إلغاء الطائفية من أجل المزيد منها
حسام عيتاني
الطائفية لعنة لبنان. الطائفية سبب الحروب الأهلية. لا إصلاح مع الطائفية. العبارات هذه مستلة من قاموس سميك من الصفات والنعوت السلبية التي تطلق على النظام السياسي اللبناني. والعبارات، على صحتها الإجمالية، تكاد لا تقول ما يقارب نصف الحقيقة حيال آراء اللبنانيين بصيغة الحكم التي ارتضوها منذ فتوى المبعوث العثماني شكيب أفندي بضرورة تمثيل المسلمين والمسيحيين في هيئات الحكم المحلي حوالى منتصف القرن التاسع عشر.
فاللبنانيون يعرفون مثالب الطائفية وهم الذين عاشوا الحروب التي جرتها عليهم منذ أكثر من قرن ونيف، وهم الذين يدفعون من حياتهم ثمن تأرجح الأكثريات العددية والسياسية في بلاد لا تعرف للاستقرار معنى. لكنهم، في المقابل، يعلمون أن «الطائفية اللعينة» – كما تصر رطانة وطنية على وصفها – تأتي في حزمة واحدة مع قدر من الحريات المدنية والاجتماعية والعامة، غير مألوف في هذه الأنحاء من العالم، أولاً، كما يدرك بعضهم ويحدس بعضهم الآخر أن الأنظمة البديلة المقترحة للمحاصصة (على تخلف هذه الأخيرة) لا تتجاوز كونها دعوات إلى حروب أهلية مفتوحة أو إلى استبداد لا يتأخر عن تفجير البلاد كرّة جديدة.
ولم تفضِ إلى الكثير عقود من التفكير والتأمل في أحـوال اللبنانيين، تولاها علمانيـــون وديموقراطيون، من شتى المدارس الليبرالية واليسارية، عن صيغة تضع أساس الدولة الحديثة في تربة على هذه الدرجة من الميوعـــة. بل إن النظر في نظام الحكم في لبنان كان يسفـــر عن طرحين محوريين تدور بينهما أفكار جزئية. ينافــــح الأول عـــــن فرادة صيغة الحكم ولا يرى في الحــــروب الأهلية و«عودها الأبدي» سوى حوادث طفيفــــة يجري مثلها في أحسن الدول، ويطالب الثاني بالتخلي عن هذا الكيان المصطنع الذي خلقه الاستعمـــار، والالتحاق بوحدة قومية عربية متخيلة تعمل على استخدام هذه الرقعة الصغيرة من الأرض كمنطلق لتحرير فلسطين. بين قطبين تفصل بينهما أعوام ضوئية من التباين في تقويم الحالة عينها، لا يعود مستغرباً أن يكون العنف أسلوب الحوار الوحيد الممكن.
أما أصحاب المشاريع الدينية وخصوصاً أنصار أسلمة لبنان أو تهجير مسلميه الى الصحراء العربية، فما كانوا في أفضل أيامهم غير نغمات نشاز في معزوفة تشكو أصلاً من قلة براعة العازفين.
وفي سماء زرقاء لمع برق إلغاء الطائفية السياسية، استناداً إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف عام 1989). وجاء من يبشر بأهمية التقدم نحو تشكيل لجنة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية. وغير معروف لغير صاحب الدعوة، كيف خرجت هذه الفكرة الى حيز التداول بعد خمسة أشهر من المشاورات المضنية لتشكيل حكومة ائتلاف وطني. فلا يبدو أن انجازاً سياسياً تحقق ليصبح طلب إحياء هذا البند من اتفاق الطائف مسألة تستحق التنويه. بل تفيد الظواهر أن العكس هو الصحيح. فالتهليل لنجاح الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية الماضية، يعبر عن تمسك واضح بالطائفية السياسية طالما أن في هذه تجاوزاً صريحاً لمبدأ الديموقراطية التي تشكل الانتخابات مدخلها البديهي.
بغض النظر عن الأسباب التي أحيت ذكرى بند إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنه في «الطائف» بعد طول نسيان، يجوز التساؤل عن البديل الذي ستتمخض عنه عقول أعضاء اللجنة التي ستتوزع مقاعدها، على الأرجح، توزيعاً طائفياً، بحيث يكلف مندوبو الطوائف (الذين سيداخلهم ويخالطهم من دون ريب بعض الأكاديميين «العزل» أي غير المحسوبين على طوائف بعينها) البحث عن الصيغة الأنسب لإنهاء من انتدبهم. ويجوز التساؤل عن الروافع الاجتماعية التي ستحمل مشروعاً على هذه الدرجة من الطموح الذي يقارب «الشطح»، بلغة المتصوفة.
تبدو الإجابة عن السؤالين بسيطة بساطة محبطة. فما من قوى مؤثرة في أدغال السياسة اللبنانية سوى الطوائف وأحزابها وتياراتها. عليه، لا بد أن توصيات اللجنة المكلفة درس إلغاء الطائفية سترفع إلى حكومة ومجلس نيابي هما في أول الحساب وفي آخره، نتيجة التقاسم الطائفي والمذهبي للسلطة. وسيكون مشهداً مملاً ذاك الذي توضع فيه تلك التوصيات في أحد الأدراج إلى جانب اقتراحات مشابهة من نوع تلك التي تقدمت بها لجنة خاصة تولت إعداد قانون انتخابات «عصري»، لم يؤخذ به، بالطبع، وكمية لا تتسع لها الذاكرة لتقارير وتوصيات لجان عن الإصلاح والتنمية وكل محسنات العيش.
وفي بلادنا، ليس من الغرابة في شيء تحميل الطوائف وممثليها عبء تقديم الاقتراحات الكفيلة بإلغاء نظامهم السياسي. لكن هذا يبقى في السطوح والقشور. أما في ما يتجاوز الغلاف الخارجي للدعوة العلمانية أو المدنية المستجدة، فلا شك في أن رغبة في تأبيد الحال هي المحرك والنابض. ومن علامات العبقرية اللبنانية الشهيرة طلب الشيء من أجل الحصول على نقيضه. كيف لا وما من مفصل هامشي في الحياة اللبنانية إلا ويتشكل على النحو الذي تألفت فيه الحكومة الجديدة، وكل الصراعات تدور بين علمانيين دُفعوا دفعاً إلى الذود عن أنصبة وحصص ومصالح طوائفهم ومكاسبها. حتى يمكن القول إن الطائفي اللبناني هو علماني متطرف خارجه، إذا صدقنا نشرات الأخبار المسائية والبرامج الحوارية الصباحية.
ضياع النعمة تلك، يدفع كثيرين من اللبنانيين إلى اجتراح تفسيرهم الخاص للنهضة العلمانية المفاجئة التي جاد الزمان عليهم بها. وهو تفسير كلما اقترب من سوء الظن ومن توجس العواقب، كان أقرب الى الصواب والدقة.
الحياة