صفحات مختارة

مشروع سياسي عربي

سليمان تقي الدين
منذ ربع قرن حصل تبدل نوعي في العالم. تراجعت فكرة الصراع الاجتماعي لصالح الواقعية التفاوضية. انعكس في ظاهرات عدّة. صارت العلاقات الرأسمالية خارج النقاش الفعلي.
تصدرت النزاعات الثقافية المسرح. برزت ثقافة العولمة وحقوق الانسان الكوني في تضاد مع الهويات الفئوية. انبعثت مجدداً العنصرية والفاشية بأثواب صراع الحضارات والاديان والقوميات. غابت الفلسفات الانسانوية ونافستها الصحوة الدينية الخلاصية. تغيّر مفهوم المثقف وتغيرت وظيفته ودوره. اندمجت الثقافة بعالم التقنيات.
اندثر شيء أساسي من حراك المجتمعات بين يمين محافظ ويسار تغييري. فكرة التغيير ذاتها لم تعد مهمة إنسانية تضطلع بها جماعات بشرية ذات أهداف في إعادة تشكيل بيئة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والطبيعية. انتقلت هذه المهمة إلى آليات الاقتصاد والسوق والتكنولوجيا واكتشافاتها.
اليمين في العالم لم يعد مشروعاً سياسياً بل صار هو العالم نفسه. لم تعد أحزاب اليمين بحاجة للدفاع عن وجودها بقدر ما صارت تدير السلطة في كل مكان مطمئنة لغياب البديل الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي. في الدول المتقدمة نشأت ظاهرة مقاومة المجتمع المدني أو سياسة التفاوض الدائمة على تحسين شروط الحياة. صرنا نسمع بأحزاب البيئة أو الخضر. انعطف الكثير من احزاب اليسار إلى اليسار الديمقراطي أو المسيحية الديمقراطية وانطبعت برامجها بالبحث عن شبكات أمان اجتماعي تقوم على توسيع نطاق مؤسسات “التعاضد الاجتماعي”.
التجربة الايطالية طليعية في هذا الموضوع، لكن المانيا ودول شمالي أوروبا (الواطئة والاسكندنافية) عريقة أيضاً في هذا المجال.
في العالم الثالث أو النامي هناك نموذجان. النموذج الصناعي الذي حقق قفزات كبرى (الصين  الهند  البرازيل  النمور الآسيوية) والنموذج التقليدي الريعي (دول السلع الاستراتيجية) والاقتصاد المنفتح حديثاً على الليبرالية التي تشكل السلطة السياسية وامتيازاتها أحد أهم مصادره.
تفكك اليسار كأفكار وتيارات وتنظيمات ويكاد يتلاشى في معظم المجتمعات العربية من غير أن يعيد النظر بطروحاته وأفكاره ومؤسساته، بل خلال ربع القرن الأخير أخذ يتماهى في بقايا التظاهرات القومية ومؤخراً مع حركات الإسلام السياسي.
العالم كله يحتاج اليوم إلى تجديد اتجاهاته وخياراته، أي إلى إعادة الفرز الاجتماعي والسياسي بين اتجاهات المحافظة على الأوضاع القائمة بكل مشكلاتها ومآسيها وبين اتجاهات التغيير نحو مجتمعات مؤنسنة انطلاقاً من النظرة المختلفة لطبيعة العلاقات بين البشر.
الأهمية الاستثنائية لتجديد المشروع السياسي الذي يدعو إلى نقد الأوضاع العالمية الراهنة مهم على المستوى العالمي لأنه يعيد روابط العلاقات بين الدول والشعوب والمجتمعات بدل سياسة القطيعة والتناقض والثنائيات القاتلة بين الغرب والشرق، وصراع الحضارات والأديان والثقافات والهويات، أو بين شمال وجنوب حيث السيطرة للشمال وحيث لا حوار بين المجتمعات المتقدمة وتلك النامية. لكن هذا المشروع لن يتجدد إلا من خلال رؤية فكرية مختلفة لمشكلات العالم وقضاياه، وكنقيض لقيم الرأسمال والسوق التي ظهرت أزمتها مؤخراً، أي لمقولة الربح والثروة في ليبرالية مطلقة كبديل عن أي معنى آخر للوجود الإنساني.
أعقبت الأزمة المالية العالمية الأخيرة طروحات عن الحمائية وتدخل الدولة. لم يتوقف تدخل الدولة يوماً، بل اتخذ اشكالاً وابعاداً مختلفة.
ليس تدخل الدولة بالضرورة نزعة معادية للرأسمالية أو أنها شكل من اشكال العودة إلى “الاشتراكية”. التغيير في العلاقات الاجتماعية يمكن أن يسلك أشكالاً مختلفة. ما يهمنا بصورة أساسية في العالم العربي والإسلامي هو تأهيل مجتمعاتنا لعملية تفاوضية سلمية بين كافة القوى والفئات.
العصبويات التي نعاني منها اليوم هي بعث لهويات “ثقافية” قاتلة. صراع الهويات العقائدية يكاد لا يجد وسيلة له إلا العنف. العنف الذي يتصاعد في العالم الإسلامي هو خطر وبأي عام لا يمكن حصر مفاعيله. إعادة الاعتبار للمسألة الاجتماعية، لفاعلية مجتمع المهن والشرائح الاجتماعية وكتل الضغط الاقتصادية ولاتجاهات التحديث والليبرالية المعقلنة الآخذة في الاعتبار لمصالح الدول والشعوب واستقرارها الاجتماعي والسياسي والأمني هي مهمة أساسية.
يحتاج العالم العربي إلى إحياء قيم العمل والإنتاج والتركيز على الرأسمال البشري في سياق التنافس القائم دولياً بين اقتصاديات المعرفة.
تجديد الثقافة العربية لا يمكن أن يحصل فقط من خلال الانفتاح السياسي والثقافي. لقد جلبت مؤسسات التواصل العالمي أو العولمة ومن بين أهم وسائلها تبادل المعلومات والإعلام المخترق لكل الحدود نزعات مضادة في كثير من الأحيان أو متناقضة. الدفاع عن الهوية ليس خطاباً مضاداً، بل هو تفعيل لمعطياته للقوى الحاملة لها للمجتمعات التي تكتسب استقلالها من خلال حضورها على مسرح الحضارة المعاصرة. أنتج الفكر الفردي العربي الكثير من الإنجازات. هناك قطيعة بين حصيلة هذا الفكر والخيارات أو القرارات التي تتخذها الدول أو المجتمعات أو التيارات والقوى السياسية الفاعلة. عندما نتحدث عن مشروع سياسي عربي لا نقصد مؤتمراً يرفع شعارات لا تلامس إلا العواطف والمشاعر. المشروع العربي رؤية متكاملة لها عدة أبعاد، سياسية ثقافية اجتماعية اقتصادية. يجب تشخيص الأزمة الراهنة التي معظمها في محيطنا ولكنها تخترق مكوناتنا. مسألة الإرهاب والعنف والتكفير والنزاعات المذهبية والقبلية ليست مجرد دمى متحركة بخيوط خارجية. بعضها كذلك. أكثرها مرتبط بعدم الاستقرار الأمني والسياسي الذي جاء بعد الحروب وضرب بعض الدول. لكن هناك قابليات لأزمة العلاقات في جميع مجتمعات العالم. أوروبا الشرقية مرت بأزمة على هذا الصعيد، شهدت نزاعات فئوية جراء انحلال الدول التعددية. لكن أوروبا الشرقية لها حضن دافئ على المستوى الإقليمي والدولي وقد اجتازت معظم أزماتها. أما عالمنا الإسلامي فهو مطروح على طاولة التفاوض وعلى مشرحة التفكيك والتركيب لمصالح دولية وإقليمية متعارضة. المشروع العربي مجدداً بحث في الجذور واستكشاف لمستقبل يمكن صنعه بالوعي وبإرادة البقاء والتقدم.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى