وعدو الديمقراطية.
من أشكال الدكتاتورية نشير إلى أربعة: الدكتاتور المثالي الدكتاتور الديناصور الدكتاتور المحلي الدكتاتور البدائي.
الدكتاتور المثالي، هو المستبد العادل، ستجد كثيراً من الناس يرحبون بفكرة الحاكم العادل الذي يغير المجتمع الفاسد بضربة عصا سحرية إلى مجتمع فاضل غير مدركين أن الإصلاح عمل جماعي متدرج يبدأ من الإنسان العادي لا الإنسان المعجزة. التفاؤل العاجز هو بضاعة الإنسان العاجز والشعب العاجز. عن ذلك التفاؤل قال أحدهم: “إن تفاؤلي يلبس حذاء ثقيلاً وعالي الصوت”.
الدكتاتور الديناصور، هو ذلك الذي يمتد بطشه عميقاً داخل شعبه وخارجه وتدفعه شهوة القوة إلى التطلع للخارج لمحاولة السيطرة عليه، أمثال ستالين وهتلر ونابيلون وجنكيز خان.
يبدأ الدكتاتور صناعة محلية ثم يفيض إلى الخارج حسب قوة بلده وميوله الجنونية. في الزمن الحديث، كل رئيس للولايات المتحدة هو دكتاتور دولي شاء أم أبى، إذ إن فائض القوة لبلده يجعله كذلك.
يخشى الدكتاتور كثيراً من وجود الرجل الثاني حوله، لذلك يعمل أن لا يكون هناك رجل ثان بل رجل ثانوي، وإذا ما تجاوز هذا الرجل خط الظن الأحمر للدكتاتور فجزاؤه القتل.
هكذا فعل أبوجعفر المنصور مع قائده أبو مسلم الخراساني، وهكذا فعل صدام حسين مع شقيق زوجته وزير الدفاع (عدنان خير الله) كذلك فعل هتلر مع قائده رومل إذ أوعز إليه بالانتحار ففعل.
الدكتاتور المحلي، هو الدكتاتور المحصور ضمن شعبه، ولكن له نفس صفات الدكتاتور الآخر (التعسف اقصاء الآخر الحريات مقموعة المعارض عدو) إن أصغر مساحة جغرافية في الوطن العربي هي مساحة الرأي الآخر.
أمثال هؤلاء يتملقون شعبهم بادعاء التدين ويشيع تقربه من الله ويركز إعلامه على أنه ولي الأمر الذي دعا الدين لاطاعته، فهو يذكر الله في كل أحاديثه مذكراً بقول فولتير “حتى اللص يقول باسم الله عندما يدخل المفتاح في ثقب الخزانة التي ينوي سرقتها”.
في تاريخنا العربي أن أحد الخلفاء العباسيين كان ظالماً وفي زمنه انتشر الطاعون في بلد مجاور فأبدى خوفه من انتقال الوباء لمملكته. أحد القضاة الشجعان طمأنه قائلاً: “لا تخف.. إن الله أرحم بعباده من أن يجمعك والطاعون في زمن واحد”.
الدكتاتور البدائي، هو ذلك الذي تنتجه المجتمعات البدائية مثل القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، وهو متوحش على شاكلة نشأته، ففي إفريقيا لا يكتفي الدكتاتور بتعذيب خصمه وقتله بل يأكل كبده “كبوليصة تأمين” ضد الحسد وضد تغير اتجاه الريح مستقبلاً حيث يأتي من يأكل كبده هو.
أكثر ما يخيف الدكتاتور اثنان: الكولسترول والديمقراطية، الأول يسد شرايين القلب، والثاني يسد شرايين السلطة، والثاني هو الأخطر.
أقدم وأصغر دكتاتور في العالم وأخفهم دماً هو ذلك الإنسان الذي ابتكر قصة العصا وربط بطرفها حبلاً صغيراً تتدلى منه جزرة، فركب حماراً حروناً ومد العصا أمامه، فسار الحمار طائعاً مختاراً للحصول على الجزرة، ومازال يسير منذ آلاف السنين.
إنها أصغر دكتاتورية مؤلفة من اثنين: (الدكتاتور راعٍ، والرعية حمار). ومن بعد حماري لا ينبت حشيش.