صفحات الحوار

فواز حداد: تاريخنا لا يتكرر بشكل هزلي بل بصورة تزداد تطرفاً ودموية

null
راشد عيسى
نشــر فــي الأربعيــن وأهمــل عندهــا ١٥ عمــلاً كــان ألّفــها مــن قبــل
احترف فواز حداد الكتابة متأخراً، عمل في مهن غريبة عن الكتابة؛ درس الحقوق، وعمل في استيراد الآلات الصناعية وفي الصيدلة، لكنه اكتشف دائماً أنه لم يضيّع الوقت، فكل ذلك صبّ في مصلحة الرواية، وهو، كما يقول هنا، لم يكتشف ثراء تجربته تلك إلا في الكتابة. ورغم تأخره (المزعوم) استطاع حداد أن يستحق اسمه منذ عمله الأول. ولأنه لم يهادن، لا التاريخ ولا السلطة ولا الواقع، راحت أعماله تمنع، الواحدة تلو الأخرى. وقد وصلت إحدى رواياته الممنوعة (المترجم الخائن) أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. لا يكترث حداد للرقيب، فهو يؤكد أن ما هو ممنوع اليوم سيمرّ غداً. لكنه يكتب، مصراً على التحديق في »الآن وهنا«، وداعياً المثقف في كل أعماله إلى دوره ومكانته. ومن فرط تحديقه في الواقع الراهن، كتب حداد كما لو أنه يسمي الأشياء بأسمائها، وكأنه أيضاً استغنى كلياً عن الخيال في الكتابة، لكنه يصرّ: من الخطأ الظن، أن الخيال مهمته التحليق عالياً فحسب. هنا حوار معه:

÷ قُدمتْ أخيراً روايتك »تياترو ١٩٤٩« عملاً مسرحياً، كيف نظرت إلى التجربة، وماذا يعني لك عموماً أن تلبس أعمالك أشكالاً فنية أخرى (نعرف أن فيلماً قد يصوره حاتم علي عن »موزاييك«، ومسلسلاً يصوّر عن »الضغينة والهوى«)؟
﴿ عندما تذهب الرواية إلى السينما أو التلفزيون والمسرح، فهذا يعني أنها ستصبح طوع شكل فني مختلف. لم أتوقع أن أرى روايتي تتجسد على المسرح، كما أنا أرغب، بسبب كثرة أحداثها وتعدد الأزمنة وتنوع المكان والشخصيات. لم يكن لديّ اعتراض، ولست حريصاً على روايتي. كنت راغباً في رؤية ما الذي سوف يظهر منها. قدّم المخرج عملاً جميلاً وجيداً، وإضافاته أعجبتني، لا سيّما الخاتمة التي تختلف عن خاتمة روايتي، وأهنئه عليها، لكنه ضحّى، تحت تأثير استعراضه، بالحدث وإمكانيات تأثيره، وهنا صعوبة الفن وقدرته؛ ألا نقدم شيئاً على حساب شيء، الفن انسجام بين الفكرة والشكل.
ومهما يكن، فالتجربة كانت جديرة بالتأمل، فهي تمثل المسرح اليوم وعلاقته بالرواية، وهي تختلف عمّا عرفته من قبل، عندما كان المخرج يحاول تجسيد فكرةٍ جوهرية للعمل الأدبي، في حين أن في ما رأيته يبدو وكأن هناك تنازعاً بين الاستعراض والحدث الروائي، وما دام الأمر عائداً إلى المشهدية، فالغلبة للاستعراض وجمالياته وله الأولوية، وبالتالي ما الذي بوسع الرواية أن تقدّمه له سوى بعض الذرائع. مع أنه كان بوسع »تياترو« أن تقدم الكثير، لكن هذا كان عائداً لتقديرات المخرج، وما الذي يريده منها بالفعل.
اليوم، عندما ترتدي الرواية شكلاً فنياً آخر، تُبنى علاقته بالمخرج وكاتب السيناريو أو المعدّ، وهم المسؤولون عنه، أما أنا فتتحدّد مسؤوليتي بكتابي. وإذا سألتني، هل أنا راضٍ عن هذه التجربة، فجوابي هو أنني ككاتب لا أستطيع تصوّر روايتي إلا بالشكل الذي كتبته بها.
÷ وصلتْ روايتك »المترجم الخائن« إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، كيف تنظر إلى الجائزة، التي أثارت جدلاً واسعاً، العام الماضي، كيف تنظر إلى وصولك إلى البوكر، كيف ترى روايتك إلى جانب الروايات التي وصلت معك إلى القائمة القصيرة؟
﴿ إن فكرة وجود الجائزة على المستوى العربي أمر جيد بحدّ ذاته. إنها تعني بشكل ما إظهار الرواية العربية بحمولة ذات وزن معتبر. لكن، ولكي تحافظ الجائزة على مكانتها ومصداقيتها، المطلوب من المشرفين عليها التقيّد بمعاييرها وشروطها، ما يغلق الباب أمام الكثير من الجدل، لا سيّما عدم النظر إلى التوزيع الجغرافي، برصد حصة لكل دولة، أو مكانة الكاتب ومجمل أعماله، وإنما إلى الرواية نفسها، كاعتراف بتميّزها، رغم أنها لا تمنح الكاتب رخصة دائمة على الجودة.
إن جدية الجائزة تشجع الروائيين على أن يبذلوا أفضل ما عندهم. وتقدّم لهم تقديراً لجهدهم هم بحاجة إليه. كما أنها تشكل إفلاتاً من سطوة جهات ثقافية رسمية وشللية، لا تعترف إلا بالأسماء المعروفة التي كرّسها الزمن لمجرد تواجدها في الوسط الثقافي. أعتقد أن روايتي، ومعها الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة، تمثل جزءاً من المشهد الروائي العربي، وليس كله. المشهد أغنى من هذا بكثير، والقائمة ليس بوسعها احتواؤه، بسبب كونها قصيرة. القائمة الطويلة كانت الأقرب إلى تمثيله.
التأخر
÷ لماذا تأخرت في احتراف الكتابة إلى هذا الحدّ؟
﴿ حسناً، لقد اتخذت قراري بالنشر وأنا في حوالى الأربعين من العمر، ولتأخري أسباب كثيرة، لا سيما أنني قد بدأت الكتابة وأنا في سنّ المراهقة لم أبلغ بعد الرابعة عشرة من عمري. منذ ذلك الوقت لم أنقطع عن الكتابة. أما القراءة ففي السابعة من عمري، لم أتوقف بعدها عن التهام مكتبات بكاملها. وما أعاقني أيضاً أن تهيّبي من النشر، مردّه كوني متابعاً دؤوباً لحركة الرواية العربية والعالمية، ما جعلني أدرك ماذا تعنيه الرواية الجيدة. ولذلك عندما عزمت على النشر أهملت كل ما كتبته، وكان قد قارب خمسة عشر عملاً، بين قصة ورواية ومسرحية وسيناريو سينمائي.
بالإضافة إلى ما سبق، وهذا مهم جداً، متطلبات الحياة، تأمين سكن ودخل معقول، ثم الزواج والأولاد، خاصة أنني لم أرغب في التوظف لدى أية جهة. لم يرضني أي عمل، إلى أن نجحت بتأمين عمل لا يتطلب دواماً كاملاً، فتوفر لدي الوقت لأكتب خلال الساعات المتبقية من اليوم، واستطعت بعد ما يزيد عن عشر سنوات بقليل أن أنجز ستة أعمال من ضمنها مجموعة قصص قصيرة، نشرت على التوالي، ولم تمض أي واحدة منها بصمت. أعتقد أنني أحسنت التصرف، واستطعت بناء تجربتي الروائية بكثير من التأمل والأناة والحرية، دون ضغوط من أية جهة، اللهم إلا ضيق الوقت. عندما تمكنت من تأمين الحد الأدنى لمتطلباتي الشخصية، تفرغت كلياً للكتابة.
أحياناً تقال هذه المعلومة عني، وكأنها انتقاد، بمعنى أنني دخيل على الوسط الأدبي، وأن هذا الوسط حكر على الذين يعملون في الصحافة الأدبية، والناشطين في المجال الثقافي. لكنه انتقاد في غير محله وقصير النظر، لا أريد الاستشهاد بعبد الرحمن منيف أو ساراماغو وغيرهما كثير. وإنما أقول لقد نجحت من خلال ظروفي الصعبة في البقاء على قيد الكتابة، وكتبت أشياء أعتز بها، بلا مساومات أو تنازلات، ودون الانصياع والتزلف لأية جهة، مهما كانت هذه الجهة. لقد دفعت ثمن الحرية التي أكتب بها، وأنا سعيد بما توصلت إليه، وجادٌّ فيما أرغب في تحقيقه على الرغم من التجاهل والانتقادات التافهة.
÷ كيف تخدمك تجربتك في اختصاصات أخرى في كتابة الرواية؟ هل كنت تعيش تلك الاختصاصات والتجارب بعين الروائي؟ أم ماذا؟
﴿ تخرجت من كلية الحقوق في جامعة دمشق، وكنت مصمماً على ألا أعمل في سلك المحاماة، ولا التوظف في أي عمل إداري لدى الدولة. كانت تجربتي مع القضاء في مرحلة مبكرة من عمري مخيبة جداً، من خلال قضية صغيرة؛ إخلاء منزل استغرق أكثر من عشر سنوات! حصلت على شهادة الحقوق لمجرد نيل شهادة عالية. فيما بعد أدركت كم استفدت من دراسة القانون، تأثرت من دون أن أدري بالتكييف الحقوقي والمنطق القانوني، سواء من ناحية الدقة والإيجاز، أو التكثيف والإحكام في الصياغة، وشمول القانون لحالات متنوعة تشق على الحصر. لم تضع دراستي هدراً. ومثلها تجاربي في العمل الحرّ، في مجال الاستيراد، ما أتاح لي التعامل مع الشركات الغربية. وكانت الصدمة الحضارية واقعية، لا سيما وقد عملت في استيراد الآلات الصناعية. وكانت أيضاً واقعية جداً، عندما أدركت أن الغربيين مثلنا، جيدون ورائعون، شرفاء ومستقيمون، ومنهم على خلاف ما نعتقد، كاذبون ولصوص، حقيرون وقذرون. كذلك عملي في مجال الصيدلة الذي أتاح لي لقاء المئات يومياً، كل واحد منهم يشكو من مرض، قد يكون مستعصياً أو وهمياً، وأحياناً حقيقياً. وتشكيل علاقات عابرة، منها علاقات ممتازة حافظت عليها.
لا تكتشف ثراء تجربتك إلا عندما تكتب. أما عندما تعيش، فإنك تعيش فحسب. لم أتصور مثلاً أن تجربتي في السجن، وهي تجربة بسيطة جداً بالمقارنة مع غيري، (حوالى شهرين في سجن القلعة بدمشق، بتهمة وحدوي ناصري)، كانت في منتهى العمق والإيلام والرعب، شكلت ولم أكن قد بلغت السادسة عشرة من عمري بعد، بصمة قوية في داخلي، لم أبرأ منها إلا بعد زمن طويل.
التاريخ
÷ تعتبر أعمالك نوعاً من التوثيق لسورية الحديثة، هل تعمدته؟ ما حدود التوثيق وما حدود الخيال؟ هل تستلزم أعمالك عادة بحثاً خاصاً عن الوثيقة التاريخية؟
﴿ هذا الأمر لم أتقصده. اضطررت للذهاب إلى التاريخ، لأن هناك أسئلة لا يمكن أن تعثر على جواب عنها إلا هناك. أحياناً لا يترك لك الواقع خياراً، ويفرض عليك ما الذي تكتبه. في بداية عملي الروائي سيطر عليّ إحساس بأنني أعيش في وطن لا مكان لي فيه. وأنني إذا أردت أن أفهم ما يجري من حولي، فلا بدّ من جردة حساب قاسية ينبغي القيام بها، بالنسبة إلى حاضر مترد. أسئلة المستقبل أرغمتني على قراءة التاريخ. لم أرغب في إعادة الاعتبار للماضي، وإن كان هذا قد حدث في رواياتي، بل في التعرّف عليه، واكتشافه، الذين لا يهتمون بماضيهم، لا مستقبل لديهم. ما استدعى أن يكون ما أكتب عنه موثقاً، أي العودة إلى أكثر من مصدر للتأكد من صحته. والأهم ليس أن حصة الخيال فيه كبيرة، بل إنه وحده، يؤلف بين أجزائه الممزقة ويلملم أشلاءه، لولاه لما كانت الرواية.
لم أكتب جديداً، عدت إلى التاريخ المكتوب، وإن استنتجت في بعض الأحيان أشياء مختلفة. ما أعرفه وحسب تجربتي، أن جهد الروائي أقلّ توثيقاً وحذراً وأكثر انتقاءً واجتزاءً، مما تتطلبه أمانةُ المؤرخ. وإذا كنت قد رصدت في رواياتي الأولى، ظهور العسكر والمثقف الوطني، فمن خلال تاريخ لم يتكرر بشكل هزلي، بالعكس كان يتكرر بصورة ارتجالية ومأساوية، أكثر تطرفاً ودموية في كل مرة.
قراءتي للتاريخ، تفترض، أو تقترح قراءة ما، ليست أخيرة ولا نهائية. لذا أقول عما أكتبه إن له علاقة بالتاريخ. هدفي ليس كتابة رواية تاريخية، وإنما أخذ العامل التاريخي بالحسبان. ما أكتبه ينتمي لرواية، التاريخ واحدٌ من مشاغلها الكبرى، أرسله إلى زمن هو زمن الرواية، وأخضعه لمنطق هو منطق الرواية.
أما عن حدود الخيال، فلم أستهن به، كان الأكثر قدرة على كشف ما لا يكشفه الواقع. الخيال يزيح تلك الطبقة السطحية التي نتقنع بها، ويغوص في الأعماق. من الخطأ الظن، أن الخيال مهمته التحليق عالياً فحسب.
÷ ذلك يقودنا للسؤال كيف تكتب الرواية، من ألفها إلى يائها، أي بحث تجريه، أي مراقبة، وأي طقوس للكتابة؟ أين تعثر على شخصياتك، في الطريق؟ أم في الوثيقة التاريخية؟
﴿ ليست ثمة رواية لي استدعت نهج سابقتها، كل واحدة جاءتني بشكل مختلف، ولا خريطة طريق جمعت بينها، لذلك لم يتشابه لدي أسلوب العمل عليها، إلا في الأبحاث التي أجريها، والتي تضطرني إلى قراءة عشرات الكتب وزيارة بعض الأماكن أو مقابلة بعض الأشخاص، وهي عملية قد تستغرق وقتاً طويلاً، أحياناً سنة أو سنتين، كما في روايتي »الضغينة والهوى«. هذا ما أدعوه بالجهد العضلي، وهو جهد أسعى من خلاله إلى محاولة استيعاب مناخ فترة ما، من ناحية المكان وخرائطه، الأفكار وتحولاتها، الأشخاص وأساليب العيش. أبدأ بالكتابة بعدها، أو خلال البحث.
بالنسبة لشخصيات رواياتي قد أعثر عليها في الطريق أو في التاريخ، وعندما لا أجدها أختلقها. هذا غير مهم، مادام الخيال يعيد تشكيلها وصياغتها وإدراجها في نسيج الرواية. طوال هذا المشوار، أبقى مشدود الأعصاب إلى عملية مهمة أقوم بها، وهي الرقابة المجهدة على ما أقوم به، سواء عن وعي أو لا وعي. قلت عنها مرة في شهادة لي، واعتبرها نصيحة ثمينة: أن يكون الحس النقدي للروائي نفسه رقيباً مغالياً على شطحاته الخيالية والمزاجية من مواقف ولغة، حتى يستطيع الالتزام بالبناء الروائي وإعطائه الأولوية، واعتبار كل ما عداه مساعداً في تركيبه. إذ لا يمكن فهم أية تجربة أو إدهاش، أو قوة لغة أو حتى انسياب أفكار، إلا ضمن بناء متناسق، ليس المهم تذوقه فحسب، وإنما إدراكه أيضاً.
أما عن طقوس الكتابة، فأنا لا أحاول ضبط عملي في طقس محدد، كي لا أبقى أسيره، وإنما التلاؤم مع مختلف العوامل، حسب الظروف المتوفرة؛ نهاراً أو ليلاً، مع قهوة أو دون قهوة، في غرفة أو في الهواء الطلق. من قبل كنت لا أكتب إلا مع التدخين، حتى بلغ بي اليقين أنني إذا امتنعت عن التدخين فلن أكتب، لكنني نجحت منذ سنوات، وإن بمشقة بالغة، في الكتابة دون سجائر.
ضرورة المثقف
÷ تبدو، كحركة يومية، بعيداً عن أوساط المثقفين، كيف استطعت أن تقدم ذلك التشريح التفصيلي لأصناف المثقفين في أعمالك؟
﴿ كحركة يومية، أنا بعيد عن أوساط المثقفين، بينما في المنظور الأوسع قريب منهم، وواحد منهم بالفعل، على الرغم من الحدود الفاصلة بيننا، والتي حافظت عليها. فأنا بطبعي اجتماعي غير نشط، وميال للعزلة، لكنني لست انطوائياً، لدي صداقات جيدة مع الكثير من الأدباء، احترمهم رغم أنني لا ألتقي معهم إلا نادراً. ولقد سمحت لي هذه المسافة بالنظر إلى تجمعات المثقفين بشكل نقدي. الأمر الذي يجهلونه، إنني أقرأ لهم باستمرار وأتابعهم منذ عشرات السنين. وما ينقصني عنهم يمدّني به الخيال.
ما أقوله لا يخص الأدباء السوريين فقط، وإنما غالبية الكتاب العرب. في أحد اللقاءات، وهو لقاء وحيد ضمّني مع أدباء من مصر والعراق ولبنان والأردن، فوجئت أنني أعرفهم جيداً، كنت قد قرأت لهم أغلب أعمالهم، بينما لم يقرأ لي أحد، وأكثرهم لم يسمع باسمي، وبالتالي لم يهتموا بمعرفتي.
÷ هل صادفتَ أحداً تعرّف على نفسه، أو على غيره في أعمالك؟
﴿ صادفت الكثيرين، وبيّنت لهم أنني لا أتقيد بأشخاص حقيقيين، هذا يسيء إلى الرواية، يضعفها ويُحجمها. ودائماً كنت حذراً تجاه سقطة كهذه؛ أن أضع شخصياتي ضمن قالب محدد، أو ألاحق شخصية موجودة في الواقع، وأنقلها بحذافيرها إلى الرواية. هذا شأن كتّاب السيرة الذاتية، لا شأن الرواية. الخلق الروائي عملية معقدة جداً، لا يدري فيها الكاتب نفسه، ما الذي يأخذه من الواقع، وما الذي يختلقه، يفهم أمراً واحداً أن هذا كله يصبّ في سياق غاياته، ومثلما شخصياته مدينة للحياة، هي من بنات أفكاره، الخيال لا يفعل شيئاً سوى أن يطحنهم ويخضعهم للمنطق الروائي البحت. ما يهم الروائي، هو خلق عالم يشير إلى واقع حقيقي.
تلملم الشخصية الروائية تحت معطفها أكثر من شخصية واحدة، لا أريد تشويه روايتي ولا تقزيمها بخصومات جانبية، الرواية ليست ساحة لتصفيتها، وإن كنت لا أعترض كثيراً على هذا المنحى، إذ ليس للروائي منبر يصفي حساباته من خلاله سوى الرواية.
÷ من الواضح من أحاديثك الصحفية أنك لا تلقي بالاً إلى الموهبة، أي دور للموهبة وأي دور للاجتهاد في الكتابة كما ترى؟
﴿ الموهبة لازمة لممارسة أي عمل فني أو غير فني، لكنها ليست أساسية، من الممكن تعويضها ببذل مزيد من الجهد والعرق. غير أن ما أقصده، هو السؤال: ماذا عن توظيفها، أين وكيف؟! لذلك انتقدت الذين يتذرعون بالموهبة، ويبيحون لأنفسهم ما يمنعونه على الآخرين، فيضطهدون غيرهم ويسخرون منهم ويمثلون بهم، بل وقد يقتلونهم. وكأن الموهبة جواز مرور صالح لاستثنائهم من المعايير كافة، مما يحيل الموهبة إلى عنصرية بغيضة وسافلة.
الموهبة خطرة إذا كانت في غير محلها، إنها أداة شرّ. لهذا قلت إن الموهبة ليست كل شيء، وألا نقلل من نصيب الجهد والاجتهاد. الكتابة مثلما تحتاج إلى موهبة، تحتاج أيضاً، إلى التواضع إزاء بشر بحاجة إلى من يمدّ يده إليهم، أكثر مما هم بحاجة إلى من يستعلون عليهم.
÷ يشكل المثقف، فساده أو اغترابه، محوراً أساسياً في أعمالك، أي دور تنتظره من المثقف اليوم؟
﴿ لم تخل رواية من رواياتي من التركيز على المثقفين، كان أوضحها في هذا المجال روايتي الأخيرة »المترجم الخائن«، حيث يبلغ تعسف الوسط الثقافي تجاه المترجم حدود القتل المادي والمعنوي. في ظاهرها تبدو الرواية هجائيةً مستفيضة للواقع الثقافي، لكنها، ومن غير أن أسبغ عليها ما لا تطيقه، دفاع مستميت وشرس عن الثقافة واستقلاليتها إزاء الأنظمة والسلطات والأحزاب بأنواعها، ومثلما تستغل هذه الأجهزة المثقف، يستغلها بدوره، وبالتالي ينبغي عدم إعفاء المثقف من مسؤولياته، ولا من جرائمه. وتوجيه الاتهام لأولئك الذين يتاجرون بقضايا الناس، والكشف عن انتهازيتهم ووصوليتهم، وافتقارهم للمعرفة، وفضح الإعلام الثقافي المروج للصرعات والترهات والأكاذيب.
المثقف ضرورة. وإذا كانت رواية »المترجم الخائن« قد حاكمته بقسوة، فلأن تهاونه وسقوطه كارثة، وتردي مرحلة تاريخية بكاملها. المثقف يمثل وعي الأمة بأمراضها المستفحلة، ومثلما يدرك سقطاتها وكبواتها، يتبصّر طموحاتها البعيدة المدى. ما الذي يبقى من المثقف عندما يتمحور حول مصالحه الأنانية؟! لهذا يكتسي الحديث عنه الكثير من الحدة واللوم. للمثقف مهام عاجلة ومصيرية، على الرغم من محاولات تمويته. دور المثقف لم ينته. الحاجة ماسة إلى مثقفين يؤمنون بالثقافة على أنها أداة فعل وتغيير، مع التأكيد أولاً وأخيراً على المعايير الأخلاقية، لولاها لا ثقافة ولا مثقفون.
مخالفات
÷ تكتب عن التاريخ السياسي المعاصر، وتكتب عن الفساد المستشري (المعاصر أيضاً) بشكل دفع البعض لاعتبار كتابتك أقرب إلى المقالة منها إلى الكتابة الأدبية. هل ترى في الرواية جنساً قادراً على محاربة الفساد؟
﴿ الرواية في صميمها انتقاد للحياة والنظام الاجتماعي والسياسي… وما ينتج عنهم، أو يطرأ عليهم من فساد، مهما اتخذت الرواية من أشكال وتطرقت إلى إشكالات. ماذا كانت روايات بلزاك ودوستوفسكي وجويس… غير هذا الفضح المستمر لمجتمعاتهم على مختلف المناحي؟ الرواية هي الجنس الأقدر على عدم التواطؤ مع الفساد ومحاربته، وحتى عندما كانت تشيد بالبراءة والجمال، كانت تُشهِّر بحياة تفتقد هذه المُثُل.
أما بالنسبة إلى الذين اعتبروا رواياتي أقرب إلى المقالة منها إلى الكتابة الأدبية، فقد أرادوا تعميم فصل أو أكثر على الرواية كلها. وهذا يحيلنا إلى المقولات المحفوظة، والتي على أساسها توجه الانتقادات الكسولة. أعتقد أن ما فعلته هو بعض من محاولاتي في اختراق الأشكال الجاهزة، بناء على دوافع عدة، أي لم تكن زلّة، إذ لا شيء يوضع عبثاً في الرواية، بل وضعت عن قصد وبهدف، أحدها، أنني نشدت رواية مكتفية بذاتها. ففي روايتي »صورة الروائي« كان هناك فصل عن تاريخ سورية المعاصر أوردته بشكل روائي، شخصياته الرئيسة، الجيش وأحزاب ما بعد الاستقلال والحكومات المتعاقبة من طرف، ومن طرف آخر الأحلاف الغربية. وفي روايتي »مشهد عابر« كتبت فصلاً كاملاً عن »الكولبة« التي لعبت دوراً مثيراً للرهبة، ويدعو للسخرية من فرط التهافت عليها، ولعبت دور الوجاهة في ذلك الوقت! أما في »المترجم الخائن« فكتبت فصلاً كاملاً عن التاريخ الأدبي خلال خمسة عقود من القرن الماضي، كان الخلفية لتحولات المثقف في تلك الفترة. هل هذا يجوز؟ لم لا، مادام ضمن الإطار الذي رسمته للمشهدية العامة للرواية. هذا بعض ما بذلته وحاولته، مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الصارمة للرواية، وذلك بتكريمها، عن طريق زحزحتها، لدواع فنية.
وإذا كان لا بد من التحدث عن الفن الروائي بشكل عام، فأضيف قائلاً للروائيين الشبان، شيئاً مما تعلمته من تجربتي الشخصية: احرص على أن تكون لديك القدرة على ارتكاب مخالفات في الرواية، تمليها عليك الرواية نفسها.
÷ كيف تحضر »الآن وهنا« في كتابتك اليوم، أي رواية تُكتب الآن؟ ألا تعتقد أن الروائي يلزمه مرور بعض الوقت لتأمل الحدث والمجتمع والحياة، ومن ثم إعادة إنتاجه؟
﴿ المفارقة أن ما يكتب »الآن وهنا«، يحضر في الرواية كتسجيل لما يحدث، أي أننا نبدو وكأننا نكتب »التاريخ« الحالي، وبمعنى أكثر دقة، ما يؤهلنا في المستقبل، لنصبح أحد مصادر الماضي الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية والجنسية… الخ. مع العلم أن الرواية تتعالى على هذا التسجيل، لكن بالرغم منها، وفي أحد وجوهها، تكتب ما تتلمسه وتحس به في زمننا الراهن. الرواية البلزاكية ما زالت حتى الآن أحد المصادر الرئيسة للتاريخ الاجتماعي والسياسي للقرن التاسع عشر. هذا قد يؤرق بعض الذين يزعمون أن الرواية الحقيقية تتعالى على الزمان والمكان. ودون الدخول في جدال، لا بد لهذه الرواية أن تكتب ومن الغبن تأجيلها حتى تنضج، فهي بشكلها الساخن والطازج تعلق على ما يجري حالياً، وتمنحنا رؤية ذلك الجانب الذي نحن في داخله، كجزء من مشهد لا نراه بكلّيته.
أما الرواية ذات المشهدية البانورامية، فيلزمها الوقت والصبر لتأمل ما يحدث ضمن إطار واسع وساحات متعددة، لا تستثني الخاص ولا العام، الحياة في تعقيدها واتساعها وتبعثرها واختلاف مستوياتها تتجاذبها الأهواء، ولا تغفل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
÷ مع روايتك »المترجم الخائن« نصبح أمام عملين منعاً من قبل الرقابة في سورية بعد منع »مشهد عابر«. أولاً أليست مفارقة أن تصل رواية ممنوعة لك إلى البوكر؟ ثم ماذا عن تجربتك في الكتابة مع الرقابة؟ هل سبق أن تعرّضت رواياتك للحذف، خصوصاً أنك تتناول التاريخ السياسي المعاصر؟
﴿ في الواقع، ثلاثة أعمال، أولها كان »صورة الروائي« أفرج عنها في العام السابق بعد منع دام تسع سنوات، وصدرت بطبعة ثانية في سورية. أما »مشهد عابر« و»المترجم الخائن« فمتحفَظٌ عليهما تحت الدراسة، لم يمنعا أو يسمح بهما.
تجربتي مع الرقابة، ليست هامة، لأنني منذ بدأت بالكتابة والنشر، لم ألتفت إلى ما هو ممنوع أو مسموح، فلم تلعب الرقابة دوراً في نتاجي، ولم أتقصد استفزاز الرقابة ولا استرضاءها، لقد كتبت بكل حرية، إذ الحرية في داخل الإنسان تهزم القيود في خارجه. أنا أكتب رواية وكفى. دون الاعتماد على دعايات المنع.
أما أن تصل إلى البوكر، فهذا لا علاقة له بالمنع، ولم يشكل امتيازاً لها. لقد نوقشت كرواية، ولم أحاول تزكيتها بما هو خارجها، إن ما يمنع اليوم قد يُسمح به غداً.
(دمشق)

الروائي فواز حداد يهاجم «النخبة المفتونة بنفسها»
مرشح لجائزة بوكر للرواية العربية
دمشق : سعاد جروس
في العاشر من مارس المقبل قد ينال فواز حداد «جائزة بوكر للرواية العربية»، بعد أن وصلت روايته الأخيرة «المترجم الخائن» بين 6 روايات أخرى إلى التصفية النهائية من أصل 121 رواية. وبانتظار الإعلان عن الفائز بالجائزة فإن فواز حداد لا يبدو سعيدا بقدر ما يظهر غضبا شديدا من النقاد والصحافة والأجواء العربية الفاسدة التي تلوث كل شيء. فواز حداد مقلّ في لقاءاته الصحافية، لكنه هذه المرة يتكلم ويبوح بما يؤرقه.
قطع الروائي السوري فواز حداد مسيرة ثماني روايات ومجموعة قصصية، ليصل إلى القارىء، وليعتبره الكثير من النقاد علامة فارقة في المشهد الروائي السوري، فيما وصلت إليه أضواء الإعلام متأخرة بعد إدراجه في القائمة القصيرة المرشحة لجائزة بوكر للعام الحالي.
وجرى كسر الطوق الذي يفرضه حداد حول عالمه الروائي، ووجد نفسه في خضم حوارات ومقابلات، المرفوض منها أكثر من المقبول، في إصرار على عدم التعاطي مع التلفزيون، والاقتصار على حوارات مكتوبة، وذلك لأنه بطبيعته «لا يحب الظهور» رغم أنه «ليس انطوائيا نموذجيا» و«ليس اجتماعيا إلا في حدود معينة». ومع ذلك يقول: «لا ريب أن هناك فائدة للكاتب من الإعلام، هذا أمر لا ينكر، لكن لدي ظنون سيئة حول الإعلام عامة، وترويجه للكثير من الأكاذيب. لا أريد أن أكون أحد أكاذيبه.. أؤمن أن على كتابي أن يبحر وحده في عوالم القراءة، فإذا كان لا يستحق فسوف يغرق، وإذا كان جيدا فسوف يصل إلى هدفه، حتى لو احتاج إلى سنوات طويلة».
لا يسلّم حداد بصحة رأيه هذا ويقول: «ربما كنت مخطئا، لا بد للكاتب الذي يريد الظهور أن يكون ممثلا، بمعنى أن ينتحل شخصية. ترى ما هي الشخصية التي سوف يتقمصها؟ هو مهما اختار فلن تكون شخصيته الحقيقية». وبالتالي يقول حداد: «أي ظهور لي يشكل عبئا لا يطاق، أنفر منه وأحاول تحاشيه، فأختار أهون الشرور كلها، وأجيب على أسئلة الصحافيين كتابة، أجدها أكثر دقة. وقد أضطر أحيانا إلى الظهور لكنني لا أحبذه. ولا ألوم أي شخص يظهر في الإعلام، بالعكس، أحترمه، وأدرك أن لكل منا مبرراته».
أما علاقته بالصحافيين فيصفها حداد الساخط دائما على الصحافة بأنها «جيدة»! مستثنيا «الذين يلتبسهم الغرور مع الاستعجال، فيطمحون إلى أن يكونوا شعراء وروائيين، وهو أمر مشروع لا غبار عليه، لكنهم للأسف يخوضون منافسات مقيتة، مع أنه بوسعهم أن يكونوا على علاقة طيبة مع الآخرين»!
ومع ذلك ثمة ملاحظة تطرح نفسها حول اهتمام الصحافة بأعمال الروائي فواز حداد، فقبل نشر رواياته الثلاث الأخيرة في بيروت كان غالبا ما يقتصر الحديث حول رواياته على التداول الشفاهي، وكان هذا واضحا جدا لدى صدور رواية «الضغينة والهوى»، التي عول عليها كثيرا نظرا للجهد الذي استهلكته والموضوعات الخطيرة والإشكاليات التي تعرضت لها على أكثر من مستوى، سياسي وفلسفي وحتى لاهوتي ديني، ورغم سخونة تلك القضايا لم تستقبل الرواية بما تستحق. وقد سبق وحصل هذا مع الرواية الثانية «تياترو»، ومن المفارقة أن البعض كان يهرب من نقد هذين العملين إلى الإشادة بالرواية الأولى «موزاييك»، وبما يوحي أن إبداعه توقف عند العمل الأول! وهو أمر لطالما أثار دهشة حداد، محاولا أن يبحث عن مبرراته دون أن يفوت الفرصة لتسديد سهم لاسع للنقد الصحفي، فيقول: «رواية (الضغينة والهوى)، النقاد لم يقتربوا منها أصلا، وعلى الأغلب لم يقرأوها. تنطّح الصحافيون للكتابة عنها، تناقشوا حولها في المقهى، وقرروا أن الرواية متعبة وشاقة. كانوا يفضلون الروايات الخفيفة، وهذه كانت ثقيلة عليهم. عدا أنهم لا يحبون القراءة عن أحداث مضى عليها الزمن ولو بضع سنوات، بالإضافة إلى أن القضايا لا تهمهم، وكانت لديهم طموحات إبداعية تتلخص في الكتابة عن أشياء ذاتية، كمغامراتهم مع النساء، تلك التي لم تحدث أو ستحدث. فكتبوا عن روايتي بشكل سلبي، حتى إن أحدهم كتب عنها دون أن يقرأها، وأخذ كلام أصدقائه بثقة كأمر مفروغ منه. هذا هو مستوى النقد في الصحافة الثقافية».
ولا يعتبر حداد أن النقد تعرض لرواياته الأخرى، وإنما «الصحافة تناولتها بطريقة سطحية. أي أن أعمالي تُركت لحظوظها، وكانت جيدة مع مضي الزمن، بل وشهدت رواجا معقولا. فمثلا رواية (الضغينة والهوى) صدر منها طبعتان خلال ثلاث سنوات».
من جانبنا نرى أن الصحافة لم تظلم فواز حداد، فرواياته الثلاث الأخيرة التي صدرت عن «دار رياض الريس» في بيروت لقيت رواجا إعلاميا معقولا لم تلقَه الروايات الأربع التي صدرت في سورية، فهل المشكلة في جهة النشر أم هي أسباب أخرى؟ يقول حداد: «حققت لي دار الريس الانتشار خارج سورية، فقرئت رواياتي على نطاق أوسع. في الواقع لم أنشر في بيروت إلا بسبب القيود الرقابية، فرواياتي الأخيرة لا يمكن أن تحظى بالنشر في الداخل، وأنا لم أرض لها أن تبقى حبيسة الأدراج. قدم لي رياض الريس بالذات فرصة ممتازة، عندما نشر لي (مرسال الغرام)، وتغاضى عن حجمها الكبير. الأعمال الضخمة لا تروقه، لكنه منحني هذا الاستثناء. لقد كنت محظوظا. إنه شخصية رائعة، ومشاغب من طراز رفيع».
ويلفت حداد إلى أن «أهمية ما يقوم به رياض الريس أنه لا يتوانى عن المجازفة في نشر الأعمال المقلقة والجدلية والخطرة، ويرحب بالمغامرات الفكرية والسياسية والروائية. والكاتب يتمتع بالحرية في العمل معه». إذا نظرنا إلى مسيرة فواز حداد الروائية نجدها مقسمة إلى مراحل متسلسلة، الأولى تضم ثلاث روايات على علاقة بالتاريخ: «موزاييك» دمشق 1939، «تياترو» 1949، ثم «صورة الروائي» في نحو السبعينيات من القرن الماضي. أما المرحلة الثانية فكانت: «الولد الجاهل» عما بعد الثورة، بينما «الضغينة والهوى» عن الفترة المضطربة بعد الاستقلال، ثم «مرسال الغرام» التي تناولت العهدين الملكي والجمهوري في مصر، فيما تقع أحداث «مشهد عابر» و«المترجم الخائن» خلال فترة ما بعد عام 2000. وكأنما عمل حداد يعيد سرد التاريخ روائيا، الأمر الذي يعلق عليه بأن الروائي «يستفيد من التاريخ، إنه جزء من ثقافته ومكوناته ومما هو مختزن لديه. لا رواية دون زمان ومكان، مهما حاولنا أن نفي ذلك».
وعليه فإن «علاقة الرواية بالتاريخ وثيقة، حتى لو كانت عن حدث راهن، لأنه بمجرد كتابته يتحول إلى تاريخ ما». ما يكتبه المؤرخون هو التاريخ حسب تصنيفاتهم، «أما نحن الروائيين فنكتب رواية هي مزيج من المرئي واللامرئي، الموثق وغير الموثق، الحقيقي والتخييلي، الواقعي والمتوهم. هذا المزيج لا يمكن الركون إليه في العمل التاريخي، ولا يصح الزعم بأننا نعيد سرد التاريخ روائيا، إلا إذا كان تفريغا له على الورق. أما إذا كان هناك من يصر على أن الروائي يعيد كتابة التاريخ فهذا مجرد هراء».
رغم اللطف والدماثة الدمشقيين اللذين يظهرهما حداد فإنه يكشف عن شراسة نقدية وهجاء لاذع في أعماله الروائية، حيث لا مجاملة ولا مهادنة، وإنما مواجهة لإشكاليات الماضي والحاضر عارية، فيعيد تشكيلها ومحاكمتها بصرامة. ولا عجب أن تتعرض ثلاث من رواياته للمنع، وهي: «صورة الروائي» و«مشهد عابر» و«المترجم الخائن»، وفي الأخيرة يشرح الواقع الثقافي العربي كاشفا ما يعتمل فيه من تشوهات وفساد على خلفية التحولات الكبرى التي شهدها العالم والمنطقة، بلغة هجائية نبررها بنأيه عن الأوساط الثقافية، فيما يبررها هو بأن المسافة التي وضعها بينه وبين الوسط الثقافي «لم تكن واسعة ولا ضيقة، ربما هذا السبب سمح لي برؤية أفضل. هل كنتُ موفقا؟ لست أدري تماما، المهم أنه عمل كان ينبغي إنجازه، لمشهد لا يصح إغفاله».
فالمثقف برأيه «لم يكن على مستوى التحولات المصيرية التي حدثت أواخر القرن الماضي، كان مستندا إلى منظومات فكرية راسخة، قومية واشتراكية، كلاهما هُزم فسارع إلى خيانتهما معا. وبينما كان لا بد من مراجعة ما فعلناه طوال العقود السابقة، قام الكثيرون بالتنصل من آرائهم والارتداد عنها؛ لعدم قناعتهم بما كانوا يروجون له من مبادئ وأفكار، وكأنها مجرد ألبسة يظهرون بها، وعندما يكتشفون أن هندامهم لا يليق بالرائج يخلعونها».
فالثقافة حسب رأي حداد «في منتهى الخطورة إذا أسيء استخدامها، وتركت أمورها لأناس لا يؤمنون بها إلا على أنها وسيلة للخداع أو أداة للتضليل. المشكلة الكبرى هي في تعميم الثقافة على هذا النحو، من خلال انتهاجها مبدأ تبادل المنافع، مما شكل مافيات ثقافية تقوم على استبعاد كل من يختلف معها».
واستنادا إلى هذه الرؤية يتساءل: «هل ينبغي الاكتفاء بملامسة هذه النخبة المفتونة بنفسها، والاكتفاء بنقدها تلميحا دون تصريح؟! كلا، الوضع أكثر ما يكون ملائما للهجاء». ويتابع: «أتعرض إلى الجانب المنحط من الجسم الثقافي، وهو جانب لا يستهان بحجمه، ويشكل جزءا ليس ضئيلا من الثقافة المرئية، لكن المثقفين ليسوا كتلة واحدة، وما نشهده من صراعات هي صراعات حقيقية ومستمرة، والأمور رغم تداخلها واضحة جدا. لا أزعم على الإطلاق أن الصورة سوداء تماما، فهناك نقاط مضيئة، وعلينا أن نجعل هذه الأضواء أكثر كشفا، وبالتالي لست في وارد الشكوى وإنما في معرض الشاهد، أصف تربع هؤلاء المثقفين المهزومين في الواجهة على الدوام وبشتى الأساليب، لم يخسروا مكانتهم على الرغم من انعكاس الظروف السياسية على البلاد بشكل محبط ومروع، سواء (الصراع العربي الإسرائيلي) أو (احتلال العراق). لهذا لم تلعب الثقافة دورها الفاعل، لماذا؟ لأنها في شقها الظاهر ثقافة مشوهة يقوم عليها أناس مشوهون».
ويتابع جازما: «الثقافة ليست أداة تبرير واستسلام. ما الذي جرى حتى تغيرت المدلولات؟ ولماذا تلعب الثقافة دورا بائسا، همه تيئيسنا؟ روايتي الأخيرة (المترجم الخائن) دفاع عن الثقافة واستقلاليتها إزاء الأنظمة والسلطات والمجتمع».
على هذه الخلفية كيف ينظر حداد إلى وصوله إلى القائمة القصيرة للترشيح لجائزة بوكر؟ خاصة أن الجوائز الثقافية كانت دائما محط شبهة من قبل المثقفين العرب، ومع ذلك يسعون إليها ويفرحون بها!
يرد: «للجوائز أغراض، ولا جائزة دون غاية، المفترض أن تكون نبيلة، ولا يستبعد أحيانا أن تكون مشبوهة، وللكاتب الحرية في رفضها إذا تعارضت مع مبادئه. ولقد قام بعض الكُتاب بالامتناع عن قبول جوائز ذات قيمة مادية كبيرة، وكان كسبهم المعنوي أكبر. أما إذا كان الكُتاب يسعون إليها ويفرحون بها فهو أمر أكثر من طبيعي، فهي تشكل اعترافا بالكاتب وتقديرا لجهده الإبداعي. لا بأس في طلب الجائزة، على ألا تتعارض مع ما يؤمن به الكاتب، وإلا كانت إذلالا له
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى