مَن يطرق أبواب الحوار العربي في زمن الحصار؟
سليمان تقي الدين
إذا أردنا أن نلخص مشكلات المنطقة فيمكن القول إنها تفاعلات لعدة عناصر. لا شك أن الاحتلال الأمريكي المباشر لأجزاء استراتيجية من المنطقة هو الأكثر أهمية وتأثيراً. احتلال العراق بشكل خاص كان له تداعيات خطيرة من حيث موقعه الوسطي واتصاله بالجغرافيا السياسية المحيطة به. كما أن تفكيك الدولة وإطلاق الفوضى الكيانية أسس لمشكلة تتعلق بالنزاع المذهبي على السلطة ونشر مناخات من التوترات بين المكونات التاريخية التي لم يسبق لها أن حملت مشاريع سياسية مستقلة.
أما العنصر الثاني فهو دون شك استعادة الكيان الصهيوني لمشروعه الجذري الايديولوجي بفعل اتحاد الغرب الأمريكي الأوروبي والروسي أيضاً في سعيه الى بسط نفوذه بأشكال ووسائل مختلفة. ورغم التمايزات الجزئية بين السياسات الغربية على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية، إلاّ أن الكيان الصهيوني يتقدم في علاقاته الدولية ويوسع شبكة مصالحه بينما تتراجع أهمية الدور العربي الإجمالي حيث تتزايد أكثر العلاقات بين الدول العربية بخطوط مستقلة بعضها عن بعض.
لكن الطارئ في المجال الإقليمي هو بصورة أساسية الدور الإيراني الذي ظهر على المسرح كطرف يسعى الى اقتطاع حصة وازنة من المصالح داخل الخارطة الجيوسياسية الجديدة مستفيداً من التناقضات التي فتح أبوابها المشروع الأمريكي. غير أن الدور الإيراني لا يسير موضوعياً في اتجاه واحد بل هو يخترق النظام الإقليمي العربي محدثاً فيه انشقاقات بالغة، يعرقل الدور الإيراني الهيمنة الأمريكية الهادفة الى تشكيل شرق أوسط خاضع لمصالحها لكنه في مكان ما يطمح الى مشاركته في النفوذ ويسعى الى إيجاد توازنات عربية ومتغيّرات في النظام العربي تسهم في إضعافه.
وفي حقيقة الأمر أن المشكل الرئيسي على هذا الصعيد هو ضعف النظام العربي وانكفاؤه عن القيام ببلورة مشروع الأمن القومي وتصديه للسياسات الغربية وانخذاله أمام “إسرائيل” وتحدياتها.
سوى أن الأهم من ذلك كله واقع المجتمعات العربية التي تتلقى هذه الصدمات والأزمات وهي فاقدة لهويتها المشتركة من حيث الشعور بوحدة التحديات القومية أو من حيث ضعف المناعة الوطنية.
خلال نصف قرن من بناء النظام العربي تكونت مشكلات داخل الدولة القُطرية افقدتها شرعيتها والاجماع الوطني حولها. لم تتبلور صيغة الدولة التي تتجسد في مؤسسات حاضنة لهموم واهتمامات شعبها. ولم تتبلور حقوق المواطنة التي تعزز الولاء للكيان وللسلطة. تراجعت المؤسسات السياسية الشعبية التي كانت تؤطر الحراك والعمل الوطني لصالح مؤسسات السلطة، واحدثت فراغاً ملأته تيارات الإسلام السياسي المتشدّد العابر للحدود أو المقسّم للانتماءات الوطنية.
في خلاصة تشخيص عناصر المأزق الذي يعيشه العرب اليوم يجب فهم طبيعة المؤثرات الخارجية والداخلية، لكي نخرج من الأحكام المسبقة والاصطفافات المرتجلة والمعالجات الجزئية أو القاصرة. هناك مستويات عدّة للتعامل مع الزلزال العالمي الذي وقع بعد انهيار التعددية القطبية وبعد اندفاع المشروع الغربي لبلورة نظام عالمي جديد يكون الشرق الأوسط بأهميته الجغرافية والمادية والبشرية نقطة انطلاقه.
قد يكون المدخل الطبيعي لحل هذه المشكلات هو اضطلاع جامعة الدول العربية مجدداً بدور منسق الحوارات بين الأطراف الإقليمية المتنازعة وبصورة خاصة دول الجوار التاريخية والتعاون في مواجهة الفوضى السياسية والأمنية في وسط آسيا. لا يجوز مثلاً إدارة الظهر لما يجري في باكستان من ضعف للدولة المركزية واتساع الحريق في وسط آسيا. بل إن المشكلات التي تساهم فيها بعض الدول الإقليمية قد ترتد على جميع الدول مع تصاعد الهويات المذهبية وانبعاث مشاريع الاثنيات والأقليات، ولن تكون الدولتان الأقوى (تركيا وإيران) بمعزل عن هذه التداعيات. ويكاد المرء يجزم أن الأزمة لا تحل بغير مؤتمر دولي، لكن مؤتمراً إقليمياً هو ما يساعد على لجم بعض المداخلات التي تقوم فيها الدول الإقليمية باستخدام النزاعات المحلية لأهداف أوسع كما يجري في اليمن أو العراق أو فلسطين وغيرها. هناك ثلاث دول لها تأثيرها الإقليمي الأمني والجغرافي والسياسي والاقتصادي كانت تضبط ايقاع النظام العربي، هي مصر والمملكة السعودية وسوريا. ليس بين هذه الدول من حدود ومشكلات حدود ولا هناك اختراقات سياسية أو تدخلات في السياسات الداخلية بعضها لبعض. هذه الدول التي شكلت المحور الجاذب في أصعب الأزمات يجب ويمكن إعادة بناء التفاهمات بينها وهي تساهم في تماسك التجمعات الإقليمية، المشرقية، الخليجية، والشطر الإفريقي. في واقع الأمر لا يمكن أن ينكر أحد الأطراف خصوصية العلاقة وارجحيتها لهذه الدولة أو تلك بحكم الجغرافيا السياسية. فلا يمكن أن يكون هناك أي تنازع على النفوذ إذا ما كان القصد هو استعادة التعاون لدرء المخاطر الإقليمية سواء أكانت ناجمة عن الفوضى أو مشاريع التسويات. وليس من الممكن أن يتجاهل أن حكومة التطرف العنصري في الكيان الصهيوني لا تسهّل أصلاً لأي دولة عربية مهمة تفعيل عملية السلام بعد اللاءات الجديدة والتهديد بحل القضية الفلسطينية على حساب العرب ودول الجوار تحديداً. هل من زعيم عربي يتولى مثل هذه المبادرة متخطياً الاعتبارات الشخصية والشخصانية طارقاً الأبواب المقفلة بين العرب لغير سبب جذري وعميق؟
الخليج