الأزمات وهي تدور حول أمٍّها
د. علي محمد فخرو
خلال شهر واحد حضرت ثلاثة مؤتمرات في ثلاثة بلدان عربية. وكان كل اجتماع يحاول إيجاد مخرج لأزمة عربية مستفحلة: الأولى أزمة الكتاب العربي والثانية أزمة مشاريع التغيير التي تفرضها القوى الاستعمارية على العرب والثالثة أزمة بناء مجتمع المعرفة في أرض اليباب العربية.
أزمة الأمة العربية الرئيسيًّة معروفة، وهذه الأزمات التي تعاد وتتكرًّر مناقشتها حتى الغثيان هي نتائج للأزمة الأم وفروع لجذع شجرة الجحيم العربي. أزمة الأمة العربية هي أزمة الدولة العربية الفاقدة للشرعية الديمقراطية، المنهوبة ثرواتها من قبل قلًّة، المقموعة مجتمعاتها وشعوبها من قبل أجهزة أمنية تكبر في الحجم وتتضاءل في الولاء للوطن وللقيم الإنسانية الكبرى، المستباحة من قبل القوى الاستعمارية من جهة ومن قبل القوى الاقتصادية العولمية من جهة أخرى، المهووسة باستقلاليتها القطرية الضعيفة العاجزة وغير القادرة على وضع اليد في يد العرب الآخرين. الدولة العربية المريضة بكل تلك العلل هي الإشكالية وهي الأزمة، والأزمات الأخرى هي استفراغ من أحشائها المتسمٍّمة وقيح من جروحها المتعفٍّنة ولعنات من روحها الفاوستية الشيطانية الظالمة الجشعة. أزمات الكتاب ومشاريع التغيير والمعرفة، وألف أزمة غيرها، هي جزء من ذلك الاستفراغ والقيح واللًّعنات. وأيٌّ هرب من ذلك الواقع البسيط الواضح في تجلٍّياته هو دوران حول المشاكل التي تطرحها المنتديات وتناقشها وسائل الإعلام ويتحدث الناس عنها في مجالسهم، ولكنها تبقى في حيٍّز الفكر والقول وتمتنع عن الإنتقال إلى حيٍّز صراع وجبروت الفعل وبهجة الحلٍّ والتجاوز.
لنأخذ مثال أزمة المعرفة العربية. إن إنتاج المعرفة هو في الغالب نتيجة جهود الجامعات ومراكز البحوث. فاذا أصرَّت الدولة على ان تكون الجامعة امتداداً للمدرسة الثانوية وحرمت أساتذتها من الحرية الأكاديمية الضرورية لإنتاج المعرفة، بل وأفسدتها بالتدخٌّل في تعيين وترقية أساتذتها وجعل ذلك التعيين وتلك الترقية مربوطين بقبيلة أو عائلة أو أصل وفصل الأستاذ بدلاً من ارتباطهما بانتاج المعرفة، وإذا بخلت الدولة في الصًّرف على مراكز البحوث وصرفت عشر ما تصرفه الدول الأخرى وتجاهلت حتى القليل الذي تنتجه تلك المراكز، فانها بذلك كله ترغم المبدعين على ترك بلدانهم والعيش في الخارج. عنذ ذاك هل يمكن الحديث عن إنتاج المعرفة؟
وإذا تحدًّثنا عن نشر المعرفة واستعمالها في حلٍّ مشاكل الحياة، ألا نحتاج إلى تهيئة الإنسان السًّاعي لاكتساب المعرفة والقادر على توظيفها؟ ألا يحتاج ذلك إلى تعليم أبداعي غير تلقيني ببغاوي، إلى تعليم يعلًّم الطفل حلًّ المسائل وتفكيك ونقد وتركيب المعلومات لتصبح معرفة، وأخيراً إلى تعليم يقوم به أستاذ مهيًّأ تهيئة مهنيًّة عالية تعتمد الجودة والثقافة الواسعة ؟ فكيف سنصل إلى ذلك إذا كانت الدولة تصرف على الجيوش التي لا تحارب وعلى المعدًّات التي تخزًّن حتى تصدأ أضعاف ما تصرفه على المدرسة وعلى مكافحة ظاهرة الأمية المخجلة وعلى وسائل الثقافة الرفيعة؟
وإذا كانت المعرفة ملازمة لتوفر الحرية والتنمية الإنسانية المستدامة فكيف الحلٌّ أمام دولة تعجز عن توفير الشًّرطين؟ ويمكن أن نعدٍّد الجوانب الكثيرة التي تعتمد على نيًّة وفاعلية الدولة لتسهيل بناء مجتمع المعرفة.
وفي الحال يمكن طرح السؤال الآتي: وماذا عن مسؤولية المجتمع كأفراد وكمؤسسات وكثقافة؟ والجواب هو أن المجتمع العربي يشاطر الدولة العربية المسؤولية بالطبع، وهو ما سيحتاج إلى إطلالة أخرى، ولكن تبقى مسؤولية الدولة هي الأكبر وهي الأكثر قدرة على إجراء تغييرات التمكين والدعم والتحفيز والإسراع.
نحتاج دوماً إلى تذكير من يحضرون المنتديات ومن يقيمونها بقول بليغ لتوماس هكسلي: إن أعظم تحقٌّق للحياة يكمن في الفعل وليس في المعرفة’. وكان المخترع العظيم توماس أديسون يردٍّد: لو أننا فعلنا كل الأشياء التي نقدر على فعلها فإننا حرفياً سنفاجأ وندهش أنفسنا ‘إنها أقوال تخرج من قبور أناس حفروا الحياة ولم يكتفوا بدغدغتها كما تفعل الدولة العربية.
القدس العربي