صبحي حديديصفحات العالم

ذكرى انهيار جدار برلين: هل تهاوت الاحجار وحدها؟

null
صبحي حديدي
بعد أيام، في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر)، في الذكرى العشرين لانهيار جدار برلين، سوف تشتغل آلات الدعاوة في ‘العالم الحرّ’، الولايات المتحدة أوروبا بصفة خاصة، مثل مطاحن مجنونة صاخبة لا تنتج، مع ذلك، سوى سردية قديمة مملّة، وكليشيهات عن ‘الحرب الباردة’ تمّ تصنيع واصطناع الكثير من مفاهيمها ومضامينها، وبرهنت الأيام أنها بالغة السذاجة شديدة الإبتسار. تقول تلك السردية: في سنة 1961 أقام شيوعيو برلين الشرقية جداراً يمنع مواطنيهم المقهورين من الفرار إلى برلين الغربية، وبالتالي إلى الحرّية، والعيش الرغيد، والسعادة. وفي سنة 1989 انهار الجدار على يد المناضلين ضدّ القهر الشيوعي، وبهدف توحيد ألمانيا الأمّ، بدعم من ‘العالم الحرّ.
وهكذا، حتى قبيل بدء الاحتفالات، استمعنا إلى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش يقول، في احتفال مهيب شهدته برلين قبل أيام، صحبة المستشار الألماني الأسبق هلموت كول وآخر الزعماء السوفييت ميخائيل غورباتشيف: ‘أحداث سنة 89 لم تطلقها بون أو موسكو أو واشنطن، بل انطلقت من قلوب وعقول أبناء شعب حُرم طويلاً من حقوق وهبها لهم الله’. ذلك لم يمنع الزعيم السوفييتي الأسبق من التأكيد، على نقيض الحكمة المشاعة، أنّ موسكو وباريس ولندن كانت ضدّ عملية التوحيد، الأمر الذي أماطت اللثام عنه ـ قبل أن يفعل غورباتشيف، في الواقع ـ وثائق رسمية تمّ رفع السرّية عن محتواها مؤخراً.
وفي نهاية نيسان (أبريل) 2003، حين انخرط في تفاخر بلا حدود حول ‘الإنتصار’ الأمريكي في العراق، شبّه وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رمسفيلد حدث احتلال العراق بسقوط جدار برلين، ودخول الحلفاء إلى باريس بعد تحريرها من الإحتلال النازي، معتبراً أنّ التاريخ ‘لم يشهد كلّ هذا العدد الكبير من المخطئين كلّ هذا الخطأ، في تقدير كلّ هذه الفضائل’ الخاصة بالوجود العسكري الأمريكي في العراق. والأرجح أنّ رمسفيلد نفسه لن يجرؤ، اليوم، على إعادة تكرار تلك العبارة، ليس لأنّ ‘كلّ هذا الخطأ’ في احتلال العراق صار جلياً واضحاً لا غبار عليه، فحسب؛ بل لأنّ ‘كلّ تلك الفضائل’ صارت اليوم كابوساً يومياً، بعد انقلابها إلى مستنقع يومي.
هذا، في كلّ حال، طراز من البلاغة سوف يتفاقم ويتعالى طيلة الأيام القادمة، ولكنه لن يحجب سلسلة الحقائق الفعلية الأخرى التي اكتنفت سردية الجدار، وكانت أكثر اقتراناً بالواقع والوقائع على الأرض. الجدران من هذا القبيل تظلّ، مبدئياً، مدانة بغيضة، من جانب أوّل؛ وهي، من جانب ثانٍ، محاولات حمقاء تعسفية لاصطناع الحدود والموانع، وافتراض قدرتها على الحدّ والمنع. غير أنّ التاريخ يسجّل (كما في الكتاب الممتاز ‘قتل الأمل’، للمؤرّخ الأمريكي وليام بلوم) أنّ السبب الرئيسي لإقامة الجدار لم يكن حجز حرّية أهل برلين الشرقية في الإنتقال إلى برلين الغربية، إذْ كان الآلاف من هؤلاء يعبرون الحواجز كلّ صباح للعمل، والعودة مساء إلى بيوتهم.
في عبارة أخرى، كان أوّل أسباب إقامة الجدار هو الحدّ من استنزاف سوق العمل الألمانية الشرقية، والجهد المنظّم لاستمالة أفضل الخبرات العلمية والتكنولوجية، على نحو مسبق ومدروس تحت إشراف المخابرات المركزية الأمريكية، سيما وأنّ برلين الغربية كانت وكر عمل ناشط مكثف لاستخبارات فرنسية وبريطانية وأمريكية، إلى جانب الألمانية. ولقد شهدت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ ذاتها على هذه الحقيقة حين نشرت، يوم 27/6/1963، أنّ ‘برلين الغربية عانت من مشكلة اقتصادية بسبب الجدار، إذْ خسرت 60 ألف عامل ماهر كانوا يتدفقون كلّ يوم من بيوتهم في برلين الشرقية إلى أماكن عملهم في برلين الغربية’.
واليوم صار معروفاً أنّ تلك الأجهزة الإستخباراتية الغربية، والأمريكية منها في الطليعة، نفّذت عشرات العمليات الهادفة إلى زعزعة النظام في أوروبا الشرقية، بينها على سبيل الأمثلة: نسف محطات توليد الكهرباء، والمصانع، وأرصفة السفن، والمنشآت العامة، ومحطات الوقود، والمواصلات العامة، والجسور؛ وبلغ الامر مستوى تسميم 7 آلاف بقرة، في تعاونية لإنتاج الحليب والألبان، وإضافة الحساء إلى حليب الأطفال في المدارس، ومحاولة تسميم السجائر بمادّة الكانثاريدين، والسعي إلى تخريب مهرجان الشبان العالمي عن طريق إرسال دعوات وبطاقات سفر مزيفة وتنفيذ أعمال تفجير في أرجاء المهرجان، وعشرات العمليات الأخرى.
وممّا لا يصحّ نسيانه، في كلّ حال، تلك الحقيقة الكبرى التي تقول إنّ أوروبا الشرقية انتقلت إلى المعسكر الشيوعي، بل أنّ ذلك المعسكر كان قد تأسس أصلاً، بسبب أنّ أدولف هتلر حوّل الدول الأوروبية الشرقية إلى طرقات فسيحة زحفت عليها قوّات الرايخ الثالث لتدمير الإتحاد السوفييتي، برضا وعلم وتواطؤ الديمقراطيات الغربية آنذاك. وكان أمراً طبيعياً أن يسارع السوفييت إلى ضمان سدّ تلك الطرقات فور توفّر الفرصة، حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكان الإسهام السوفييتي في تحرير تلك البلدان من الإحتلال النازي هو الحاسم والمركزي. بعض المؤرّخين الغربيين يذهب أبعد فيقول إنّ موسكو، في مؤتمر يالطا الذي شهد تقاسم النفوذ العالمي بين القوى العظمى، تسامحت قليلاً مع الغرب، وكان في وسع السوفييت أن يقضموا أكثر، وأبعد!
كذلك يتوجب أن تعود الذاكرة إلى ذلك اليوم من شهر شباط (فبراير) عام 1946، حين بعث القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو تلك ‘البرقية الطويلة’، التي ستدخل التاريخ بوصفها التبشير الإيديولوجي الأوّل بالحرب الباردة القادمة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي. صاحب البرقية كان جورج كينان، الذي سوف يكتب المقال الشهير في مجلة Foreign Affairs بتوقيع X، فيستحق عليه لقب ‘نبيّ الحرب الباردة’ بلا منازع. وفي البرقية، كما في المقال، حاجج كينان بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي أمام ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي، سيكون في صالح الإتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الإنتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية.
لكن المحتوى البراغماتي لمحاججة كينان لم يكن يدور حول ملء البطون الجائعة، بقدر ما كان يستعجل تطويق الإنهيار الوشيك في أوروبا، والسيطرة على تعطش الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى ملء فراغ القوّة هنا وهناك، واستخدام سلاح المعدة الخاوية لضبط الأرواح الهائمة، والعقول التي تُحسن استغلال الخراب. وكان كينان يريد للولايات المتحدة أن تتولى زمام ‘العالم الحر’، وبالتالي زمام العالم بأسره خارج الملكوت الشيوعي، عن طريق استخدام كيس الطحين الذي سوف يكمل العمل الذي قامت به الدبابة والقاذفة أثناء سنوات الحرب وتحرير أوروبا.
وكانت ماري كالدور، الباحثة البريطانية المرموقة المختصة بالعلاقات الدولية وسياسات التسلّح، قد أطلقت على الحرب الباردة صفة بديعة بالفعل، ودقيقة تماماً في الآن ذاته: حرب المخيّلة! ذلك لأنّ فريقَي هذه الحرب، التي ظلّت إفتراضية بالطبع، لم يكونا بصدد التحضير لمواجهة عسكرية فعلية تردع الطرف الخصم، واكتفيا بترويج ـ وأحياناً ممارسة! ـ هذه الحرب في نطاق المخيّلة، وعن طريق تضخيم الإحساس بأنها استمرار للحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ بعد، حتى إذا كانت قد وضعت أوزارها.
ولقد حدث أننا أصغينا إلى ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي السابق، وهو يهجو الغاز الروسي، وكأنّ هذا السائل الطبيعي جيش جرّار وقوّة إمبريالية روسية جديدة، تسعى إلى قهر الجمهوريات السوفييتية السابقة، وسائر بلدان أوروبا الشرقية، أو إعادة احتلالها ربما. كما أصغينا إلى الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين وهو يهجو الولايات المتحدة بدوره، بل يصفها بـ ‘الرفيق الذئب الذي يعرف مَنْ يفترس، ويزدرد فريسته دون أن يصغي إلى أحد’… فهل يُلام المرء إذا تمتم وهمهم وتساءل: أهذه فصول جديدة من الحرب الباردة؟ هل نستعيد حروب المخيّلة من جديد؟ وهل هذا استئناف لأواخر خطابات التصعيد بين طرفَيْ الحرب الباردة السالفة، أم هو ذرّ لمزيد من الرماد في مزيد من العيون؟
أم نعيد قراءة جون غراي، في كتابه ‘الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة’، حين اعتبر أنّ الديمقراطية واقتصاد السوق في حال تنافس، وليسا في حال شراكة؛ وتجارب اقتصاد السوق القديمة والحديثة برهنت ـ في أوقات التأزم خصوصاً ـ على سطوة الدولة أكثر من سطوة السوق، وعلى خضوع اليوتوبيا للسياسة الواقعية (الـ Realpolitik في عبارة أوضح) التي تفرضها المصالح والأجندات السرّية، وليس الإستثمار والتنافس الحرّ وقوانين الأسواق؟ غنيّ عن القول إنّ هذا ليس رأي المبشّرين القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين (أو لاحقاً، ساعة سقوط بغداد!) هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية، اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة على هيئة خاتم البشر الذي بشّر به فرنسيس فوكوياما، واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها تماماً من الأزمات والهزّات والتشوّهات.
أكثر من ذلك، لم يتردد هؤلاء في الجزم بأنّ القرن الحادي والعشرين سوف يكون أوّل قرون الرأسمالية الصافية الصرفة، إذا ما تذكّرنا أنّ القرن العشرين خالطته شوائب غير صغرى مثل الشيوعية والنازية والفاشية والأصولية! فماذا يقولون اليوم في اعتلال هذا القرن الرأسمالي الصافي منذ السنة الثانية في تدشينه، على يد حفنة رجال مستعدّين لممارسة الإنتحار الجماعي، وليس على يد الجيوش والقنابل النووية والبورصات العملاقة؟ لعلّنا نقرأ المعلّق الأمريكي الشهير توماس فريدمان، وهو ينبّهنا إلى أمر جلل بالغ الخطورة، كنّا ـ كما يلوح في ناظره ـ عنه غافلين: أنّ عالم ما بعد الحرب الباردة ليس أحادي القطب (حيث أمريكا هي القوّة الكونية الأعظم والأوحد)، بل متعدّد الأقطاب (حيث ثمة قوى عظمى عديدة مثل فنزويلا هوغو شافيز تحديداً، سلاحها الجبّار في مواجهة أمريكا هو حفر المزيد من آبار النفط، ليس أكثر)؛ وأنّ النفوذ الأمريكي في السياسة الدولية لا يتراخى وينحسر فحسب، بل باتت واشنطن عاجزة حتى عن علاج صغرى أزمات الكون وأدناها شأناً! ألا يبدو هذا الخطاب وكأنه استُلّ، في تسعة أعشار مفرداته، من باطن قواميس الحرب الباردة إياها، التي يوحي فريدمان أنها طُويت وانقضت وانقرضت؟
وكانت الذكرى العاشرة لانهيار جدار برلين قد شهدت اتضاح المزيد من الحقائق التي تكذّب فورات الإنتصار التي تمّ تصنيعها وإعادة تصنيعها وإشاعتها، في صيغة كليشيهات جاهزة وسردية مبسطة. على سبيل المثال، كانت صحيفة USA Today الأمريكية قد نشرت التالي، يوم 11/10/1999: ‘حين انهار جدار برلين، تخيّل الألمان الشرقيون حياة طافحة بالحرّية حيث البضائع الإستهلاكية متوفرة بكثرة، ومشاقّ الحياة أقلّ. بعد عشر سنوات، يقول 51 بالمئة منهم إنهم كانوا أكثر سعادة في ظلّ الجدار’. فهل تبرهن الذكرى العشرون انّ الحجارة وحدها هي التي انهارت، وبقي السلوك وتواصلت الثقافة؟
أليس أحدث الجدران، بأبشع أغراض العزل والفصل العنصرية والديموغرافية، هو ذاك الذي شيّدته الدولة العبرية، حليفة ‘العالم الحرّ’ المدللة، على أرض فلسطين المحتلة؟

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى