صفحات ثقافية

عالم يضج بالأسئلة

null

أسامة عرابي

في كتابها الثالث الصادر مؤخرا عن دار ميريت للنشر بعنوان «حكي الطائر سعدالله ونوس»، بعد كتابيها النضرين «الجنوبي» (1985) و«الشعراء الخوارج» (2004) تواصل الناقدة الجادة «عبلة الرويني» بحثها الدءوب عن مغزي الفن في حياتنا، ودوره في استكناه الواقع ومعاينته، ويكفيه فهم النص في علاقته بشروط إنتاجه.

بيد أن كتاب «حكي الطائر سعدالله ونوس» ينقسم إلي مقدمة وثلاثة أبواب، أو ثلاث كوي ونوافذ نطل منها علي «نص الحكي».. مرورا ب «مشهد الحكي».. وصولا إلي لقاء الحكاء نفسه عبر حوار أجرته معه في يناير 1987 تناولا فيه مشكلة المسرح وأصالته وجمالياته وقضايا المونودراما والديمقراطية في إطاره.. وذلك في محاولة مخلصة للولوج إلي عالمه، واستكشاف خياراته الفنية.

فالمسرح – عند كاتبنا الكبير – عالم مترع بالحياة.. يضج بالأسئلة والشكوك واللايقين.. ومن ثم لا يؤسس ولا يقوم علي المرجعيات الجامدة.. لكن يحدده ويؤطره سياق تاريخي معين.. له حيزه الذي يشي بطبيعته البنائية المستقلة، وأدواته الخاصة، وإطاره الفني المميز.. لهذا «لم يقدم سعدالله ونوس شكلا فنيا محددا باعتباره الشكل النهائي.. لم يقدم نصوصا مسرحية تامة ولا مغلقة، لكنه كتب دائما للعرض المسرحي نصا مقترحا لمخرج مجتهد وفريق عمل متجانس وجمهور عليه أن يشارك بنوع من الإيجابية» علي حد تعبير «عبلة الرويني» التي لاحظت بجلاء نافذ أن «الديمقراطية كانت دائما في مسرح سعدالله ونوس نوعا من ابتكار حرية مجازية تقاوم القمع، وشرطا أساسيا لتجاوز الخطابة والتحيز والتلقين، فهو يكتب كي يمتحن الصواب ويفتش عنه» ولا غرو في ذلك.. فقد آمن كاتبنا الكبير أن الكتابة لديه «هي دائما محاولة تجاوز، لا تخلو من الخداع والانتخاب والتسويات، علي مستوي علاقة ذات الكاتب بعملية الكتابة نفسها.. لكن النص حين يكتمل ويغدو ملكا للقاريء لا يجوز أن ينطوي علي أي خداع ولا تدليس».. إذ أن هناك حوارا «يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج، وهناك حوارثالث بين المتفرجين أنفسهم، وفي مستوي أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي «عرضا وجمهورا» وبين المدينة التي يتم فيها الاحتفال».. من هنا، رأي «ونوس» أن المسرح «ليس تجليا من تجليات المجتمع المدني، بل هو شرط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره».

غير أن «عبلة الرويني» توقفت مليا عند انشغال الكثير من النقاد بتحديد خطوط مشروعه المسرحي وتقسيمها إلي ثلاث مراحل:

البدايات: وتضم مجموعة من النصوص المسرحية القصيرة، منها «جثة علي الرصيف»، «مأساة بائع الدبس»، «فصد الدم»، «المقهي الزجاجي»، «الجراد»، «الرسول المجهول في مأتم أنيتجونا» وتمتد هذه المرحلة بين عامي 1964 و1968.

مرحلة الالتزام الماركسي الصارم والسؤال الإيديولوجي المنشغل بتحليل بنية السلطة، وتضم من مسرحياته «مغامرة رأس المملوك جابر»، «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، «سهرة مع أبي خليل القباني»، «الفيل يا ملك الزمان»، «الملك هو الملك»، وتقع بين عامي 1968 و1989.

مرحلة أخيرة، تبدأ من مسرحية «اغتصاب» 1990، حتي «الأيام المخمورة» 1997، وتضم مسرحيات «منمنمات تاريخية»، «طقوس الإشارات والتحولات»، «ملحمة السراب»، «أحلام شقية»، «يوم من زماننا»، حيث تطل الخصوصيات الفردية، وينشغل الكاتب بالمكونات النفسية والنوازع والأهواء لشخصياته المسرحية.. لاحظت أن في هذا التقسيم النقدي الصارم والمحدد، محاولة تبيسيطية لقراءة المشروع المسرحي المتنامي والمتنوع في أسئلته الجمالية والفكرية، ليس بين مرحلة وأخري، بل بين المسرحية والمسرحية التي تسبقها، دون أن يتنكر الكاتب لمرتكزاته الفكرية والفنية والأيديولوجية، لكنها صيرورة الوعي التاريخي المركب التي احتفظ بها دائما سعدالله ونوس بوصفها مقوما جوهريا من مقومات ثقافته الوطنية، وهي أيضا متغيرات الواقع وموقف الكاتب ونضجه، مع إعادة النظر المتواصلة لتحقيق هذا النضج.. الأمر الذي دفعه إلي : «أن يتأمل بفهم وبعمق ما يجري حوله: هزيمة 1967، انكسار المشروع الناصري، انكسار المعسكر الاشتراكي، تزايد هيمنة السلطة في مقابل تهميش المجتمع، هشاشة القوي السياسية وضعف قدرتها علي المقاومة، وعلي صياغة أساليب نضال مبتكرة وفعالة، حرب الخليج وما أصابتنا به من عري كامل.. إلخ» علي نحو ما تذهب «عبلة الرويني» في كتابها هذا الذي رصد أيضا الأزمة التي صاحبت نص «ونوس» «اغتصاب» المأخوذ عن نص الكاتب الإسباني «بويرو باييخو» «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» في إطار هذه المراجعات، وإعادة النظر حول المنطق الذي ناقش به كثير من المثقفين هذه المسرحية «دون حساب لمسيرة الأعوام الطويلة ومتغيراتها، وأننا مازلنا نواجه إسرائيل بآليات لاهوتية وبدائية» وفق تعبيره.. إلا أن «الليبرالية» التي أشار إليها في مقدمته لكتاب «قضايا وشهادات» بدت ملتبسة علي كاتب يستند بعمق إلي منهجية ماركسية ورؤية مادية للتاريخ فكتب إليها موضحا فكرته «هل تظنين أن بوسع الماركسية أن تحقق مجتمعا اشتراكيا إن لم تكن مؤسسة علي مجتمع انصهر وتبين وتفتح في سياق ليبرالي.. ثم ألم تكن واحدة من أخطائنا الكبيرة – نحن الماركسيين – إننا لم نقدر ثراء الليبرالية.. وأنه دون العقلانية وحرية السجال ما كان بوسع الانتماء الماركسي أن يكون إلا شكلا جديدا من أشكال الانتماء اللاهوتي، منغلقا علي نصوصه وشعاراته».. وهو ما أكده «ونوس» لرفيقة دربه المسرحي د. «ماري إلياس» ذات يوم فقال: «لم أعد أحب فكرة مهمة ووظيفة الفن.. بل إن جوهره يكمن في أن يبحث عن هذه الفرادة وينميها ويعمقها، لأنه عبر هذه الفرادة سيولد التعبير الجديد».

إن «حكي الطائر سعدالله ونوس» محاولة جادة لإغناء الرؤية المسرحية وطرائق تعبيرها، والكشف عن صيغ التجديد المسرحي فيها، عبر تجربة واحد من أهم رموزه وكتابه، ومن خلال البحث عن ماهية الفعل الدرامي في نصه وجدل علاقته بالحكاية بوصفها الومضة الحاملة برقها ووعدها الذي يتخطي زمنها، ويوسع دلالاتها فتتجاوز السائد والحدود المرسومة له.

تحية ل «عبلة الرويني» وكتابها الذي حمل إلينا أسئلة الراحل الكبير وبسطها في ضوء هموم واقعنا الآني، ومكر التاريخ، وفضاء الحرية الذي احتضن «سعدالله ونوس» وأفق نصه المشرع علي الجهات الأربع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى