التجديد المسكوت عنه
د. علي محمد فخرو
لا يحتاج الإنسان إلاُ أن يزور المكتبات العربية في مختلف العواصم حتى يتأكد من أن موضوع السنًّة، والجزء الفقهي منها على الأخص، قد أصبح شاغلاً رئيسيَّاً للكثير من الكتَّاب والمفكرين العرب. هناك موضوع تحليل ونقد وتنقيح وتجاوز كتب الحديث من أجل شطب الموضوع منها لأسباب سياسية أو مذهبية أو أنتهازية شخصية، ومن أجل مراجعة منهجية تصنيفها التراثي القديم، وذلك حتى لا يوجد تعارض بين بعضها وبين القرآن الكريم أو سمو الشخصية النبوية ومكانتها أو المنطق العقلي أو أحداث التاريخ غير المزوًّر.
هناك موضوع أصول الفقه، الرئيسيًّة والتكميلية منها، والتي تحتاج إلى مراجعة متعمٍّقة لتأخذ بعين الإعتبار مستجًّدات الحياة في المجتمعات الإسلامية ولتساهم في تحرير الشخصية المسلمة من السٌّقوط المذهل في عالم الخرافات والتفاصيل المضحكة والخنوع أمام كل سلطات الاستبداد والإنشغال بالهوامش على حساب الأولويات الكبرى. وهناك على الأخص حاجة ملحًّة لفقه السياسة الذي سيعطي أولوية كبرى لحقوق الإنسان ولإرجاع كرامة المرأة المسلمة التي استبيحت وشوٍّهت ولعدالة توزيع الثروة المادية والمعنوية في المجتمعات العربية والإسلامية وللحكم القائم على الشرعية الديمقراطية والشفافيًّة وتداول السلطة وتوازن قوى المجتمع مع قوى الدولة.
هناك وضع ضوابط معيارية وتنظيمية ومؤسسيًّة لحركة الإجتهاد بعد أن أصبحت في حالة فوضى، وعلى الأخص في وسائل الإعلام وساحات الكلام والخطاب. وهو موضوع يجب أن يأخذ بعين الإعتبار التوسٌّّّع الهائل في العلوم، بما فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي تستدعي إنهاء الإجتهادات الشخصية والإنتقال إلى الإجتهادات المؤسسية التي تضمُّ عالم الدٍّّّّّّين مع علماء العلوم الأخرى من أجل أن يكون الحكم الفقهي مرتبطاً ومتناغماً مع ما يجري في الواقع ومع وتيرة المستجدًّات المتسارعة في حقول العلوم والتكنولوجيا والسياسة والإقتصاد والثقافة.
كل ما سبق مطروح في مئات المؤلًّفات الرًّصينة القلقة على ما أصاب حقل السنًّة من تشويهات وإنحرافات عبر التاريخ وفي أيامنا التي نعيش. وهي جميعها تدرك أن الخروج من تخلُفنا الحالي وولوج التنمية الإنسانية الشاملة لا يمكن أن يتمً بمعزل عن التجديد الثقافي. وفي قلب الثقافة العربية يقبع الدٍّين الإسلامي الذي كثرت معاول السلطات الجائرة والمؤسسات المتصارعة والأفراد الفاسدين المفسدين في تشويه أرضيًّته بألف حفرة من حفر الفهم الخاطئ والجمود والخرافات وإعلاء التفاصيل الصغيرة الفرديُّة على القضايا المجتمعية الكبرى للأمًّة. أمام ذلك يعجب الإنسان، ودعنا نكون صريحين إلى أبعد الحدود، من السكوت المريب للغالبية السًّاحقة من علماء الفقه، فكأن الأمر لا يهمهم، وكأنًّهم يريدون إبقاء الأمور على ماهي عليه لأنُّها تصبٌّ في مصلحة نفوذهم ومكانتهم، ولتذهب الأمًّة إلى الجحيم. ويقابل ذلك المواقف المتذبذبة الخائفة للكثير من المؤسسات الإسلامية، السياسية منها والثقافية والدينيًة، التي لا تريد أن تدخل في هذه المناقشات والسٍّجالات الهامُة مع أنها تعلم جيداً أن حلول الكثير من قضايا السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم والتكنولوجيا، أي قضايا التنمية الإنسانية في المجتمعات العربية، تكمن في حلٍّ الإشكالية التي نحن بصددها. والنتيجة هو التهميش المتعمًّد لأساس وروح الإسلام، القرآن الكريم، والتركيز المتعمًّد للفقه وما يدور حول الفقه.
وبالطبع فان الدوله العربية عبر تاريخها فضًّلت أن تعيش مع فقه متخلٍّف يعنى بالهوامش على حساب الأساسيات وبالغيبيات على حساب الواقع، فهذا وضع يخدم حالة الخنوع للإستبداد والرٍّضى بالحال البائس في هذه الدنيا على أمل ما ستأتي به الحياة الأخرى. وهكذا يبقى هذا الموضوع البالغ الأهمية المصيري موضوعاً مؤجُّلاً في الحياة العربية ويوضع في درج العشرات من المواضيع المؤجًّلة الأخرى من مثل حقوق الإنسان والديموقراطية والحداثة العربية والتنمية والوحدة العربية. في بلاد العرب يتوقًّف الزًّمن وتتوقف معه الحياة وكل ماينعشها.
القدس العربي