صحافة «أولاد آدو» … «المحافظون الجدد» العرب
فضل مصطفى النقيب
المرة الأولى التي سمعت فيها تعبير «أولاد آدو» كانت في إحدى المظاهرات السياسية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كنت تلميذاً في المدرسة الثانوية في دمشق، أيام صعود حركة التحرر الوطني.
كنا نهتف للوحدة والتحرر ولعبد الناصر عندما سمعت همسات بعض الرفاق بأن علينا أن نأخذ حذرنا لأن بعض «أولاد آدو» قد اندسوا في المظاهرة.
لم يكن قد مضى على نزوحنا من فلسطين إلى دمشق إلا بضع سنوات، ولهذا كنت ما زلت لا أعرف معنى بعض التعابير الدمشقية، ولكني أدركت على الفور أن المقصود هو أن بعض المعادين لحركة التحرر الوطني قد اندسوا في المظاهرة.
لم أسال عن المعنى الحرفي للتعبير وأصل استعماله مع أنني رحت أسمعه بشكل متكرر في سنوات نهاية الخمسينيات حيث كان أصدقائي ينعتون السياسيين والصحافيين المناوئين لحركة التحرر الوطني في سوريا ولبنان بأنهم من جماعة «أولاد آدو». وبشكل عفوي، رحت أعد الآراء الصادرة عن مقالات كانت تنشرها جريدة «الحياة» في بيروت، بين الحين والآخر، وتحمل توقيع «الكاتب العربي الكبير»، على أنها ممثلة للفكر السياسي لجماعة «أولاد آدو»، فقد كانت تؤكد أن مصلحة العرب ليست في انتهاج سياسة التحرر من سيطرة الدول الغربية ولكن في الانضمام للأحلاف العسكرية التي كانت تقيمها تلك الدول ضد «الخطر الشيوعي»، كما كانت تؤكد أن الأسلوب الذي تتبعه حركة التحرر العربي بقيادة عبد الناصر في الصراع المباشر مع الاستعمار لا يجدي، وأن الأسلوب الذي يحقق نتائج عملية ملموسة هو أسلوب «خذ وطالب» الذي سلكه الملك فيصل الأول، ومن بعده نوري السعيد، في العراق. وكان في إصرار جريدة «الحياة» على عدم إفشاء اسم «الكاتب العربي الكبير» وإبقائه محاطاً بالسرية والغموض ما يزيد من صلاحيته، بالنسبة لي في تمثيل آراء ومواقف «أولاد آدو» السياسية.
ولم أسمع تعبير «أولاد أدو» مرة أخرى إلا بعد سنوات في نهاية عام 1961 حين كنت في السنة الجامعية الثانية في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأميركية وحصل الانفصال في سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، التي قامت بين مصر وسوريا عام 1958، فوقتها تلقيت مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء الدمشقيين، الذي كان يدرس في جامعة ولاية أميركية مجاورة، وسألني إن كنت قد سمعت عن أسماء الضباط الذين قادوا حركة الانفصال، وعندما أجبته بالنفي، قال هو : «لا بد أن يكونوا كلهم من جماعة «أولاد آدو».
ومرت بعد ذلك سنوات طوال لم أسمع خلالها ذلك التعبير، ولم أستعمله، ولم أتذكره، حتى جاء وقت توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979 في واشنطن. وكنت مقيماً في كندا أعمل أستاذاً في كلية الاقتصاد. في جامعة واترلو.
كنت أراقب المشهد على شاشة التلفزيون. وفجأة، شعرت أني لا أرى بيغن والسادات على الشاشة ولكني أرى «أولاد آدو» الذين تسللوا خلسة في صفوف المظاهرة وقد تمكنوا من السيطرة عليها وقيادتها وإخراجنا منها حتى وقفنا على جانب الطريق نتفرج عليها. وهذا ما رأيته أيضاً عندما شاهدت عرفات يصافح رابين في حفل توقيع اتفاقية اوسلو في البيت الابيض عام 1993. وهو منظر يتكرر أمامي كلما شاهدت اجتماعاً من الاجتماعات التي يحضرها عرب وإسرائيليون. فكل اجتماع من تلك الاجتماعات يبدو لي على شاشة التلفزيون على أنه مهرجان سياسي جديد من مهرجانات «أولاد آدو».
وفي نهاية عام 2002، والولايات المتحدة تقرع طبول الحرب على العراق، أتصل بي استاذ للعلوم السياسية في الجامعة ينوي القيام برحلة بحثية إلى البلاد العربية، وقال هذا الأستاذ إنه قام بقراءة بعض ما كتبه محمد حسنين هيكل وإدوارد سعيد، وأصبح على معرفة تامة بمنطق العرب المعادين للسياسة الأميركية في الشرق الاوسط، وهو يريد أن يقرأ لكتاب عرب يمثلون وجهة النظر الأخرى، وجهة نظر المؤيدين للسياسة الأميركية، وهو يطلب مني أن أقترح عليه أسماء بعض الكتاب الذين يمثلون ذلك الاتجاه.
لقد عقدت الدهشة لساني، فقد اكتشفت أنني شخصياً لا أعرف أي كاتب عربي يمثل وجهة النظر الأخرى. وبعد هذه الحادثة، تملكني فضول في معرفة ما إذا كان هناك كاتب أو صحافي عربي يعبر عن آراء ومواقف وتوجهات «أولاد أدو»، في الوقت الحاضر، فأقرأ له كما كنت أقرأ مقالات «الكاتب العربي الكبير» في سنوات الخمسينيات. فلا زلت أذكر أنني كنت أنتظر صدور تلك المقالات بشغف، لأنها كانت مكتوبة بأسلوب جميل وترتكز على منطق معين. ومع أنني كنت أعارض ذلك المنطق بشكل تام، إلا أن التعرف عليه كان، ولسبب لم يكن واضحاً لي يومها، يساعدني على فهم منطق أطروحات حركة التحرر الوطني، بشكل أفضل. وهكذا، وجدت نفسي في مطلع القرن الجديد أبحث عن كاتب عربي عنده منطق يختلف عن المنطق الذي ترتكز عليه قناعاتي، ويمثل الاتجاه السائد في سياسات الحكومات العربية التابعة بشكل تام للإملاءات الأميركية.
حاولت عن طريق الإنترنت قراءة مقالات بعض الصحافيين المؤيدين للتوجه الأميركي والمعادين لنهج المقاومة في فلسطين ولبنان، ولكني اكتشفت سريعاً أنه أذا كانت مقالات «الكاتب العربي الكبير» قد صدرت في الخمسينيات عن منطق خاطئ من وجهة نظري، فإن مقالات ممثلي جماعة «أولاد أدو» في مطلع القرن الجديد خالية من أي منطق. وعندما شكوت ذلك لصديق يشغل منصباً هاماً في أحد عواصم «الاعتدال» العربية، ضحك وقال: «كنت تضيع وقتك في قراءة مقالات كتاب التدخل السريع»، ثم شرح لي أن أولئك الكتاب حصلوا على لقب «كتاب التدخل السريع» لأنهم يكتبون مقالاتهم عادة بعد ساعات قليلة من تلقي مخابرة تلفونية من دائرة معينة في الدولة.
حاولت أن أعثر على «منطق» لكتاب «أولاد أدو» في عاصمة عربية أخرى، ومرة أخرى، باءت محاولتي بالفشل. وعندما شكوت ذلك لكاتب صديق في تلك العاصمة، قال: «هؤلاء الصحافيون يكتبون لقارئ واحد، وبما أنك أنت لست ذلك القارئ فقراءتك لتلك المقالات مضيعة للوقت».
في مطلع عام 2004، أرسل لي الصديق بلال الحسن مخطوطة كتاب يعده للطباعة بعنوان «ثقافة الاستسلام»، وهو عبارة عن قراءة نقدية في كتابات خمس كتاب عرب، يعيشون في العواصم الأوروبية، يؤيدون نهج معاهدات السلام مع إسرائيل كما يؤيدون غزو الولايات المتحدة العراق. وطلب مني أن أقوم بقراءة المخطوطة وكتابة دراسة تعالج الموضوع من الناحية «الفكرية»، بشكل تكون فيه الدراسة متكاملة مع المعالجة «السياسية» التي تضمنتها مخطوطة الكتاب.
تحمست للاقتراح على أمل أن يكون بين الكتاب الخمسة، بحكم حياتهم خارج البلدان العربية، من يكتب بشكل مخالف لأسلوب «كتاب التدخل السريع» أو «كتاب القارئ الواحد»، وشرعت في قراءة المخطوطة وقراءة النصوص الأصلية للكتاب الخمسة، وكلي أمل في أن أعثر أخيراً على كاتب عنده «منطق» أستطيع أن أتعامل معه بما هو ممثل لفكر «أولاد آدو» في الوقت الحاضر كما تعاملت مع فكر «الكاتب العربي الكبير» قبل عقود من السنين.
كان الكتاب الخمسة جميعاً يكتبون بشكل مخالف لأسلوب «كتاب التدخل السريع» و«كتاب القارئ الواحد»، فلقد كان في كتابتهم منطق، منطق غريب جداً أثار دهشتي واستغرابي، ولكنه منطق.
كان ذلك المنطق يختلف بشكل جذري عن منطق أطروحات «الكاتب العربي الكبير» المؤيدة لسياسة الأحلاف العسكرية والمعادية لحركة التحرر العربي في الخمسينيات. فقد كانت أطروحات «الكاتب العربي الكبير» تصدر عن «منطق» المصالح العربية كما يفهمها الكاتب في الزمن الذي يتحدث عنه. أما أطروحات الكتاب الخمسة فكانت تدّعي أنها لا تصدر عن موقف سياسي ولكن عن موقف «مبدئي». وكان ذلك المبدأ هو الانحياز الكامل لمفهوم «الحداثة» الغربي. وحتى يكون ذلك الموقف «منسجماً» مع ذاته، فإنه يرجع بالزمن الى الوراء ليعيد كتابة التاريخ العربي في القرنين الماضيين وفق معيار واحد وهو تصنيف «من وقف من العرب مع الحداثة؟» و«من وقف من العرب معارضاً للحداثة؟. وعلى هذا الأساس، تصبح كل ثورات الشعوب العربية ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي ومن أجل نيل الاستقلال حركات متأخرة ظلامية، على أساس انها كانت تعادي البريطانيين والفرنسيين ممثلي الحداثة في ذلك الوقت. وفق هذا المعيار فإن تلك الثورات قد أسهمت لحد كبير في صناعة التأخر العربي الذي تعاني منه الشعوب العربية في الوقت الراهن. كما أن ذلك «المنطق» يلخص كل المأساة الفلسطينية في أن «النضال الفلسطيني فشل في أن يتحالف مع الاستعمار البريطاني» بينما «نجحت الحركة الصهيونية في ذلك» (1)، أي أن القضية تتلخص في وجود طرف قاوم «الحداثه» ففشل، وطرف أخر تحالف مع «الحداثة» وانتصر. ويصر الكتاب الخمسة بعد ذلك على أن تصحيح هذا الخطأ التاريخي لا يتحقق إلا عبر التخلي الكامل عن نهج مقاومة «الحداثة» والسير الجدي في طريق التحالف معها، أي التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، ممثلة «الحداثة» في الوقت الراهن.
ومن ناحية أخرى، فلقد وجدت في تجارب أولئك الكتاب الخمسة نسخاً من تجارب بعض الكتاب الأميركيين الذين ينتمون إلى التيار المعروف باسم «المحافظين الجدد». فكما كان معظم كتاب ذلك التيار ينتمون إلى فصيل التروتسكية في اليسار الماركسي، عندما كانوا شباباً في الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، ثم أنقلبوا إلى أقصى اليمين في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات بعد أن أصبحوا كتاباً وأساتذة وصحافيين في منتصف العمر، كذلك كان كتاب «ثقافة الاستسلام» ينتمون الى يسار حركة التحرر العربي عندما كانوا شباباً في البلدان العربية في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات، ثم انقلبوا إلى أقصى اليمين في مطلع التسعينيات، بعد أن. أصبحوا كتاباً وصحافيين في الصحافة العربية المقيمة في العواصم الأوروبية.
ولقد قادني هذا التماثل في التجربة بين كتاب تيار «المحافظين الجدد» وكتاب «ثقافة الاستسلام» إلى أن أتساءل عما إذا كان هناك تماثل آخر بالفكر والأيديولوجية يجمع بين كتاب المجموعتين؟
وهكذا، كان علي أن أقرأ في الخلفية الفكرية والفلسفية لأشهر كتاب تيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة، حتى أتعرف على وجهة نظرهم بالنسبة لموضوع «الحداثة» الذي يشكل الحجر الأساس في فكر كتاب «ثقافة الاستسلام».
لقد خلفت تلك القراءة في نفسي رعباً حقيقياً، فبالرغم من أنني كنت قد تابعت التوجهات السياسية لمعظم كتاب تيار «المحافظين الجدد» خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنني اكتشفت أنني لم أكن على معرفة بالمنظار الأيديولوجي الذي ينظرون من خلاله إلى العالم والتاريخ.
كنت قد تعرفت على ذلك التيار عندما ابتدأ في مطلع السبعينيات يعارض التوجه العام للسياسة الأميركية، في ذلك الوقت، المبني على أساس سياسة «الانفراج الدولي» (Détente)، ويدعو إلى انتهاج سياسة العداء الكامل مع الاتحاد السوفياتي، وتابعت تطور أطروحات التيار في الثمانينيات، عندما أصبح له نفوذ هائل أيام إدارة الرئيس رونالد ريغان التي تخلت عن نهج سياسة «الانفراج الدولي» ودخلت في سياسة سباق التسلح «حرب النجوم» لإنهاك الاتحاد السوفياتي الذي كانت تنظر إليه على أنه «أمبراطورية الشر» في العالم. وتابعت أطروحات التيار في التسعينيات التي كانت تطالب بغزو العراق، ورفض أسلوب العملية السلمية في الشرق الاوسط القائم على اساس مقايضة الأرض بالسلام والدعوة إلى ضرورة احتفاظ إسرائيل بالضفة الغربية والجولان وتحقيق السلام على أساس مقايضة السلام بالسلام، وتابعت أخيراً أطروحات التيار في السنوات الأولى من القرن الجديد التي كانت تطالب بالكف عن اعتماد معايير «المصالح القومية» في رسم أولويات السياسة الأميركية الخارجية واعتماد معايير «القيم الأميركية» بدلاً عنها. وهذا يعني عدم الاكتفاء بمعاداة الدول ذات الأنظمة التي تنتهج سياسات تهدد المصالح الأميركية، بل معاداة أي دولة فيها نظام معاد للقيم الأميركية التي هي الحرية والديموقراطية.
كنت على معرفة تامة بكل ذلك ولكني لم أكن مطلعاً على الموقف الفكري والفلسفي الذي تنطلق منه تلك المواقف. ولقد وجدت من خلال قراءتي أن الخلفية الفكرية لتيار المحافظين الجدد تعود إلى فلسفة الأستاذ ليو ستراس (1899ـ 1972)، التي تعادي كل مفاهيم «عصر النهضة» وتؤكد أن من واجب النخب الأميركية الكف عن اتباع أسلوب «الحداثة» في النقاش والحوار والعودة إلى أساليب الفلاسفة اليونان القدامى في حجب الحقيقة عن عامة الناس وتزويدهم فقط بما يحتاجون إليه في حياتهم العملية. وفي هذا السياق، فليس هناك أي قيمة لمفاهيم الديموقراطية أو الحرية، إلا بقدر ما تستطيع النخب تسخيرها وسيلة للسيطرة على الجماهير.
خرجت من تلك القراءة «المرعبة» وأنا أفكر في أنه على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين أطروحات «الكاتب العربي الكبير» في منتصف القرن الماضي، وبين أطروحات كتاب «ثقافة الاستسلام» وكتاب تيار «المحافظين الجدد» في مطلع القرن الجديد، فإن هناك شيئاً مشتركاً بينها جميعاً، إذ أن جوهر كل واحدة من تلك الأطروحات الثلاث هو ضرورة التخلص (التحرر) من مفاهيم وممارسات «ضارة» كرستها مرحلة تاريخية معينة.
كان «الكاتب العربي الكبير»، في متنصف الخمسينيات من القرن الماضي، يريد التخلص من مفاهيم حركة التحرر الوطني وممارساتها التي انطلقت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. أما في مطلع القرن الحادي والعشرين فكتاب «ثقافة الاستسلام» يريدون التخلص من كل مبادئ فترة النضال ضد الاستعمار الأوروبي الذي صبغ تاريخ العلاقة بين بلدان العالم الثالث والإمبراطوريات الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر وكل ممارسات هذه الفترة، بينما يصر كتاب تيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحده على ضرورة التخلص من كل الأسس المعرفية والمنهجية التي كرستها حركة «الحداثة» كما نشأت وتطورت منذ عصر النهضة الأوروبي، وبشكل طبيعي قادني هذا الشيء المشترك بين الأطروحات الثلاث إلى التفكير في ظاهرة «أولاد آدو» بما هي ظاهرة عالمية وليست ظاهرة مقصورة على العالم العربي. فهذه الأطروحات تمثل، في واقع الأمر، ظاهرة التفكير غير العقلاني الذي يريد أن يعود بالتاريخ إلى الوراء. وفي هذا المجال، تساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كان هناك أي صلة بين أصل استعمال تعبير «أولاد آدو» على المستوى العربي كما سمعته أول مرة في دمشق قبل أكثر من نصف قرن، وبين ما أفهمه اليوم من معنى للتعبير على المستوى العالمي. وخطر لي أن أتصل ببعض الأصدقاء الذين عاشوا خمسينيات القرن الماضي في دمشق علهم يعرفون من أين جاء تعبير «أولاد آدو» وما هو أصل استعماله. وعندما حدثت زوجتي عن ذلك، ابتسمت، ثم عادت بعد دقائق ومعها ورقة فيها ما طبعته من برنامج «غوغيل» الذي حدد أن أصل استعمال تعبير «اولاد آدو» يعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين، عندما كانت العائلات الدمشقية العريقة تعيش داخل السوق القديم وتنظر بشك وريبة لتصرفات الذين جاؤا من أمكنة أخرى وأقاموا خارج السور، فتدعوهم «أولاد آدو»، على أساس أن لهم أخلاقاً وقيماً مختلفة عن أخلاق أهالي دمشق وقيمهم. وعلى الفور، رأيت أن إطلاق وصف «أولاد آدو» على «الكاتب العربي الكبير»، وبعد ذلك على كتاب «ثقافة الاستسلام» ثم على تيار «المحافظين الجدد» ينسجم تماماً مع أصل استعمال التعبير الذي يصف الناس الذين يقومون بممارسات تنبع من أخلاق وقيم مغايرة لما هو متعارف عليه. وفي هذا المجال، فإذا كان «الكاتب العربي الكبير» وكتاب «ثقافة الاستسلام قد طرحوا فكراً يتعارض مع أسس الثقافة العربية في العصور الحديثة، فإن كتاب تيار «المحافظين الجدد» يقومون بطرح فكر لا يتعارض مع أسس الثقافة الأميركية فقط ولكنه يتعارض بشكل مطلق مع أسس الثقافة الإنسانية، وهذه التي يشكل عصر النهضة الأوروبية وعصر التنوير وما أنتجاه من نهج الحداثة رافداً أساسياً لها في العصور الحديثة، وهذا يعني أنهم بالفعل «أولاد آدو» على المستوى الإنساني.
لا تأتي التيارات الفكرية أو السياسية من فراغ، ولكنها تتشكل دائما تعبيراً عن ظروف موضوعية تخص زمناً ومكاناً محددين. ولقد كتبت في مقال سابق عن الظروف الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة الأميركية التي قادت إلى ولادة تيار «المحافظين الجدد» (2). وأحب في بقية هذا المقال أن أعرض الدور المحوري الذي لعبته الصحافة الأميركية في تكوين البيئة الفكرية والسياسية لولادة التيار ونموه وتطوره. وسنرى من خلال هذا العرض ان صحافة «كتاب التدخل السريع» و«كتاب القارئ الواحد» نشأت وتطورت في الولايات المتحدة أولاً، وبعد ذلك بسنوات وصلت الى العواصم العربية، حيث تم تكييفها مع ضرورات الظروف المحلية في مناخ التبعية للسياسة الأميركية.
فضل مصطفى النقيب : أستاذ الاقتصاد في جامعة واترلو ـ كندا
ـ تنشر بترتيب خاص مع: مجلة “وجهات نظر”