أوغلو والسياسة الخارجية التركية: فضائل ‘القوّة الناعمة’
صبحي حديدي
رغم أنه لم يتولّ المنصب إلا في شهر أيار (مايو) الماضي، فإنّ غالبية المراقبين للشأن التركي تجمع على أنّ وزير الخارجية الحالي أحمد داود اوغلو هو المهندس الحقيقي للسياسة الخارجية لتركيا، وذلك منذ أن تولى ‘حزب العدالة والمساواة’ الحكم نتيجة الإنتخابات التشريعية، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2002. وبعد أسابيع قليلة على ذلك الحدث، كان عبد الله غل، رئيس الوزراء آنذاك والرئيس التركي حالياً، قد عيّن داود أوغلو مستشاراً خاصاً للشؤون الخارجية، ومنحه صفة سفير فوق العادة. وحين تولى رجب طيب أردوغان رئاسة الوزارة، أبقى على الرجل في الموقع ذاته، قبل أن يقرّر أنّ مكانه الطبيعي هو الخروج علانية إلى منصب وزير الخارجية، وليس ممارسة المهامّ إياها من خلف الكواليس.
وهذا الرجل، الذي لم يتجاوز سنّ الأربعين، والقادم إلى السياسة من الحياة الأكاديمية، إذْ كان أستاذاً للعلاقات الدولية في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وفي جامعتَيْ مرمرة وبيكنت في تركيا، يعتمد مقاربة بسيطة في إدارة السياسة الخارجية التركية، قائمة على مبدأين ليس أكثر. ولقد سبق له أن ناقش الخطوط العريضة للمبدأين في كتابه الشهير ‘العمق الستراتيجي: موقع تركيا الدولي’، الذي صار قراءة إلزامية لكلّ دبلوماسي على صلة بالشأن التركي، رغم أنّ الكتاب غير متوفر في أيّ من اللغات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
المبدأ الأول هو أنّ على تركيا أن تقيم الروابط الوثيقة ليس مع أوروبا والولايات المتحدة فقط، رغم أهمية هذه العلاقات، بل يتوجب تطوير علاقات متعددة المحاور مع القوقاز، والبلقان، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا، والبحر الأسود، وكامل حوض المتوسط. ذلك لأنّ تركيا ليست مجرّد قوّة أقليمية، في نظر داود أوغلو، بل هي قوّة دولية ويتوجب عليها أن تتصرّف على هذا الأساس، فتعمل على خلق منطقة تأثير تركية ستراتيجية، سياسية واقتصادية وثقافية. ولم يكن غريباً أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون ثمّنت عالياً هذه المرونة التركية في التعامل مع محاور مسلمة ومسيحية ويهودية، في العالم العربي والإسلامي، وفي أوروبا وإسرائيل، فأطلقت على تركيا لقب ‘القوّة الكونية الصاعدة’.
المبدأ الثاني هو اعتماد سياسة ‘الدرجة صفر في النزاع’ مع الجوار، من منطلق أنه أياً كانت الخلافات بين الدول المتجاورة، فإنّ العلاقات يمكن تحسينها عن طريق تقوية الصلات الاقتصادية. وفي الماضي كانت تركيا تحاول ضمان أمنها القومي عن طريق استخدام ‘القوّة الخشنة’، ‘لكننا نعرف اليوم أنّ الدول التي تمارس النفوذ العابر لحدودها، عن طريق استخدام ‘القوة الناعمة’ هي التي تفلح حقاً في حماية نفسها’، كما ساجل داود أوغلو في كتابه المشار إليه سابقاً. وهو، على أساس من هذا المبدأ، واثق من أنّ الحاجة متبادلة تماماً بين أوروبا وتركيا: ‘بقدر ما صارت أوروبا محرّك سيرورة التغيير في تركيا، بقدر ما ستصير تركيا محرّك تحويل للمنطقة بأسرها’.
والحال أنّ هذه المقاربات أعطت نتائج دراماتيكة في علاقات تركيا مع جميع جيرانها تقريباً، وعلى حدودها الأوروبية والآسيوية، وخارج تلك الحدود أيضاً، كما في الدور الذي سعت إلى لعبه في لبنان حين شاركت في قوّات الأمم المتحدة التي نُشرت هناك بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006؛ وفي احتضان المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية غير المباشرة، وإقامة علاقة ثلاثية مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية وحركة ‘حماس’، ثمّ القيام بجهود ميدانية مكوكية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة مطلع العام، واكتساب شعبية واسعة في الشارع العربي بسبب انسحاب أردوغان من سجال مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في ملتقى دافوس. هذا بالإضافة إلى دور تركيا المتزايد في أفغانستان والباكستان والهند. ولعلّ خيرة ثمار هذه ‘السياسة الناعمة’ تجلت في العلاقات التركية ـ السورية، حين سعى النظام السوري إلى كسر عزلته الإقليمية، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، عن طريق الإندفاع التامّ نحو حضن أنقرة. وهكذا تمّ توقيع سلسلة من الاتفاقيات التجارية التي كان من الواضح أنّ الكفّة فيها تميل بشدّة لصالح الاقتصاد التركي على حساب الاقتصاد السوري، سيّما وأنّ البون شاسع ومختلّ بنيوياً بين ميزانَيْ التجارة في البلدين. كذلك تغاضت دمشق عن شحّ مياه نهر الفرات بسبب تغذية السدود التركية المتزايدة، وتعاونت مع الأجهزة الأمنية التركية في تعقّب أنصار ‘حزب العمال الكردستاني’، الـ PKK، الذين كانت دمشق تزوّدهم بالسلاح ومعسكرات التدريب حتى عام 1998، بل وحدث مراراً أنها سهّلت قيام الأتراك بعمليات إغارة على القرى السورية المحاذية للحدود مع تركيا، بهدف اعتقال أولئك الأنصار. الأهمّ من هذه كلها أنّ النظام السوري أقرّ، ضمنياً، بالسيادة التركية التامة على لواء الإسكندرون، وهي منطقة سورية واسعة قامت تركيا بغزوها سنة 1938، قبل أن تسلخها سلطات الإنتداب الفرنسية عن الجسم السوري، وتضمّها إلى تركيا.
وفي مسارات تطوّر العلاقات السورية ـ التركية، لم تكن عضوية تركيا في الحلف الأطلسي تقلق الأسد الأب إلا في بُعد واحد جوهري: احتمال تطوّر العلاقات التركية ـ الإسرائيلية إلى مستوى يضع النظام السوري بين فكّي كماشة. وبالطبع، لم تكن الجوانب العسكرية في أيّ تناغم تركي ـ إسرائيلي هي وحدها مدعاة تخوّف الأسد، إذْ كان من الطبيعي أن يضع الأمر في سياقات أخرى ليست أقلّ خطورة، إنْ لم تكن أخطر: النزعة التوسعية التي لم تخمد تماماً في نفوس جنرالات تركيا، تحدوهم في ذلك آمال استعادة الأمجاد الإنكشارية؛ والأمن المائي في أخطاره المزدوجة على سورية (كما تتمثل في تخفيض كميات المياه المتدفقة إلى سورية، مقابل ازدياد مقاديرها في إسرائيل)؛ والمسألة الكردية، التي يمكن أن تضع دمشق في موقع الحلقة الأضعف، وليس الجهة مثيرة الشغب وصاحبة المبادرة والمناورة، كما كانت في السابق؛ فضلاً عن الاحتمالات المتعددة، وبعضها يظلّ غامضاً محفوفاً بكلّ المخاطر، في تطوّر مستقبل العراق.
ومنذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ثم بعدئذ اتفاقات أوسلو ووادي عربة، اعتبرت أنقرة أنها باتت في حلّ من أيّ حرج يخصّ تطوير علاقاتها مع الدولة العبرية، وأنّ العتب العربي والإسلامي رُفع أو ينبغي أن يُرفع. لن نكون ملكيين أكثر من الملك، قال الأتراك آنذاك، وليس للعرب أن يأخذونا بجريرة ما يفعلونه هم أنفسهم: العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية، والتطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي والسياحي. وتلك المحاججة بدت سليمة للوهلة الأولى، ولاح أنّ قصة الحبّ التركية ـ الإسرائيلية القديمة يمكن أن تنقلب إلى تعاون وثيق قد يختلف في الكمّ فقط عن صِيَغ التعاون مع الدول العربية والإسلامية الأخرى، ولكن ينبغي له أن لا يختلف في الكيفية. وبهذه الروحية جرى التوقيع على تفاهم 1996 العسكري التركي ـ الإسرائيلي، وأعقبته مناورات عسكرية مشتركة، واتفاقات تعاقدية حول أشكال تبادل الخبرات والمعلومات الأمنية وتنسيق الصناعات العسكرية.
وعلى خلفية كهذه بالذات يمكن قراءة ردود الأفعال السورية، بل والعربية إجمالاً في الواقع، على ذلك التفاهم في حينه، والتي اتخذت إجمالاً صيغة استنكار وإدانة وشجب تارة، وانزلقت طوراً إلى مستوى إيقاظ مشاعر العداء العتيقة بين العرب والأتراك، أو حتى بين العروبة والطورانية! ليست تلك المشاعر شبيهة بحال الارتياح التي تنتاب اليوم شرائح واسعة في الشارع العربي إزاء التوتر الراهن بين تركيا وإسرائيل، سواء جرّاء القرار التركي باستثناء مشاركة سلاح الطيران الإسرائيلي في مناورات ‘نسر الأناضول’ التي كان من المقرر أن يجريها الحلف الأطلسي في الأجواء التركية؛ أو بسبب قيام قناة تلفزة حكومية تركية بعرض المسلسل المحلي ‘انفصال’، الذي يعيد تمثيل مشاهد من البربرية العسكرية الإسرائيلية في غزّة. وليس من الواضح، حتى الساعة، ما إذا كانت نظرية داود أوغلو في ‘القوّة الناعمة’ سوف تعيد الدفء مجدداً إلى العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، وإنْ كانت العلائم تشير إلى أنّ التشنج الراهن لا يتجه نحو القطيعة.
قصة النجاح الثانية هي العلاقات التركية ـ الإيرانية، وذلك رغم أنّ طهران لا تنظر بعين الرضا إلى عضوية أنقرة في الحلف الأطلسي، كما أنّ البرنامج النووي الإيراني لا يبدو بريئاً تماماً في أعين الأتراك. غير أنّ مصلحة البلدين في ضبط أخطار مختلف المجموعات الكردية، مقاتلة كانت أم مسالمة، وضرورة التوصل إلى سلسلة تفاهمات مشتركة في العراق الراهن وفي عراق ما بعد انسحاب القوات الأمريكية، أتاح للقوّة الناعمة أن تنتصر هنا أيضاً. ومؤخراً، حين أُعلنت نتائج الإنتخابات الرئاسية الإيرانية، كان لافتاً تماماً أن تكون تركيا بين أبكر الدول التي وجهت تهنئة رسمية إلى الرئيس المنتخب محمود أحمدي نجاد، رغم ما كانت شوارع طهران تشهده من تظاهرات احتجاج واتهامات بتزوير إرادة الناخبين. أليس في هذا بعض التناقض لدى دولة مثل تركيا، تحرص على نظافة صندوق الإقتراع، وتطمح إلى عضوية الإتحاد الأوروبي؟ ‘من الخطأ أن يرى الناس وجهاً واحداً لهذا التطوّر’، أجاب داود أوغلو، مذكّراً بالدور الإيجابي الذي لعبته أنقرة من خلف الكواليس، في الإفراج عن موظفي السفارة البريطانية في طهران، مقابل الإفراج عن خمسة دبلوماسيين إيرانيين كانت القوات العسكرية الأمريكية تحتجزهم في العراق منذ 2007.
كذلك كان مدهشاً أن تتوصل تركيا إلى اتفاق مع أرمينيا، حول فتح الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية، رغم ما يفرّق البلدين من تاريخ حافل بالحساسيات الثقافية والدينية والسياسية، فضلاً عن الأحقاد والمجازر، ورغم أنّ مشروع الاتفاق كاد أن يضع تركيا في طلاق مع أبناء العمومة الترك في أذربيجان، حين لاح أن أنقرة ستُسقط أحد شروطها الأساسية للصلح مع أرمينيا، أي الإنسحاب من منطقة ناغورني ـ كاراباخ التي كان الأرمن قد احتلوها سنة 1994 في ختام حربهم مع أذربيجان. مدهشة، أيضاً، نجاحات الدبلوماسية التركية في تطبيع العلاقات مع بلغاريا، والنجاحات التي حققتها ‘حركة الحقوق والحريات’، الحزب الناطق باسم الإثنية التركية في بلغاريا، وإيصال عدد من البلغار الأتراك إلى الحكومة، وإسقاط مشروع قرار في البرلمان حول مجازر الأرمن. إلى هذا، يشير داود أوغلو بفخار إلى التوقيع مؤخراً على اتفاقية بين تركيا ورومانيا وهنغاريا والنمسا، حول أنبوب Nabucco الذي سينقل الغاز من أذربيجان وآسيا الوسطى، ثمّ من العراق وربما إيران لاحقاً، عبر الأراضي التركية.
البعض يرى أنّ داود أوغلو هو ‘كيسنجر تركيا’، والبعض الآخر لا يتردد في القول إنه أهمّ وزير خارجية في تاريخ تركيا، كما أنّ خصومه في صفوف الأتراك القوميين يرتابون في أنه يمثّل سياسة ‘نيو ـ عثمانية’. لكنّ المعجبين به في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وموسكو ليست لديهم أيّ أوهام حول محاسن استخدام ‘القوّة الناعمة’، وكذاك مساوىء صعود قوّة أقليمية مسلمة ثانية، بعد إيران، في منطقة أخطار كبرى تتجاور فيها آبار النفط مع الرمال المتحركة.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –