سوريا أرض الظلال والاشباح
دون بيلت
هناك مشهد في فيلم العراب وهي ان مايكل يعرف ان اخاه الاكبر قد قتل بشكل مفاجئ ووحشي وهنا يجد نفسه مضطرا لأن يقود ألمافيا التي اسسها والده من البداية.
يتحدث مايكل الى ضيفه قائلا : “قل لوالدي ان يعيدني الى الوطن “
لقد قرر ان يتولى الدور الذي قدر له ان يلعبه
“قل لوالدي لقد قررت ان اكون ابنك”
إذا كان هناك لحظة مثل هذه لبشار الأسد الرئيس الحالي لسوريا فإنها قد تكون قد حانت في وقت ما بعد الساعة السابعة صباحا في 21 يناير 1994. عندما دق جرس الهاتف في غرفته المستأجرة في لندن. طبيب العيون الطويل بشار الذي كان بعمر ال 28 عاما ذلك الوقت كان يعمل مقيما في مستشفى العيون الغربي وهو جزء من نظام مستشفى سانت ماري في بريطانيا. بعد أن رفع هاتف السماعة, علم أن أخاه الأكبر باسل كان يقود سيارته المرسيدس بسرعة عالية إلى مطار دمشق الدولي في ذلك الصباح الذي كان يسوده الضباب في طريق ملتوية. و أن باسل ذو الشخصية الكاريزمية و الذي كان يعد لخلافة والده قد مات بشكل مباشر في حادث السيارة. و الآن فإن بشار قد استدعى للعودة إلى بلاده.
و نمضي بسرعة الى الأمام و تحديدا الى حزيران من العام 2000 و موت الأب حافظ الأسد نتيجة لقصور في القلب في سن ال69. بعد الجنازة بوقت قصير دخل بشار مكتب والده للمرة الثانية فقط في حياته. لقد كان لديه ذاكرة واضحة لزيارته الأولى و ذلك عندما كان في السابعة من العمر, فقد ركض فرحا ليخبر والده عن درسه الأول في اللغة الفرنسية. و يتذكر بشار أنه رأى زجاجة كبيرة من الكولونيا على الخزانة بجانب مكتب والده. لقد كان مندهشا لرؤيتها مرة أخرى على نفس الوضعية في نفس المكان بعد 27 عاما. إن هذا التفصيل حول هذه الكولونيا القديمة يوحي بالكثير حول حكومة سوريا المغلقة و الراكدة, و الدكتاتورية القديمة التي شعر بشار الذي تدرب على مداواة العين الإنسانية بأنه غير مجهز لقيادتها.
لقد قال لي بشار بأن ” والده لم يتحدث معه في السياسة مطلقا, لقد كان أبا دافئا و حنونا جدا, و لكن حتى و بعد عودتي الى البلاد عام 1994, فإن كل شيئ تعلمته حول اتخاذه للقرارات جاء من خلال قراءة الملاحظات التي كانت تكتب خلال الاجتماعات, أو من خلال الحديث إلى أصدقائه”. و أحد هذه الدروس كان و على خلاف ممارسة جراحة العيون فإن إدارة بلد مثل سوريا بحاجة الى راحة تامة إضافة إلى الغموض. إن بشار و هو مصور محترف يقارن الأمر مع الصور البيضاء و السوداء .يقول: “ليس هناك أسود صاف و لا أبيض صاف كذلك,و ليس هناك أمر جيد تام أو سيئ بشكل كلي, إن هناك ظلالا رمادية فقط”.
إن سوريا مكان قديم, شكلتها آلاف السنين من التجارة و الهجرة الإنسانية. و لكن إذا كانت كل أمة صورة فوتوغرافية, و آلاف الظلال الرمادية, فإن سوريا و بكل عصورها القديمة تمثل في الحقيقة صورة تطورت بشكل بطئ أمام أعيننا. إنها ذلك النوع من الأمكنة التي يمكن لك أن تجلس فيها في مقهى دمشقي مزدحم لتستمع إلى راو للقصص بعمر 75 سنة يقص فيها قصص الإمبراطوريات الصليبية و العثمانية و كأنها تمثل ذكريات طفولته, ملوحا بسيفه بشكل قوي بحيث يبحث المستمعون عن غطاء لهم, و من ثم تمضي بسيرك نحو المسجد الأموي القريب الرائع, و الذي بني في العام 715 للميلاد تقريبا, و تنضم بطريقك إلى أطفال الشوارع الذين يلعبون كرة القدم على عتبات بيوتهم, غير آبهين للحشود الكبيرة من الحجاج الإيرانيين الذين يأتون للصلاة في المساء أو حتى بالعوائل التي تتلذذ بالآيس كريم. كما أنها المكان الذي يمكنك فيه أن تتناول طعام العشاء مع أصدقائك في مقهى عصري و من ثم و بينما تنتظر حافلة المساء, فإنك تستمع إلى أصوات هادرة و مخيفة قادمة من الطابق الثاني لمركز شرطة باب توما. و في الشارع, ينظرالسوريون إلى بعضهم البعض نظرات تدل على معرفة ما يجري, و لكن لا أحد يتلفظ و لو بكلمة. إن هناك شخصا ما قد يصيخ السمع.
إن نظام الأسد لم يتربع على عرش السلطة لأربعين سنة من خلال اللعب بصورة لطيفة. لقد استطاع البقاء على الرغم من وجود جيرة قوية – يحد سوريا العراق و إسرائيل و الأردن و لبنان و تركيا- و من خلال المزج ما بين المكر و التملق للدول الأكثر قوة, أولا الاتحاد السوفيتي و الآن إيران. في دولة تعيش حالة الحرب مع إسرائيل منذ العام 1948 فإن سورية تقدم الدعم المادي للجماعات الإسلامية مثل حزب الله و حماس؛ كما أنها مصممة على استعادة مرتفعات الجولان, و هي المرتفعات السورية التي استولت عليها إسرائيل عام 1967. إن علاقات سوريا مع الولايات المتحدة نادرا ما تكون جيدة, و شهدت تراجعا بخاصة بعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003, وذلك عندما استشهد جورج دبليو بوش بمعارضة سوريا للحرب و دعم المتمردين العراقيين و قد هدد بتغيير النظام في دمشق كما أنه وصف الرئيس السوري الشاب بأنه أمير شرق أوسطي للظلام.
إن هناك عقدا مضى تقريبا على تسلم بشار لمنصبه, و من العدل أن نسأل ما الذي قد تغير؟ إن كان هناك أي شيء قد تغير. كما أنها فرصة طيبة للوقوف على الوضع – مع قيام سوريا بالرد على المبادرات القادمة من القيادة الأمريكية الجديدة التواقة لتحقيق النجاح في الشرق الأوسط – مع كون سوريا مستعدة للعب دور حيوي في شئون المنطقة. لقد قال هنري كسينجر مقولة مشهورة بأنه لا يمكن وجود حرب دون مصر أو سلام دون سوريا في الشرق الأوسط, و قد يكون محقا في هذا. حتى أن الأسد قد اعترف بأنه سيكون من الصعب على سوريا التحرك قدما دون الميل نحو الشئون الداخلية المعيقة.
خارج سوق الحميدية القديم في دمشق, كان هناك صورة لحافظ الأسد تغطي بناية بارتفاع ثلاثة طوابق. وتتميز الصورة بجبهة عالية و عيون لاعب البوكر, إن جبهة الرئيس العريضة كانت تطل على عاصمته المزدحمة و على الأربعة ملايين ساكن فيها, كما يفعل ذلك من خلال جميع لوحات الإعلان و الصور الكبيرة التي تملأ سوريا. على غرار الطوائف الشمولية للإمبراطورية السوفيتية فإن صورة الرفيق الكبيرة هذه دئما تعطي سوريا الشعور بأنها مختومة بالكهرمان, و موجودة في عصر كان فيه الدكتاتوريون حقا دكتاتوريين, و ذلك أيام ستالين و ماو. هذه هي سوريا التي تركها حافظ من خلفه.
في مكانها اليوم, هناك لوحة إعلان كبيرة محاطة بجدران مدينة رومانية تظهر فيها صورة للرئيس الأول لعصر ما بعد الحداثة و هو يلوح بيديه. و يظهر بشار في الصورة و هو مبتسم بوجهه القططي, متجه بشعره إلى أشعة الشمس. و تقول اللافتة بصورة تدعو إلى الاطمئنان ” أنا أؤمن بسوريا”. و لكن الأمر بحاجة إلى أكثر من ابتسامة و شعار من أجل إعادة تشكيل بلاده و هو يعرف ذلك تماما. و قد أخبرني بشار بأن ” ما تحتاجه سوريا الآن هو التغيير في العقلية”.
إن قرية عائلة الرئيس الأسد هي القرداحة و هي تقع على إحدى المنحدرات الجبلية التي تواجه الغرب, و هي بعيدة و محمية كحال القرى التلية في العادة, و مع ذلك فهي قريبة جدا من البحر الأبيض المتوسط بحيث أنه وفي يوم صاف فإن بإمكانك أن تشاهد مراكب الصيد في اللاذقية التي تعتبر أكبر ميناء بحري في سوريا, كما يمكنك رؤية الطيور البحرية و هي تحلق في السماء من الجهة الغربية. إن طريقا سريعا من أربعة مسارات يظهر مثل شيئ مرتفع من الساحل و هو يؤدي الصلوات للقرية الجبلية, حيث الطرق ممهدة و المنازل فخمة و رجال الحكم – و هم رجال ضخام في الخمسينات و الستينات من العمر يحملون أنفسهم كسادة المافيا الذين يقضون إجازاتهم- يطوفون بالقرية بملابس النوم.
قبل مئات السنوات كانت القرداحة ملاذا للشيعة المعوزين الذين كانوا يتبعون ابن عم الرسول وصهره علي, حيث و من قبل قرون أعلن المسلمون أن هذه الطائفة مرتدة مما اضطرهم إلى اللجوء إلى جبال شمال غرب سوريا, حيث عرفوا هناك بالعلويين. و من ثم و في العام 1939 كان هناك ولد ذكي يبلغ من العمر 9 سنوات أرسل من الجبل لكي يدرس. و قد عاش في اللاذقية بينما كان ملتحقا بمدرسة كان يديرها الفرنسيون, الذين استولوا على هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى, في التقسيم الكبير لسوريا التاريخية ( التي كانت تضم إسرائيل اليوم و الأراضي الفلسطينية و الأردن و لبنان و غرب العراق و جنوب تركيا) وهو ما خططت له كل من بريطانيا و فرنسا في اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916.
لقد كان حافظ الأسد طويل القامة و هادئا بالنسبة لسنه, و قد حقق النجاح و في النهاية تمكن من الوصول إلى الحكم. بعد أن نالت سوريا استقلالها عن فرنسا عام 1946, انضم حافظ إلى حزب البعث وهو حركة علمانية قومية سوف تسيطر على الحكم في سوريا عام 1963. لقد ارتقى حافظ في سلم الرتب في القوات الجوية حتى تسلم منصب وزير الدفاع في النهاية. و من خلال موقعه قام في عام 1970 بانقلاب أبيض مع مجموعة من الضباط المؤتمنين العديد منهم ينتمون إلى الطائفة العلوية. و منذ ذلك الوقت, استطاع اتباع هذه الطائفة الشيعية الصغيرة السيطرة على السلطة في هذا المجتمع المركب و المختلط عرقيا, و الذي يبلغ تعداد سكانه 20 مليون نسمة يشكل السنة 76% من مجموع السكان – وهو السيناريو الذي شبهه أحد الدبلوماسيين بترأس الهيلبيليس لكالفورنيا-.
لقد استطاع حافظ الأسد البقاء من خلال قدرته على أن يكون مناورا من طراز عالمي للأحداث الجيوسياسية, و من خلال ضعفه استطاع التعامل بذكاء مع الأحداث بحيث أن بيل كلينتون وصفه بأنه أذكى زعيم شرق أوسطي التفى به على الإطلاق. داخل سوريا, كان حافظ سيدا في التعامل مع الهويات الدينية الداخلية القابلة للانفجار و قد قام ببناء نظام علماني متين. و قد شجع على عدم استخدام مصطلح العلوي في العلن و قد غير اسم منطقته إلى الجبال الغربية؛ و لازال من قلة الأدب السؤال في سوريا عن الدين. كما أنه مضى في طريقه لحماية الأقليات الدينية الأخرى – المسيحيين و الإسماعليين و الدروز- لأنه كان بحاجتهم كقوة موازنة للسنة.
لقد كان حافظ عديم الرحمة مع أعدائه, خصوصا مع جماعة الإخوان السنية, و هي حركة سنية إسلامية كانت تتوق لإزالة العلويين الكفرة عن الحكم و جعل سوريا دولة إسلامية. و من أجل مواجهتهم, فقد قام ببناء جهاز أمن داخلي متين على طراز الدول الشيوعية البوليسية في أوروبا الشرقية. عندما قام الإخوان المسلمون بشن سلسلة من الهجمات في نهاية السبعينات و بداية الثمانينات, أرسل حافظ قواته الجوية من أجل قصف الأحياء المأهولة بكثافة في معقل الإخوان القوي في حماة. و قد قامت قواته بتجريف البقايا المشتعلة. لقد قتل ما بين 10000-40000 من سكان المدينة, كما اعتقل آلافا آخرين و تعرضوا للتعذيب و بقي الكثير منهم في السجون. و على الرغم من انتقادات منظمات حقوق الإنسان, فإن النظام سرعان ما أطلق شرطته الداخلية تجاه جميع معارضيه السياسيين.
عندما مات حافظ الأسد عام 2000, أعيد جسده إلى القرداحة و سجي إلى جانب قبر ولده البكر باسل, الذي كان فارسا مرتديا الزي الرسمي و قد كان مختلفا تماما عن أخيه الصغير ذو الصوت الناعم و الصحة الجيدة و المهتم بموسيقى الياني و الأوركسترا ذات الكهرباء الخفيفة. إن أية إشارة بأن بشار خصم يسهل التغلب عليه هو مجرد وهم, كما يقول رايان كروكر الذي خدم كسفير للولايات المتحدة في دمشق خلال مرحلة نقل السلطة من الوالد إلى الإبن. و يضيف :” إن بشار وسيم جدا بحيث أنه من السهولة بمكان إساءة تقديره فعليا, و لكن كن مطمئنا: إنه ابن والده”.
لقد كان هناك شاب في معطف جلدي تقليدي يرسم في دفتر ملاحظاتي, لقد رسم مركبا في بحر متلاطم بحذافير حذرة كتبها بقلم أزرق اللون. لقد كنا في مقهى مطل على الجبال الحجرية شمال سوريا, نتأمل ظلال السحاب عبر المناظر الطبيعية للتربة الحمراء و أشجار الزيتون الفضية- الخضراء, لقد قال الرجل “الحرية”. هذا ما نحتاج إليه فعلا.
يقول الرجل :”إنني لا أتحدث عن الحرية السياسية” و قد كان ينظر خلف كتفه ليتأكد من عدم وجود رجال مخابرات أو شرطة سرية. ” إنني أعني الحرية لعمل الأشياء, دون أن تخنق بحبال البيروقراطيين. في سوريا, بالنسبة لأشخاص مثلي, ليس هناك أي حافز لتجربة أي شيء جديد, أو لإبداع شيء ما. ليس هناك مجال. قد لا تحصل أبدا على الموافقة من الحكومة, أو حتى على الإذن للتفكير به. إن الأمر كله خاضع هنا لمعارفك, أو لأي عشيرة أو قرية تنتمي, و كم هي كمية فيتامين واو في جعبتك”.
وقد سألته “فيتامين واو؟” مستذكرا أن هناك حرفا عربيا لفظه واو.
فرد علي وهو يضحك ” الواسطة, المال و الرشوات”.
وقد سألته مشيرا إلى الرسم الذي كان يرسمه :” إلى أين يمضي مركبك؟”.
فأجاب بغضب ” إلى لا مكان, ليس لدي فيتامين واو”.
بعد فترة قصيرة على عودة بشار من لندن, شخص حالة سوريا على أنها تعاني من جرعة زائدة من فيتامين واو. و بعد وصوله إلى السلطة عام 2000, فقد قام بإطلاق حملة قوية لمحاربة الفساد, حيث قام بطرد مجموعة من الوزراء و البيروقراطيين و تعهد باستبدال الطرق القديمة المحبوبة في الواسطة بعقليته الجديدة التي كان يريد غرسها. مملوءاً بروح الإصلاح فقد قام بإطلاق مئات المعتقلين السياسيين و خفف القيود عن المعارضة السياسية و هو ما أطلق عليه ربيع دمشق الذي سرعان ما تطور من غرف الجلوس إلى ثقافة لمقاهي الانترنت. لقد كان بشار هو نفسه من جعل هذا الاتجاه الأخير ممكنا, و قد عمل مع أشخاص تكنوقراط مشابهين له من أجل حوسبة سوريا قبل أن يكون رئيسا. و مع اعتراض المخابرات العسكرية القوية في البلاد فقد قام بشار باقناع والده بأن يصل سوريا بشبكة الانترنت العالمية عام 1998.
كما أنه اتخذ خطوات من أجل توفير الدعم لاقتصاد سوريا الراكد . يقول عبد الله الدردي وهو اقتصادي تخرج من بريطانيا و يبلغ من العمر 46 عاما و هو يعمل كنائب لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية :” أربعون عاما من الاشتراكية, هذا ما نحن بصدد مواجهته”. لقد عمل بشار على تشغيل و استقدام أفضل الخبرات السورية و ألمعها من التي كانت تعمل في الخارج. لقد عمل الفريق الجديد على خصخصة النظام البنكي كما عمل على إنشاء مناطق صناعية حرة و افتتح سوق دمشق المالي من أجل دعم مزيد من الاستثمارات الخاصة و الأجنبية وهو ما سرع من نبض حياة العاصمة دمشق و أدى إلى افتتاح العديد من النوادي الليلية و المطاعم الفاخرة.
يقول بشار :” إن عملي هو خدمة شعب سوريا”, و معروف عن بشار دخوله إلى المطاعم بشكل مفاجئ تاركا حراسه الشخصيين في الخارج, من أجل مشاركةالناس طعامهم. في دعمه للحداثة, فإن شريك بشار الأكبر في هذا الأمر هي زوجته أسماء الأخرس, و هي امرأة انيقة ذات تعليم غربي أطلقت العديد من البرامج المدعومة حكوميا من أجل تعزيز الثقافة و الاقتصاد. لقد ولدت أسماء وتربت في لندن و هي ابنة لرجل أعمال سوري بارز. إن لديها و لدى بشار 3 أطفال مولعون بأخذ جولات على الدراجات الهوائية في التلال المحيطة بالعاصمة, في تناقض ملحوظ مع حافظ الأسد الذي كان نادرا ما يظهر في العلن. يقول بشار :” ستعرف ما يحتاج إليه الناس إذا كنت على اتصال معهم فقط, إننا نرفض العيش داخل فقاعة. وأعتقد أنه ولهذه الأسباب فإن الناس يثقون بنا”.
لأكثر من 4000 سنة شكلت مدينة حلب الشمالية تقاطعا للحركة التجارية على طول الهلال الخصيب ابتداء من بلاد ما بين النهرين إلى البحر المتوسط. محروسة بقلعتها العالية فإن مدينة حلب ذات ال 900 فدان بقيت سليمة في جوهرها منذ العصور الوسطى. حاليا, فإن الدخول إلى سوقها المغطى و الذي يعتبر الأكبر في العالم العربي, هو كمثل التنقل في أماكن من القرن الخامس عشر فهناك تجد تجارا يشبهون تجار العصور الوسطى كبائعي المواد الغذائية و تجار الذهب و العربات التي تجرها الحمير و الحرفيين و باعة الحلي الرخيصة و المتسولين و مواكب الأغنام ذات الأجراس والألوان المختلفة و الرعاة الذين يلبسون الصنادل. إذا زال البيروقراطيون من حلب فإن الكثير من هذه الأمور سوف تختفي.
خلال فترة الخمسينات, قام مخططو المدن بالشروع في تطبيق خطة تطوير عصرية, حيث قاموا بوضع خطط لشق الشوارع الحديثة العريضة ذات الطراز الغربي داخل المدينة القديمة. وفي عام 1977 قام السكان المحليون يقودهم مهندس قديم من المدينة اسمه عدلي قدسي بمواجهة هذه الخطة حتى أدى ذلك في نهاية الأمر إلى أن تغير الحكومة هذه الخطة. و اليوم فإن المدينة القديمة باقية على حالها, و بنيتها التحتية تخضع للفحص و ذلك بتمويل من مصادر حكومية و محلية خيرية. و بسبب آثارها المتداعية فإن بشار يقتبس حلب القديمة كمثال هام على العقلية التي يبحث عنها, وهي تعتبر مثالا على الكيفية التي كانت بها سوريا في الماضي بحيث أن ثروتها العظيمة يمكن أن تجدد و تستخدم في المستقبل.
يقول الدردري لقد كانت سوريا دولة تجارية لعدة آلاف من السنوات, إن ما نحاول أن نقوم به الآن هو العودة بالبلاد إلى جذورها التجارية, و لكن الأمر لن يكون سهلا: إن 25% من القوة العاملة لا زالت تعتمد على الراتب الحكومي. لقد ورثنا اقتصادا يدار بالرعاية و المال الحكومي, و لا يمكننا إبقاء الأمور على هذا النحو.”
لكي أرى ما الذي يقف ضده الدردري و الذين يبحثون عن تحديث البلاد, فقد أخذت جولة في معمل حكومي لمعالجة القطن في مدينة حلب يشبه المصانع التي كانت موجودة في الاتحاد السوفيتي, منشآت كبيرة منهارة و مكائن صدئة. وقد تجول مدير المصنع معي و حدثني حول أرقام انتاج المعمل المعمر وسجل الأمان المعصوم الموجود فيه غير مدرك أن هناك مجموعة من العمال قد أخبروني للتو حول فقدان الأصابع و سحق الأقدام و الأضرار الرئوية التي يعانون منها. و عندما سألته حول ما إذا كان المصنع يحقق أرباحا, فقد نظر إلي و كأنني أتكلم بعدة ألسن.
من خلال السماح للاستمثار الخاص في المصانع التي تديرها الحكومة, ابتداء من معامل الإسمنت و النفط, فإن بشار و المصلحون يأملون في تحديث عمليات هذه المصانع و إدارتها بصورة أكثر فعالية. لقد تم فقدان العديد من الوظائف خلال هذه العملية, كما أن الأسعار لم تعد مدعومة وقد ارتفعت ارتفاعا ملحوظا. و لكن العديد من السوريين يعتمدون على مداخيل الحكومة الناتجة عن صناعة القطن – وهو مصدر رئيس لعائدات التصدير- وهذا القطاع قد بقي بشكل كبير تحت الإدارة الحكومية.
في عدة نواحي, فإن سوريا التي ورثها بشار تحمل جميع إشارات المشاريع الأثرية, و هي جاهزة للانهيار. إن النظام الذي بناه حزب البعث السوري في الستينات و الذي يعتمد على مشاريع الدولة و الوظائف الحكومية قد أدى إلى رفع مستويات المعيشة كما أدخل التعليم و الرعاية الصحية إلى القرى الريفية, و لكنه يشابه إلى حد كبير اشتراكية الكتلة الشرقية الفاسدة و التي انهارت تحت وطأة نفسها في بداية التسعينات. إن البيروقراطية السورية أكبر سنا من هذه الدول, فقد نصبت أعمدتها على بقايا الحقب الاستعمارية للدولة العثمانية و الفرنسيين.
إن إصلاح التعليم قائم أيضا على أجندة بشار الأسد, و لكن لحظته لم تحن بعد. إن مدارس الأطفال تدرس بكتب عفا عليها الدهر تحفظ عن ظهر قلب, و يحكم بها حتى في المستويات الجامعية بعدد من الحقائق المعروفة. في دمشق, و التي كان يشار إليها كعاصمة للثقافة الشرقية, فإنه من الصعب العثور على مكتبة لا تمتلئ رفوفها بأطروحات من الحقبة الشيوعية قام منظروا حزب البعث بكتابتها.
يقول الدردري :” إن ابنتي ذات ال11 عاما مشوشة جدا, إنها تسمع مني في البيت حول السوق الحرة و الطريقة التي يعمل بها العالم, و من ثم فإنها تذهب إلى المدرسة و تتعلم من الكتب التي تعود إلى فترة السبعينات و التي تبشر بالماركسية و انتصار البروليتاريا. و تعود إلى البيت و تلك النظرة الغربية على وجهها و تقول لي :أبي أشعر وكأني كرة بينغ بونغ”.
عندما يذهب الولد إلى العمل العائلي, فإن الطريقة القديمة في العمل لا يمكن تغييرها بسهولة. حتى مع أن الولد الكبير باسل كان يعتبر أكثر شبها بوالده’ فإن الأمور انتهت ببشار إلى أن يسير على خطى والده بطريقة أو بأخرى. بعد سنة على توليه الحكم قامت الطائرات بضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك , و فجأة ظهر أن التهديد للأنظمة العلمانية “غير المسلمة” مثل سوريا من قبل القاعدة و أبناء عمومتها في جماعة الإخوان المسلمين أكبر من أي وقت مضى. إن غزو الولايات المتحدة للعراق و صوت السيوف المشرعة تجاه دمشق أدى إلى إلهاب الإسلاميين السوريين بشكل أكبر, في الوقت الذي عانت فيه البلاد من تدفق 1.4 مليون لاجئ عراقي, أغلبهم لم يعودوا إلى ديارهم. البعض يعتقد أن بشار الأسد، وفي خطوة تذكر بوالده، حوّل الغضب العارم في سوريا بعيدا عن نظامه الضعيف تجاه الأمريكان على امتداد الحدود مع العراق, فقد سمح للجهاديين باستخدام سوريا كمنطقة انطلاق و نقطة عبور.
حتى قبل أحداث 11/9 فإن بشار الأسد كان قد تراجع عن الإصلاح السياسي و حرية التعبير. إن دافعه الخاص ضد الفساد قد توقف و قوض بعلاقات العمل الخفية لعائلته الكبيرة. إن التحقيقات عام 2005 باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريرير في بيروت قد قادت إلى عتبات سوريا؛ و بعد ذلك بوقت قصير قام بشار باعتقال العديد من الناشطين السياسيين الذين كان أفرج عنهم قبل سنوات قليلة مضت. و السنة الماضية, و في لفتة مضحكة للشخص الذي كرس نفسه لجلب الإنترنت إلى سوريا, قامت حكومة بشار بمنع قائمة طويلة من المواقع الإلكترونية التي تراوحت ما بين مواقع عربية إخبارية إلى موقع اليو تيوب و الفيس بوك. في كل هذه الأحداث, البعض رأى بشار كضحية لعناصر رجعية داخل النظام , الشاب المثالي تأثر بعناصر قوة لا يملك السلطة لمقاومتها. و آخرون رأوا أن العراب الصغير قد تعلم كيف يفرد عضلاته.
لقد وجه بشار اللوم إلى الغزو الأمريكي للعراق بأنه دفع المنطقة و سوريا إلى زاوية مظلمة كما أنه دافع عن الإجراءات الأمنية القاسية التي اتخذها في البلاد و اعتبرها سلاحا حيويا في الصراع من أجل البقاء. و لكن من غير المعروف أكان يتحدث عن بقاء سوريا أو عن بقاء نظامه. يقول :” إننا في دولة في حالة حرب مع إسرائيل, كما أننا في صراع مع الإخوان المسلمين منذ الخمسينات. و لكن لدينا الآن ما يشكل خطرا أسوأ من القاعدة. إن القاعدة عبارة عن حالة عقلية. إن الخطر يكمن في القرص المدمج و الكتيبات. و من الصعب جدا الكشف عن هذه الأمور. و لهذا فإننا بحاجة إلى قوات أمن داخلية قوية”.
إن أعضاء المعارضة , و الذين يعمل أغلبهم في السر أو أنهم في السجون, لا يقتنعون بهذه الحجة, و قد اعتادوا على سماعها لأكثر من 30 سنة من أجل خنق أي شرارة معارضة. مع الاعتراف بأن القمع يمارس اليوم بطريقة أكثر لطفا, فإن الناشطين الذين تحدثت إليهم يرون أن الفرق ما بين نظام بشار و نظام والده مجرد اختلاف شكلي. يقول ناشط في حقوق الإنسان التقيته سرا في شقة على أطراف العاصمة :” إن بشار يبدو شخصا لطيفا, ولكن الحكومة أكثر من مجرد شخص واحد”. لقد تعرض للتحقيق أكثر من 6 مرات من قبل أجهزة أمنية مختلفة تابعة للدولة. و يتابع وهو يدخن السيجارة و الدوائر السوداء تغطي أسفل عينه ” إن العيش هنا أمر مخيف, إنك تشعر دائما بأن شخصا ما يراقبك. تنظر حواليك و لا ترى أحدا. و تقول بأنه لا يجب أن يتملكك هذا الشعور. أنا مجنون بالتأكيد. إن هذا ما يريدونه.”
إيا كان هدفه, فإن ظل سوريا من الخوف و السحب التي تغطي شمسها منشرة بشكل كبير. من أجل حماية مصادري في هذا المقال, فقد تركت عددا من الأشخاص من غير ذكر أسمائهم, خوفا من أن يتم اعتقالهم حالما ينشر المقال. على سبيل المثال هناك أكاديمي التقيته في حلب تعرض لتحقيق قاس بعد أن شارك في مؤتمر حضره علماء إسرائيليون. وبعد ترهيبه من إخبار الآخرين تركه المحققون يذهب في حال سبيله محذرين إياه من أن ينبس ببنت شفه أو أن ملفه سيعاد فتحه. في إدلب, وهي معقل أصولي إسلامي في (جنوب!!) حلب, فقد شبه لي تاجر الحياة في سوريا بوجود أجهزة الأمن الداخلية بأنها ” كالسير على جانب الطريق و التفكير دائما إلى الأمام و الحذر من كل حركة يمكن أن تقوم بها”.
في صباح أحد الأيام في دمشق, كنت أتحدث إلى مجموعة من عمال المياومة في حديقة عامة, و قد كانوا شبانا في نهاية سن المراهقة و بداية العشرينات و قد كانوا يبحثون عن عمل. معظمهم قادمون من جنوب سوريا من حوالي منطقة درعا و قد كانوا يتجادلون حول ماهية مدينة درعا. وقد كانوا يصفونها بأوصاف غير جيدة على أنها منطقة جافة و حفرة وسخة؛ وقد كنت أدافع عنها, فقد مررت بها عدة مرات خلال ذهابي إلى الأردن. و بينما كنا نتبادل المزاح, كان هناك رجل في منتصف العمر يرتدي قميص بولو أخضر و يضع النظارات الشمسية ينظر إلينا و يسترق السمع. و بسبب أن العمال أصبحوا على معرفة به, فإن نقاشنا قد توقف تماما.
“حقيقة إن درعا مدينة عظيمة” , هذا ما قاله الوافد الجديد في نهاية الأمر, بطريقة حاسمة فولاذية. وقد ذهب الآخرون بعيدا بشكل مفاجئ و قد شعروا بالخوف من الرجل . لمعرفة ما سيفعل, فقد أخبرته أن لدي برنامجا مخططا له لمقابلة الرئيس و سألته ما إذا كان يريد مني أن أحمل له رسالة معي. حدق بي للحظة, و من ثم ذهب و جلس على المقعد, و شرع يكتب في دفتر ملاحظاته, لقد ظننت بأنه كان يكتب تقريرا عني, أو لربما يصدر نوعا خاصا من التذاكر. و بعد عدة دقائق مضت عاد مرة أخرى.
و قال لي :” رجاء أوصل لي هذه الرسالة إلى الرئيس” و سلمني ورقة طويت عدة مرات. و من ثم استدار و مضى ذاهبا. و قد كتب على الورقة اسمه ورقم هاتفه و رسالة بالعربية الفصحى “تحية إلى الدكتور الرئيس بشار المحترم. هذه ورقة من شاب سوري وطني من الحسكة بحاجة ماسة للعمل في وظيفة في منصب عام, وشكرا لك”.
ناشيونال جيوغرافيك