صفحات مختارة

مجتمعات العمل: بين ألم العمل وكآبة الكسل

إبراهيم غرايبة *
لماذا تراني أشتغل كثيراً؟ يتساءل كلود ليفي ستروس، ويجيب: عندما أشتغل، أعيش في الواقع لحظات ألم عديدة، لكني حين لا أشتغل، أحس بضجر كئيب ويخزني ضميري. إن حياة العمل ليست أكثر حسرة من حياة الكسل، لكنها على الأقل لا تجعلنا نشعر بأن الزمن يمر بسرعة.
والواقع أنها مقولة تمثل رأي عدد كبير من الناس، وحيرتهم أيضاً بين العمل القاسي الممل، والمؤدي إلى الإنتاج والعزلة والوحدة، وبين الكسل المكئب والمؤدي إلى الراحة والهدوء والصحة والخواء والشعور بالتفاهة.
ما المقياس الصحيح للعمل والإنتاج؟ ما هو العمل؟ لماذا نعتبره الموظف (في القطاع العام أو الخاص) الذي يذهب إلى مكتبه في الصباح ويعود في المساء يعمل بمجرد حضوره إلى مكتبه، ولماذا نقيس العمل بالمكافأة المالية التي يتقاضاها الشخص؟ ولا نرى العمل في البيت سواء للرجل او المرأة عملاً ولا نعده إنتاجاً، برغم أنه يدر دخلاً، أو يوفر كثيراً من النفقات والاحتياجات الضرورية للبيت والأسرة، ويوفر على المجتمع والدولة كثيراً من المعاناة والمشكلات المتوقعة، ماذا سيحدث لنا لو تخلى الآباء والأمهات عن تنشئة أبنائهم وحمايتهم والعناية بهم، لنتخيل مصير المجتمعات والدول والحياة بعامة في غياب العناية الأسرية والتزام الوالدين نحو أبنائهم، ولكنا لا نعد ذلك عملاً أو إنتاجاً.
عندما أكتب هذه المقالة وأرسلها إلى الصحيفة وتدفع لي بالمقابل يكون ذلك عملاً، وعندما يكتب شخص آخر المقالة نفسها وربما يكتب أهم منها بكثير ويرسلها إلى صحيفة ولا تنشر أو لا يرسلها ابتداء، هل يعد ذلك عملاً؟ المصلون الذين يذهبون إلى الصلاة في المسجد لا تعد صلاتهم عملاً، ولكن الإمام والمؤذن وموظف الأوقاف الذين يقومون بالعمل نفسه يعتبرون عاملين منتجين ويتقاضون أجراً وتقاعداً وتأميناً صحياً.
لنفكر في الأعمال من مدخل آخر، ماذا لو امتنعت عن عملي وقررت الإضراب احتجاجاً على مستوى الأجور أو انتهاك حقوق الإنسان في رواندا، ماذا سيحدث للحياة والناس؟ ماذا سينقصهم؟ بماذا ستتأثر احتياجاتهم؟ ماذا لو توقفت الصحف كلها عن الصدور؟ وتبعتها محطات الإذاعة والتلفزة ومواقع الإنترنت؟ هل ستتراجع زراعة القمح وإنتاج الخبز؟ هل ستتوقف مراكز الرعاية الصحية؟ هل سترتفع حرارة الناس أو يجوعون أو يعرون أو يتشردون؟ ولكن ماذا لو توقف عمال النظافة عن العمل؟ لنتخيل حياة الناس بلا عمال نظافة!
وبرغم ذلك فإنني والزملاء الكتاب نعتقد أننا أشخاص مهمون، ونمثل عصب الحياة وعمودها الفقري، دون أن نلاحظ أن ثلاثة أرباعنا بحاجة إلى علاج وتأهيل، وبرغم أن الكتابة في المطلق عمل جميل ومهم ويضيف إلى حياة الناس أشياء كثيرة فإنه لا يكاد يكون واحد بالمئة مما نفعله ينطبق عليه ذلك، وما سواه فمن لغو الكلام وتوافه الأمور، ومما يحتاج إلى عمال النظافة لتخليص الناس منه.
لنتخيل الوفر الممكن تحقيقة لو أن خمسة ملايين شخص في الدول العربية في المؤسسات الحكومية والخاصة، مدراء يعمل مساعدوهم أعمالهم، ومساعدون يستطيعون أداء عملهم الموكول إليهم بربع الوقت المخصص، وعاملون يمكن للكمبيوتر أن يؤدي أعمالهم، ومهندسون لا يزيد عملهم شيئاً ولا ينقص، وأطباء يمكن للصحة العامة أن تكون بدونهم أفضل، ومعلمون وصحافيون لم يعد لهم جدوى، وحراس وسكرتيرات وسائقون ومراسلون ومندوبون صحافيون ومخرجون وآخرون لا يعرف أحد ماذا يعملون أو أنهم لا يعملون شيئاً.
سيقل الضغط على الضرائب والموارد العامة، والمواصلات والنقل، وتنخفض نفقات الاتصالات والماء والكهرباء والطاقة، ستقل الحاجة إلى ابنية وأجهزة كثيرة ومكلفة ومعقدة، وستنخفض الحاجة إلى سيارات فخمة وتالفة مستوردة، ويختفي الزحام في الطرقات، وتنخفض تكاليف الحياة، وسيزيد الإنتاج ويتقدم العمل بالمتبقين من الناس، ويمكن فقط بخمس الوفر الممكن تحقيقه تقديم المكافآت نفسها لهؤلاء الأشخاص التي كانوا يتقاضونها بدون أن يعملوا، وربما يمكن تأهيلهم وتدريبهم بالمبلغ نفسه ليشاركوا في أعمال حقيقية ومنتجة تضاعف الناتج المحلي والقومي، وتوقف التضخم.
كان الرئيس الأميركي الثامن عشر يوليسيس غرانت يتوقع الحرب الأهلية وكان قائداً عسكرياً، ولكن أحداً لم يستمع إليه، فترك الخدمة وانصرف إلى الشراب وغرق في اللاوعي، وعندما وقعت الحرب الأهلية عينه الرئيس إبراهام لنكولن قائداً لجيوش الاتحاد (الشمال)، وقد أخذ منه التزاماً بألا يشرب في أثناء النهار، وظل غرانت ملتزماً وعده، وانتخب رئيساً للولايات المتحدة، وظل ملتزماً وعده للنكولن، فكان في المساء بعد انتهاء العمل، يجلس في «لوبي» فندق قريب من البيت الأبيض، ويلتقي رجال السياسة والمال، ويتحدثون ويشربون ويناقشون شتى المسائل ويؤسسون لقرارات واتجاهات كثيرة في العمل العام، وهكذا فقد نشأ تقليد «اللوبيات» ونشأت مؤسسات كبرى ومعقدة للتأثير في الرأي العام والقرار السياسي، واعتزل غرانت السياسة، وكتب مذكراته الشخصية التي تعد في نظر كثير من النقاد واحدة من أهم مئة رواية صدرت في القرون الثلاثة الأخيرة، كيف تطور الثقافة والتقاليد مؤسسات جديدة وكيف تطور العمل والسياسة والاقتصاد؟ كيف ينشئ أسلوب الحياة موارد وأعمالاً ومصالح جديدة؟

* كاتب أردني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى