التراجع الأميركي والتسوية الكاذبة
حسين العودات
أصبح انتظار نتائج إيجابية لجولات جورج ميتشل المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط، نوعاً من السذاجة السياسية، وتبريراً للتواكل وانتظار الحلول بدون أساس موضوعي.
فقد سدت الحكومة الإسرائيلية أمامه وأمام غيره مسبقاً الطرقات والسبل كلها، وأبلغت الجميع مباشرة أو مداورة مضمون الاستراتيجية السياسية الإسرائيلية الدائمة، التي ترفض أي تفاوض على تجميد الاستيطان والانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعودة عن ضم القدس بعد إغراقها بالمستوطنات، وعودة اللاجئين وغيرها.
وتطالب في الوقت ذاته بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، قبل البدء بأية مفاوضات، وتعتبر أي نقاش في هذه القضايا الأساسية التي تشكل جوهر الصراع، شروطاً مسبقة للمفاوضات لا تقبل بها، أي أنها تريد مفاوضات بدون جدول أعمال، ما هي في الواقع إلا عبارة عن مباريات لفظية بين المتفاوضين و«مكلمة» لا جدوى منها.
ومازال ميتشل يروح ويأتي، ويقابل هذا وذاك من السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين، دون أن يحصل ولو على وعد من حكومة نتانياهو بأي شيء، وأخذ يتراجع عن طروحاته بعد الجولة الثانية، فتخلى عن مطالبه واحداً بعد الآخر، وصار هدفه وهدف الإدارة الأميركية من ورائه، لا يتعدى مجرد التمني بعقد المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع القناعة الأكيدة بأن لا شيء يأتي بعد هذه المفاوضات، وما الأمر في النهاية إلا لإنقاذ ماء الوجه، وكأن سياسة الإدارة الآن أصبحت المراهنة على الوقت، في انتظار أن يفرجها الله!
أعلن الرئيس أوباما عند توليه مهماته الدستورية مطلع العام (بخطاب استعراضي) رفضه الاستمرار في الاستيطان، حتى لو كان في إطار التوسع «الديمغرافي»، وأكد على أن الحل يكون بقيام الدولتين، وأعاد هذه السياسة وتلك التأكيدات في كلمتيه الموجهتين للعالم الإسلامي من تركيا والقاهرة، وكررها لدى لقائه كل مسؤول عربي أو مشاركته في مؤتمر دولي.
وافترض الجميع أن الإدارة الجديدة ستلزم إسرائيل بتطبيق قرارات اللجنة الرباعية (على الأقل) والسير حسب خارطة الطريق، والكف عن الكذب والمخاتلة والمراوغة والهروب من العمل الجاد للوصول إلى تسوية، وإن لم تفعل، اعتقد المراقبون أن هذه الإدارة ستضغط على إسرائيل، وربما ستهدد بقطع المساعدات التي تقدمها إليها، أو ستقطع هذه المساعدات فعلاً.
واقتنع جميع ذوي الشأن أن جدية الرئيس أوباما لا جدال فيها، وأن حكومة نتانياهو أوقعت نفسها في مأزق، واستطراداً اعتقدوا أن تباشير التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية بدأت تظهر وتأخذ طريقها للوصول إلى النتائج المرجوة.
ولكن ما أن مر شهران حتى بدأت الإدارة الأميركية تتراجع، بدلاً من أن تتراجع حكومة نتانياهو، فاكتفت بالمطالبة بتجميد الاستيطان إلى أجل غير مسمى بدل إلغائه، وأمام إصرار إسرائيل تراجع هذا الأجل إلى ستة أشهر، ومع الرفض الإسرائيلي اكتفت الإدارة الأميركية أخيراً بالإشارة إلى إمكانية هذا التجميد فيما بعد، ثم ازداد التراجع والانكفاء، فتحولت سياسة الإدارة الأميركية إلى مطالبة القيادة الفلسطينية بتفهم المطالب الإسرائيلية و«التساهل والاعتدال».. مع أنه لا شيء في يد القيادة الفلسطينية لتتساهل فيه أو يساعدها على موقف «معتدل» جديد!
وصار المطلب الأميركي في الواقع هو مطالبة الفلسطينيين بالاستسلام، وتتصرف الإدارة الأميركية وكأن الفلسطينيين هم المسببون لوقف المفاوضات، وبالتالي للمأزق الأميركي.
ثم تحول الموقف الأميركي إلى تملق، ففي رسالة وجهها الرئيس باراك أوباما إلى مؤتمر القدس الرئاسي الذي عقد قبل أسبوعين باسم «مواجهة المستقبل»، وصف شمعون بيريز بأنه «رجل الدولة العظيم»، وأظن أنه لا يوجد إسرائيلي واحد مقتنع بهذه الصفة التي أطلقها أوباما على بيريز ذي التاريخ الأسود! وقال أوباما إن ما يجمع الدولتين «رابط أكبر بكثير من التحالف الاستراتيجي»، وأن »الشعبين يتشاركان في الإيمان بالمستقبل«.
وبمزيد من الولوغ في الخطأ والضلال، وجه أوباما تحية إلى نتانياهو معتبراً أن «السلام مع الفلسطينيين ممكن»، رغم مواقف نتانياهو المتطرفة من خلال سياسته، وهو يعرف أن نتانياهو سياسي متطرف متعصب معاد للتسوية، طامع بالأرض الفلسطينية، رافض لجميع القرارات الدولية وعلى رأسها حق العودة، مصر على الاستيطان وضم القدس وعلى يهودية الدولة، بل رافض لأية مفاوضات، مؤمن بفرض التسوية من خلال فرض واقع جديد.. وما دام الأمر كذلك فتحت أي مبرر وجه الرئيس الأميركي التحية له؟
وفي الوقت نفسه، وفي الرسالة نفسها، طالب الرئيس الأميركي محمود عباس بأن يقول لشعبه «إن الوقت قد حان لإنهاء الصراع»، فعلى أي أساس أيضاً سينهي هذا الصراع وشروط نتانياهو تزداد يوماً بعد يوم حتى صارت أكداساً، واستهانته بالحقوق الفلسطينية تنمو، بل استخفافه بإدارة أوباما نفسه بلغ أشده؟
في ضوء هذا كله، يصح الزعم أن جولات جورج ميتشل، وزيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للمنطقة، ووعود أوباما السابقة، هي جميعها مضيعة للوقت، وأن الإدارة الأميركية في مأزق حقيقي، لأن مفاتيح التسوية في يد نتانياهو دون غيره، ويبدو أنه أضاع هذه المفاتيح. وما الحديث عن تسوية أو سلام أو حلول وسط ضمن الشروط الحالية، إلا أوهام أو تخيل أو أحلام ستتبخر إذا طالب العرب بالحد الأدنى من حقوقهم، وهكذا فعلى التسوية السلام.
لقد أصبح العرب الآن أمام الحقيقة العارية، فإما أن يغيروا الشروط القائمة وموازين القوى، أو أن يهيئوا أنفسهم لقبول اتفاقية إذعان صريحة. وما الحديث عن إمكانية الوصول إلى حل، والوعود «الخلّبية» التي يوعد بها العرب، والتهالك على الإدارة الأميركية كي «تنشل الزير من البير»، إلا أضغاث أحلام.
البيان