صفحات ثقافية

لمحات من الخمريات الفرنسية: أشعر بفرح عظيم حين أسقط في حنجرة رجل استنفده العمل

null
منيرة ابي زيد
اسكري لتزيلي نفسك عن نفسك فتصبحي تلك العاهرة الأخرى التي حلمتها بك!تعيد الخمرة للمرء براءته لبرهة، ربما لذلك أضفت عليها الآداب والأساطير بعداً إلهياً. فمن فسق ديونيزوس الى عالم زولا الأدبي حيث يرتبط السكر بالبؤس، تتّخذ رمزية الخمرة أبعاداً متعدّدة في مختلف القصائد والروايات.
دخل وحده الى الحانة. كان مُتعباً للغاية. لم يرَها، تلك الغريبة الصهباء التي تتجول كعادتها في هذا المكان المُعتم الغارق في نوره الخافت. غالباً ما يتهيّأ له أن هذه المرأة هي جزء من الكرسي، أو جزء من الحائط، أو هي بكل بساطة مرتبطة بروحية قنينة البيرة التي بدأ تأثيرها الساحر يتسرب الى خياله ويحاكي أفكاره في بداية هذه الليلة. قنينة بيرة، نور ينبعث من زجاجة خضراء، شبه سكر في بداية السهرة. قد تأتي المرأة الصهباء الليلة أو ربما غداً، لكنه في مساء الغد سيكون مشغولاً. تلك كانت آخر الأفكار التي راودته قبل أن يغرق رويداً رويداً في حالة السكر الكامل. عالم الخمرة… بيرة، نبيذ، ويسكي، فودكا، عالم يتمحور حول علاقة الإنسان بوعيه الذي يتلاشى تدريجاً منذ تناوله أول كأس من الكحول، فتتحوّل نظرته الى المكان والزمان والحب والرغبة والذكريات كأنّ سحراً غامضاً يهيمن عليه. منذ أقدم العصور، رافقت الخمرة الإنسان وبرزت في مختلف كتاباته الأدبية. مجّدها بعض الشعراء الذين عاشوا نشوتها العارمة، فارتبطت ببعدٍ إلهي. بالفعل، اتخذت العلاقة مع الكحول منحاً روحانياً تصاعدياً في عمل أوتمار الأدبي «المنوّم مغنطسياً» Magnétiseur حيث يصف الكاتب حركة الخمرة الأفقية: «انظر الى ألوف الفقاقيع الصغيرة التي تتصاعد في الكأس على غرار اللآلئ وتفور على السطح، هؤلاء هم الأرواح المُتبخرة التي تتحرّر من سجنها المادي بلهفة». أما في أبيات الشاعر الفرنسي كلوديل فيرتبط الثمل بحالة الجنون الباخوسي والهذيان الشعري الذي يفتح للسكران أبواب التواصل مع المطلق: «آه، أنا سكران! آه، أنا أسلّم نفسي الى الله! أسمع صوتاً في داخلي والنبض يتسارع». في سياق هذه العلاقة الأفقية مع الخمرة، كانت طقوس العربدة الغارقة في السكر الجماعي تجعل من الناس أشباه آلهة، إذ انها تحرّرهم من القيود والقوانين الاجتماعية. إنما لدى نهاية طقس العربدة الذي يمتد على فترة وجيزة، ينتهي السحر وينطفئ الوهم، ويعود الإنسان الى حجمه العادي.
على المستوى الروحي، ترتبط الخمرة بعمق برمزية الديانات السماوية. ففي الديانة المسيحية، يتمتع النبيذ بطابع مقدس ضمن طقس سر القربان حيث يتزاوج مفهوم التضحية بالدماء. نذكر في هذا الإطار تحوّل الماء الى خمرة في عرس قانا الذي يذكرنا بالعملية الخيماوية وهي تحوّل المواد في مختلف الحضارات والثقافات. أما في العشاء السري فيرفع يسوع المسيح كأس النبيذ قائلاً: «خذوا كلوا، هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذا هو دمي». ترتبط الخمرة في هذا الإطار بالأزلية كما تشير الترتيلة المسيحية التالية: «من أكل جسدي وشرب دمي، فله الحياة الأبدية». في نفس هذه الأجواء القدسية، نذكر أقوال المتصوّف الفارسي أبي يزيد البسطامي: «أنا السكير والنبيذ والساقي. في عالم التوحّد، كلّهم واحد». ويبرع الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي في وصف حالة التصوف من خلال الثمل: «قبل أن يكون في هذا العالم حديقة وكرمة وعنب، كانت روحنا سكرانة بنبيذ الأزلية». هو يشير بذلك الى أن الروح المنتشية هي في أساس هذا العالم، أي أنها كانت موجودة قبل تكوين هذا العالم. هكذا، تشترك الخمرة في رحلة المتصوف الفردية التي تصبو نحو صفاء كامل. تذكرنا هذه العلاقة بالثمل بقصائد من ديوان الشاعر الفرنسي أبولينار «كحول»Alcools الذي يصف كل مدينة باريس كما لو أنها امرأة سكرانة تحاكي سائر المدن لتتوحّد معها في حالة النشوة الجماعية قائلةً؛ «لقد سكرت لأنني شربت العالم بأسره». وضمن الآداب الدينية التي تربط نشوة الخمرة ببعد جسدي ملموس، يبرز «نشيد الأناشيد» لسليمان الحكيم. في هذه الكتابة الرائعة والخالدة، تبلغ الخمرة أسمى درجات القداسة، إذ انها تظهر في الفقرات التي تقول فيها الحبيبة للملك الذي يدخلها أخاديره ليقبلها: «حبّك أطيب من الخمر»، يعقب ذلك نشيد العذارى: «فنبتهج بك ونفرح ذاكرين حبك الذي هو أطيب من الخمر»، وتتواصل رمزية هذا العشق الثمل في مقاطع أخرى: «إلهي، عذب هو شراب فتاة الخمر/ كشرابها عذب هو فرجها، عذب هو شرابها/ عذب هو شرابها المزيج، شرابها». يكاد هذا التكرار في العبارات يلامس حالة التصوف من خلال روعة الكلمة الشعرية. في الحضارة اليونانية، النشوة هي جسد بالكامل.
لا نلحظ في إطار هذه الثقافة بعداً روحياً أو محاولة لتجريد المرء من جسمه ليبلغ المطلق، بل يغرق مع جسمه في حالة النشوة السكرانة. يتجسّد هذا المنحى من خلال ديونيزوس إله الخمرة والنشوة، الذي كانت تصحبه نساء مسكونات بالشياطين يقدمن رقصتهن المجنونة على الهضبات. هنّ يرتدين جلد الظباء، ويحملن المشاعل. ألا يشبه هذا المشهد ما نشهده في قرننا الحالي في الملاهي الليلية؟ ليالي الشرب والرغبة التي تنتهي مع أولى ساعات الفجر حين يغفو السكران في حضن عشيقته. ألحان سريعة تركض، تجري في أماكن مغلقة، مدفونة تحت الأرض. أحياناً، يتراءى للسكران لحن موسيقي، هو يرى الموسيقى تُحلّق في سقف الملهى الليلي، ثم تختفي، تتناثر، ماذا حلّ بها؟ في هذا السياق، نلحظ في الأدب الرومنسي الألماني مؤلفات هوفمان حيث يرتبط النبيذ الفرنسي بالائتلاف الموسيقي. يشرب كريزلر، أحد أبطال كتاباته، الخمرة، وعلى نفس الوتيرة تفرغ قنينته وتمتلئ القاعة بالموسيقى، تغرق الأوراق في سوادها، كأن قطرات الخمرة تحوّلت الى علامات موسيقة. في أجواء الرومانسية الألمانية، يفتح السكر والإغراء الديونيزي والشطح أبواب المعرفة، فيصبح السكر شكلا من أشكال التصوف. يعيش الفرد تجربة تجاوز حدود شخصيته من خلال كل أنواع النشوة الجنسية والأدبية. وقد يتحوّل السكر الى عملية فكرية في بعض الأحوال كما نلحظ في كتابات موريس باريس: «انتشى السيد رينان بالأفكار. كان كرجل سكر بتأملاته وبخمرته الخاصة، لا يكف عن المشي بشكل مباشر نحو هدفه».
أول جرعة بيرة
إذاً، من العهد اليوناني حتى عصرنا الحالي، رافقت الخمرة حالات النشوة وهي حاضرة في الحياة اليومية، الخيال الجماعي والكتابات النثرية والشعرية. وأروع ما كُتب عنها في الأدب الحديث هو مقتطف من مجموعة فيليب دوليرم النثرية أول جرعة بيرة وملذّات صغيرة أخرى حيث يصف الكاتب هذه اللذّة؛ «هي الوحيدة التي تؤخذ بعين الاعتبار. أما الأخريات، فأطول منها، ليس لها تأثير، لا تُضفي سوى لزاجة فاترة، غزارة مُرهقة. وربما تلتقي آخر جرعة مع خيبة نهاية هذه السلطة المخادعة… إنما الجرعة الأولى! جرعة؟ هي تنطلق بالفعل قبل الحلق. أولاً على الشفتين هذا الذهب المُزبد، فيض من النضارة، ومن ثم ببطء على الحنك سعادة تضع المرارة حدّاً لوهجها. كم هي طويلة، هذه الجرعة الأولى!». مقاربة بسيطة ذات عمق فريد، متعة في الوحدة. لم يُذكَر أحد في هذا النص سوى السكران وجرعة البيرة الأولى، إنها نكهة نكاد نستمتع بها من خلال قراءة هذه الكلمات. لم يتفلسف فيليب دوليرم، لم يبك ولم يتوجّع. علاقته بتلك الجرعة مبنية على نظرة السكران الموضوعية التي تنطلق من الجسد، ومن «شفتيه…» اللتين تلامسان القنينة. وكما وصف فيليب دوليرم شعور الإنسان الذي يشرب الكحول، عبّر النبيذ بدوره عن متعة احتكاكه بجسد الإنسان في قصيدة روح النبيذ من ديوان بودلير الشهير أزهار الشر، إذ يتكلّم النبيذ في هذه القصيدة قائلاً: «لأنني أشعر بفرح عظيم حين أسقط/ في حنجرة رجل استهلكه العمل/ صدره الدافئ هو مقبرة ناعمة/ أتمتّع فيها أكثر من السراديب الباردة». بين بودلير وفيليب دوليرم، يتبادل السكران والخمرة الحديث حول متعة دخول هذه الجرعة في جسد الانسان الذي بات فسحة، وعاء لهذا السائل الساحر. في هذا السياق، يصف فيليب دوليرم بعمق ارتشاف أول جرعة بيرة التي تحمل السكران على أجنحة النشوة العابرة: «من خلال طقس الحكمة والانتظار، نودّ التحكم بالأعجوبة التي حصلت منذ لحظة واختفت». لم كل هذا التركيز على الجرعة الأولى من قبل هذا الكاتب؟ ربما لأنها نقطة التحول من الصحو الى الغرق في خدعة السكر. في هذا السياق، يتناول بودلير وهم القوة والعنفوان الذي يشعرنا به السكر لوهلة في قصيدة «نبيذ المُتوحّد» من ديوان أزهار الشر: «تسكبين له الأمل، الشباب والحياة/ – والفخر، كنز كل دناءة/ الذي يجعلنا منتصرين وشبيهين بالله!». بفضل النبيذ، قد يصبح الإنسان إلهاً. إنه مفعول الخمرة السحري الذي يجرفنا في علاقات جنسية، فتفلت رغباتنا بشكل مفاجئ. قد يلتقي شخصان مجهولان في حانة، تسحرهما الخمرة لليلة فيصبحان عشيقين وهميين، يصف بودلير هذه السعادة العابرة في قصيدة نبيذ العشاق: «فلنمتط الخمرة حصاناً/ لنذهب الى سماء ساحرة وإلهية»، «نتأرجح برخاوة على جناح/ هذه الزوبعة الفطنة/ في هذيان متوازٍ/ يا أختاه، سوف نسبح جنباً الى جنب/ لنهرب من دون راحة ولا مهادنة/ الى فردوس أحلامي!». أهو يشارك لحظة التحوّل السحرية هذه مع عشيقته؟ ليس فعلاً، إذ نلحظ في نهاية القصيدة عبارة: «فردوس أحلامي»، أي أنه يتكلّم عن أحلامه بدلا من أحلامهما. إذاً، عالم الخمرة هو عالم الوحدة كما يعيشه الشاعر الزغرتاوي فوزي يمين في قصيدة فودكا من ديوانه حياة بدون فلتر: «حين وجدت نفسي دائخاً أمام الباب/ كانت الفودكا تصعد الى رأسي مثل أرنب/ كانت صعوبة التنفس وانقلاب المعدة/ بقدمين غير واثقتين دخلت غرفتي/ كبست زر الكهرباء فوقع الضوء على الأرض/ بثيابي نزلت عميقاً تحت اللّحاف/ واستلقيت على ظهري/ بالوناً منفوخاً معلّقاً في هواء الغرفة/ رأيت في السقف عيناً كبيرة تحدّق/ رأيت قهوة تفور بقوّة/ مرّت فراشات طويلات/ وأصدقاء نحيلون واقعون من عمرهم/ مرّ بطن امرأة شديد البياض/ بلحظة أردت أن أسترد كل ما كان جميلاً ذات يوم». رحلة فردية عبر الزمن يعيشها الشاعر السكران في عزلته. انهار الوقت في كأس الفودكا، سالت الأفكار كأنها ذكريات تبخّرت وذابت فنتجت عنها صور مبعثرة. بالفعل، السكر نعيشه في الوحدة وإن شاركنه مع العشيق، تكون تلك المشاركة وهمية كذلك، إذ يتحول العشيق الى جزء من رحلة السكر، فيفقد نفسه ليصبح جرعة خمر بدوره. في هذا السياق، نذكر قصيدة أبي النواس مناجاة الخمر التي يصف من خلالها شاعر المجون، المولّع بالخمرة والغلمان، عدم مشاركة حالة السكر: «خلوت بالرّاح أناجيها/ آخذ منها، وأعطيها/ نادمتها، إذ لم أجد مسعداً/ ارضاه أن يشركني فيها/ شربتها صرفاً على وجهها/ فكنت ساقيها وحاسيها».
يسكران معاً…
لكن في بيوت نزار قبّاني الشعرية، تنفتح رحلة السكر على وجود الآخر، فتختلط متعة الكحول مع جسدها الذي يولّع رغبة جامحة في كأس النبيذ. لذّة من الكأس الى الجسد في قصيدة هكذا أكتب تاريخ النساء: «أرسم بالنبيذ الأحمر هلالاً على ظهرك»، «كل أنواع الكحول… لها مذاق واحد… ومفعول واحد… كل الطرقات الى نهديك تؤدي الى الانتحار»، «اسكري بي… اسكري… اسكري حتى يصير البحر وردياً… وأصفر… كم جميل أن تضيّع امرأة عقلها في حضرة الشعر… وتسكر…». يصفها وهي تسكر، ضاع عقلها. يتطرّق الشاعر الأموي الأخطل الذي أجاد في المدح والفخر والهجاء الى مفعول الخمرة الذي يشتّت الفكر: «شربت بكأس الحب من جوهر الحب/ رحيقاً يكفّ العقل في روضة الحب». قد يرى البعض في هذا الضياع على مستوى التفكير المنطقي نوعا من الشفافية. ففي أدب رابلي عن الخمرة، يسمح النبيذ بإظهار خفايا النفس البشرية. إذ ان هذا الشاعر الفرنسي الذي يربط الخمرة بطقوس الصوم ومهرجانات بداية الربيع، يرى في السكر وسيلة لإخراج ما في باطن الإنسان. وفي هذا السياق، ارتبطت الخمرة بالشفافية في قصيدة «العيون تتشابه» من ديوان عيون إلسا للشاعر لويس أراغون، وهو من مؤسسي الحركة السوريالية : «شربت نبيذ الكرز الشفاف». تبرز هذه المقاربة مع العلاقة بالخمرة في ديوان نبيذ لمحمد بنيس: «كأسي الوحيدة ربما/ لون/ توزّع في اتجاهات الشفافية». هكذا، تبرز الخمرة على أنها وسيلة لإظهار حقيقة النفس البشرية. نذكر في هذا السياق هذه الجملة من رواية السفنكس Le Sphinx لإدغار ألان بو، الكاتب الأميريكي الذي يتمحور عالمه الأدبي حول الغرابة المرضية: «في يومٍ ما حين سيدخل النبيذ الى باطنه سيصبح كل ذهنه ظاهراً». وفي القصة القصيرة في عشاء الملحدين من مجموعة روايات باربي دورفيلي Les Diaboliques«الشيطانيون» : «يقول المزارعون وهم يغمزون، كان يعطي نبيذا أبيض ممزوجا بأعشاب مجهولة، لمدمني الخمرة، وللفتيات المرتبكات، هذه النقاعات تزيل الحرج في كل الأحوال». ويضيف باربي دورفيلي في روايته الشيطانية هذه حول علاقة السكران بالمرأة: «شدّها بقامتها، كما لو أنه حاصرها بين يديه المشبوكتين، حدّق بها من فوق الى تحت، على غرار سكير يرفع كأس النبيذ في وجه النهار قبل أن يشربه، هذه الكأس التي سيعبّها!».
الانشراح والواقعية
«أترك الأطلال لا تعبأ بها/ إنها من كل بؤس دانية/ واشرب الخمر، على تحريمها/ إنما دُنياك دار فانية»، «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء/ وداوني بالّتي كانت هي الداء/ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها/ لو مسّها حجر مسّته سرّاء». في بيوت أبي النواس الشهيرة، تبعث الخمرة الى الفرح. فهي الغاية والهدف. تمادى أبو النواس في عشق الخمرة فواصل الشرب ليلاً ونهاراً. تتّصل الخمرة بحياته إتصالاً وجودياً، فمن دونها لا معنى لحياته. نلحظ في بيوته مزجا شاملا، طربا، جمالاً نورانياً مطلقاً تنبعث منه الأنوار والأضواء. وفي عالمه الأدبي الخيالي المليء بالخرافات والأوهام العجيبة، يتناول الروائي الفرنسي تيوفيل غوتيه في قصته القصيرة «ممثلان لنفس الدور» هذه السعادة العارمة التي تجتاح المدمنين على الكحول والمخدرات: «كان كل هؤلاء الناس، المتكئين على طاولاتهم، يأكلون ويشربون: يتألف شرابهم من البيرة القوية ومزيج من النبيذ الأحمر الجديد بالإضافة الى النبيذ الأبيض الأكثر قدماً» ومن ثم يتابع وصفه لحفلة الثمالى هذه؛ «تدور حول الطاولات بلا توقف فالسات ألمانية طويلة تأثيرها على الخيال الشمالي يوازي تأثير الحشيشة والأفيون على الشرقيين؛ مرّ أزواج الراقصين بشكل سريع؛ نساء شبه غائبات عن الوعي من شدّة النشوة بين اذرع رقّاصيهن، على لحن فالس لانير، وهن يمسحن بتنانيرهنّ غيمات دخان الغليون وينعشن وجوه السكرانين». بعكس هذا الجو المنشرح، تترافق الخمرة في أدب إميل زولا مع حالة البؤس. ففي أبرز رواياته L’Assommoirالخمّارة، يحكي هذا الروائي الفرنسي الواقعي قصة جارفيز زوجة العامل عبر وصف حياتها اليومية المليئة بالصعوبات والخيبات. كتابته مجرّدة من أيّ بعدٍ رومانسي. هي عارية بالكامل من أي جمالية، تعرض الأحداث بشكل تافه. ينخرط شرب الكحول في هذا العالم الفاقد سحره، فتصبح الخمرة جزءا من هذا الجو الكئيب الخالي من الفرح واللذة. نلحظ في هذه الرواية مقاربة شديدة الواقعية للكحول في عالم العمّال المُتعب؛ « لدى تناولها الكأس الثانية، لم تعد تشعر جارفيز بالجوع الذي كان يعذّبها»، «كانت تضحك في الخمّارة، تحت قمر الأب كولومب المُكتمل، تضحك لزبائن يدخنون غليوناتهم، يصرخون ويبصقون، في وجه لهبات غاز كبيرة تنير الزجاج وقناني المشروبات الروحية. وراءها، كانت آلة الثمالة تشتغل بلا توقف، وكانت تصدر خرير ساقية جوفية»، وما إن سكرت حتى بدا لها «كل شيء مشوشاً، فرأت الآلة تتحرّك، شعرت بقوائم نحاسية تتحكّم بها، بينما سالت الساقية في هذه اللحظة في جسدها». يصف إميل زولا سكر جارفيز الغاضب الذي يتحوّل الى كابوس. جارفيز امرأة هجرها عشيقها، فظلّت وحيدة مع ولديها. تزوّجت بالعامل كوبو وعاشت سعيدة معه. لكن هذه السعادة لم تدم، إذ انّ المشاكل الصحية والاقتصادية أغرقتهما في الإدمان على الكحول. بلا شك، وجوه السكرانين ليست مبتسمة على الدوام. لا بل بالعكس، غالباً ما نشرب الكحول لنبكي. في الرواية القصيرة «ممثلان لنفس الدور» من مجموعة تيوفيل غوتيه القصصية «قصص خيالية» RécitsFantastiques تتداخل نشوة الثمالى بكابوس شيطاني يعيشه الممثل هاينرش الذي يشرب النبيذ في حانة تعلو فيها ألحان موسيقى مرحة. يغرق هاينرش في السكر، فيتهيأ له أن وجه الرجل الجالس أمامه في زاوية الحانة يتحوّل ويتبدّل بشكل مرعب؛ «اتخذت عيناه الرماديتان لمعة خضراء وباتت تبعث بريقا فوسفوريا على غرار عيون القطط. حين ارتخت شفتاه الباهتتان والمنبسطتان، ظهر صفّان من الأسنان الناصعة البياض، الحادّة بشدّة والمنفصلة عن بعضها البعض، توحي بالتوحش والشراسة؛ اتخذت أظافره الطويلة، اللمّاعة والمعقوفة، هيئة مخالب بشكل مُلتبس؛ إنما هذه الهيئة لم تكن تظهر إلا ضمن ومضات سريعة». لا يقتصر السكر على بلوغ النشوة، بل هو يؤدي في بعض الحالات الى التدهور في الجحيم للحظات. بدلاً من أن يتحوّل الى إله، قد يصبح السكران شيطاناً لبرهة، أو ربما هذه الشخصية الغريبة لم تتحول الى إبليس إلا بنظر ذلك الممثل المضطرب والثمل الذي رأى فيها مرآةً لنفسه التائهة. أشكال مختلفة من الثمل تعكس حالة الفرد الذي يغرق في كأس النبيذ ليكون نفسه للحظة ثم يعود الى الحياة الحقيقية وينسى ما تراءى له أو شعر به في حالة السكر. وفي بعض الكتابات، يتزواج السكر مع الموت، كما نلحظ في قصيدة نبيذ المجرم من ديوان «أزهار الشر» لشارل بودلير،: «ها أنا حر ووحيد!/ سأكون ثملا ميتا في هذه الليلة/ حينها، من دون خوف أو ندم/ سوف أنام على الأرض»، وتتحول الخمرة الى سم في إحدى قصص تيوفيل غوتيه القصيرة الميتة المُغرمة La MorteAmoureuse إذ انّ المرأة الشيطانية كلاريموند، التي تعيش بين الحياة والموت، تمزج في كأس عشيقها النبيذ مع مادّة منوّمة كي يغفو، فتتمكن من عض زنده لتشرب دمه الذي ينعش جسدها من جديد. أهي الخمرة – السم؟ أو الخمرة التي ترفعنا الى رتبة الإله؟ أم انها بكل بساطة الخمرة التي تفتح أبواب الشفافية المطلقة؟ لا نعرف بالفعل… تساؤلات لا متناهية… أمّا بالنسبة لذلك الرجل الذي دخل وحده الى تلك الحانة، فقد غرق في حالة السكر ظنّاً منه أن الصهباء التي تأتي كعادتها الى هذا المكان ستبقى غائبة في تلك الليلة… لكنها أتت… أتت بعد منتصف الليل، كانت ترتدي فستاناً أحمر عابقا، بشرتها ناعمة الملمس، عيناها الخضراوان لا تنظران في اتجاه محدّد… اقتربت منه، لا يتذكر شيئا… ربما همست بكلمات غامضة، أو قد تكون بدأت تشرب كأساً من النبيذ بقربه…. احتمالات كثيرة تنفـتح في مخيلة السكران الغارق في وهمه…
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى