صفحات مختارةموفق نيربية

ملهاة «القوميين- الإسلاميين» و«الإسلاميين- القوميين»

null
موفق نيربية *
من أهم ظواهر الخطاب السياسي العربي في العقود الأخيرة، تلك التي تحاول إعادة تشكيل التيار القومي العربي بطريقة أصولية إسلامية، والتيار الأصولي الإسلامي بطريقة قومية عربية. وابتدأ ذلك منذ السبعينات، حين أخذت المؤتمرات القومية – الإسلامية تظهر هنا وهناك، ليتكئ فيها كلّ تيار على الآخر في لحظة خيبته التاريخية. وليس ذلك جديداً – مع أنه مستغرب – في الفكر السياسي العالمي، قديمه وجديده.
مفهوما القومية الدينية والدين القومي يتواتران في هذا الفكر. ينهل المفهوم الأول من التاريخ الأوروبي نفسه، حيث كانت موافقة إليزابيث الأولى الأنغليكانية على إعدام ماري – ملكة الاسكتلنديين الكاثوليكية – منعطفاً نحو تكريس الأساس القومي لدولتها، ورفع صورة الملكة كرأس للكنيسة مكان صور القديسين. وعموماً كان للبروتستانتية دور مشابه في معظم دول القارة القومية الناشئة، لمواجهة مفعول الهيمنة البابوية. بعض تلك الأمم الناشئة (بريطانيا، هولندا، السويد) رأى في نفسه «الأرض الموعودة» الجديدة، اقتباساً من العهد القديم. وكتب مؤرخ بريطاني ذات مرة أن « الدين كان كلمة القرن السادس عشر من أجل النزعة القومية». ظهر ذلك في إرلندا بجنوبها الكاثوليكي وشمالها البروتستانتي، وفي نشوء باكستان وبعده، وفي روسيا السابقة على العهد السوفياتي واللاحقة له، وفي اعتماد حزب بهاراتيا جاناتا الهندي على خطاب قومي – هندوسي، وفي أسوأ النماذج وأكثرها أذى: إسرائيل.
أما المفهوم الثاني، فينطبق أيضاً على بعض النماذج ذاتها، وربما على دول إسلامية، لكنه ينطبق خصوصاً على إسرائيل. فقد قامت تلك الدولة على الفكرة الصهيونية التي تمزج القومية باستعادة وطن مفقود منذ آلاف السنين لجماعة بشرية يربطها الدين وحده، مع فتات لغة (آنذاك). وتحولت من كيان تغلب عليه» الصهيونية العلمانية»، إلى غلبة القومية الدينية، ثمّ الدين القومي حالياً. وربما تصلح تلك الحالة لتفسير ما يراه بعض الباحثين معضلة وتناقضاً، بين كون الدول الديموقراطية – على سلّم التقييم – تنزع إلى السلم داخلها وخارجها، في حين يظهر ويتوالد وضع معاكس لذلك مع إسرائيل.
ولذلك دور في تطور ظاهرة القومية الإسلامية عند العرب. فما زال للقضية الفلسطينية – ابنة عملية إنشاء إسرائيل – دور ساحر في اجتذاب اهتمام العرب ونخبهم، لأسباب تضامنية، وأخرى عضوية ينتقل فيها تأثير القضية إلى السياسة الداخلية في الدول والمجتمعات العربية. كما أن هناك دوراً لشراسة السياسة الأميركية وأخطائها خصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
لكننا، كما نتعامل مع مسألة الهيمنة والعدوان الخارجيين من منطلق الأسباب الموجودة فينا، نرى أن العوامل المكوِّنة الأقوى لظاهرة القومية الدينية تكمن في جناحيها بالذات، من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، منفردةً ومركبة. وقد انطلقت الحركة القومية العربية أساساً معتمدةً على «الإيمان» أكثر بكثير مما اعتمدت على الاقتصاد أو اللغة أو الإرادة المشتركة. واستندت إلى «الرسالة الخالدة» أكثر من استنادها إلى المصالح العملية المرسلة. كانت العوامل «الانفصالية» أكثر تأثيراً من عوامل الوحدة، وهي تتألف من لغة أيضاً ومن قبلية وتاريخ عملي ليس مشتركاً حين يؤخذ في الفضاء الأبعد من الدول المتجاورة الناشئة حديثاً أو مناطقها الحدودية. قوة الحركة القومية في كونها إيماناً وحلماً، وهذا يربطها بقوة بالتدين، ويجذبها إلى مفهوم الصحوة.
لجأت البقية القومية العجوز منذ السبعينات إلى التقرّب من التيار الأصولي، ولجأ الأخير هذا أيضاً إلى الذين يمنحونه شرعية سياسية تربطه بالوطن والأمة المعيّنين، وتؤسس له علاقةً بالمفاهيم الحديثة لعلوم الاجتماع والسياسة.
من ناحية أخرى، احتاج التيار القومي إلى من يربطه من جديد بجمهور عريض اشتاق إليه، بعد أن حركته قديماً لعدة سنوات مسألة الوحدة، ولم يعد يحركه إلاّ القضية الفلسطينية والحرب ضد الغريب، وكلاهما رهينة الطلائع المتشددة والفكر الأصولي إلى هذا الحد أو ذاك. واحتاج الإسلام السياسي إلى رموز قومية وتاريخية لا تشكل خطراً عليه أو احتمال منافسة، بل وسيطاً لقبوله وتسهيل الأمور عليه لوجستياً.
لكن الأمر الأبعد عن أذهان القوميين – الإسلاميين هو مفاهيم الدولة والمجتمع المدني والقانون والمواطنة، على وضعنا الراهن، ثم مفهوم سيادة الشعب نفسه، وهو ليس غريباً عنهم، ولا يحتاج إلا إلى تدوير في اتجاهات مدنية حديثة، بدلاً من الجماهيرية القديمة. في حين يتجنب الطرفان – الطرف الواحد – التورّط مع هذه المفاهيم، إلا نظرياً وهامشياً، بطريقة لا تستفزّ أولي الأمر ولا تتبنى حركة سياسية من أجلها، بحجة تعارضها الآني المتكرر دائماً مع المهام الأكبر، خلف الحدود أو خلف الطبيعة.
هنا يبدو الأمر أقرب إلى الملهاة، أولاً بمعناها اللغوي القريب المتعلق باللهو، حين يتلهى هؤلاء بما يُمتعهم روحياً، عما يتعلق بواقع الناس ومستقبلهم، فيساهمون عملياً بإلهاء الآخرين عن السعي إلى تغيير حالتهم. وثانياً من حيث هي فن للهجاء، لا يتوقف عن استنباط مثالب في الآخر لتحطيم همته وتبرير الانعزال عنه. وثالثاً في الحلم بالنهايات السعيدة، على المسرح أو الشاشة أو في الخيال، من دون بحث عن آليات وقوع هذه النهايات وإمكاناتها وواقعيتها. ورابعاً من حيث أصل كلمة الكوميديا الغريب في اللغات التي جاءت منها، المتعلق – لا أعلم كيف – بطقوس الخصوبة، وغناء الأناشيد في ساحة القرية لا المدينة، حتى الغياب والثمالة. ربما تأتي الصعوبة من العجز عن التعامل مع الإنسان الفرد كقيمة أساسية، وانجراف إلى فكرة ومفهوم «الجموع». فيتشوّف المرء إلى القائد الذي تجتمع له الناس، وتمّحي وجوهها أمامه. فلا يرى أن الزمان قد أنهى احتمال هذا القائد، ولم يبقَ منه إلا ظلاله، التي قد يستفيد منها ديكتاتور من دون جماهير، في إعلامه وأيديولوجيته الهجينة. أو ربما من كون ما يجمع القومي العربي والإسلامي السياسي هو الطريق الوحيد الاتجاه الذي له نهاية لا يمكن الوصول إليها، ولا أرصفة يمكن للمشاة أن يتبادلوا عليها أطراف الحديث وأخبار المدينة. وهذا ليس طريق التغيير، الذي يحتاج إلى انصراف إلى الوقائع والأهداف الملموسة، وإلى الإقبال على التحالفات المجدية، التي تجمع القومي والإسلامي واليساري والليبرالي على مسائل «بسيطة» وأولية، من نوع الدولة المدنية وحكم القانون والديموقراطية.
… وفي ما يشبه الهامش، يمكن القول إنه على رغم جمال وطرافة ترجمة الفارابي وابن رشد لنوعي الفنّ اللذين عرّفهما أرسطو في كتابه «فن الشعر» على أنهما (الطراغوذيا: فن المديح، والقوموذيا: فن الهجاء)، إلا أن للإرجاع للأصل الإغريقي (تراجيديا – كوميديا) إغراءه الذي لا يُقاوم أيضاً.

* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى