تنازلات أم انتصارات إيرانية؟
ميشيل كيلو
قال الرئيس أحمدي نجاد طيلة سنوات أربع إنه لن يفاوض أحداً غير وكالة الطاقة الذرية حول برنامج إيران النووي، وأعلن في تصريحات متكررة أن تدخل الدول الكبرى الخمس في هذا الموضوع هو تدخل في شؤون بلاده الداخلية يخالف القوانين والأعراف الدولية، لن تقبله إيران أو تنصاع له مهما كانت النتائج.
وقال الرئيس أحمدي نجاد مراراً وتكراراً إن برنامج إيران سلمي، لكنه لم ينجح ولو مرة في إقناع روسيا والصين بعدم الانضمام إلى بقية الدول الكبرى في العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على بلاده، مع أن روسيا والصين لا تتخذان الموقف عينه من إيران، الذي تتبناه البلدان الغربية.
وقال الرئيس الإيراني إن وفد بلاده إلى مفاوضات فيينا مع مجموعة (ال 5+1 = مجموعة الدول الخمس الكبرى + ألمانيا) لن يسمح بطرح موضوع البرنامج النووي الإيراني، لأنه لا يحق لغير وكالة الطاقة الذرية التعامل معه. لكن المفاوضات مع المجموعة تركزت على هذا البرنامج، بدلالة إعلان المفاوض الإيراني بعد الاجتماع مباشرة أن مشكلاته في طريقها إلى الحل.
أخيراً، قال إن بلاده لن تقبل إطلاقاً وتحت أي ظرف تخصيب اليورانيوم الخاص ببرنامجها النووي خارج الأراضي الإيرانية، ورفض عرضاً قدمه صديق إيران، الرئيس بوتين، حول تخصيب اليورانيوم الإيراني في روسيا، أو بيع إيران يورانيوم روسي مخصب. لكن الرئيس نجاد قبل صفقة تخصيب اليورانيوم الإيراني، التي عقدت خلال اللقاء مع مجموعة ال(5+1)، واعتبرها انتصاراً لسياساته وتراجعاً دولياً أمام تصميمه على تنفيذ برنامجه النووي.
تراجع نجاد يعتبر تراجعاً منظماً أمام الدول الكبرى المعارضة لبرنامج بلاده النووي، وقام بخطوات معاكسة تماماً لإعلاناته. لكنه دأب، كعادته، على إطلاق حملات دعائية تظهره بمظهر رئيس متشدد وصلب لا يتراجع أمام خصومه، تقوم على تكتيك معروف هو قبوله أمراً ثم المماطلة فيه، لتغطية تراجعه في معظم المسائل الخاصة ببرنامج بلاده النووي، سواء تعلق الأمر بالجهة التي يحق لها التفاوض، أم بمبدأ تخصيب يورانيوم إيران في الخارج. في سياق تراجعه، عقد نجاد صفقة تخصيب مع الدول الكبرى الست، حددت سوية التخصيب والدول التي ستتولاه، وتلك التي يمكن أن تبيع إيران يورانيوم مخصباً صالحاً للاستخدام في الصناعات الدوائية. لكن تمويه التراجع تطلب ألا تبلغ إيران الدول الكبرى، بل وكالة الطاقة الذرية، بموافقتها على الصفقة، بينما تطلبت المماطلة التنصل من هذه الموافقة، بحجة أن هناك ضرورة لإدخال تعديلات عليها، ولكن في مفاوضات مع الوكالة، ما دامت مجموعة ال(5+1) غير مؤهلة دولياً وقانونياً للتفاوض. أما تراجع نجاد في مسألة التخصيب، التي اعتبرها خلال أربعة أعوام قضية سيادية لا يحق لشخص أو لدولة التدخل فيها، فقد أعطاها شكلاً غريباً وطريفاً حين قال: إن إيران لم تتراجع عن سياساتها، وإن أوروبا هي التي قررت “التعاون” معها في برنامجها النووي.
يعلم الرئيس نجاد أن القبول فالمماطلة هما سياسة بلا أفق، وأن التراجع ثم محاولة الإيهام بأن الأمور لم تبت بعد، وأنه يستطيع إعادة التفاوض حول المسائل التي تراجع فيها، لا يجديانه نفعاً، فالسياسة ليست شطارة وفهلوة بل هي التزامات تقبلها إيران أو ترفضها، وتحصد نتائجها في الحالتين، بينما يفاوضها من يفاوضها وهو يعلم أن تراجعها أعقب موجة الاحتجاج الشعبي ضد النظام ونجاد بالذات، وأنه حدث بعد تهديدات دولية بعقوبات قاسية وغير مسبوقة، ستكون لها نتائج داخلية سيئة جداً على النظام وعليه شخصياً، وقد تشل الحياة اليومية في بلده، الغارق في مشكلات بنيوية كثيرة والذي يواجه معارضة شعبية واسعة ومتواصلة. ومع أن أحداً لا يعرف إن كان تراجع نجاد كافياً لإيقاف هذه العقوبات، فإن من المرجح أن طريقته في التعامل مع نتائج مفاوضات فيينا لن تكون مجدية، ليس فقط لكونها تثير شكوك أعدائها وأصدقائها في مجموعة ال(5+1)، التي بعثت برسائل متنوعة يصعب عليه الخطأ في قراءتها، منها رسالة مدفيديف حول العقوبات، ورسالة أوباما التي نقلتها المناورات الأمريكية مع “إسرائيل”، التي تقول إن إيران لن تواجه، في حال نشب نزاع مسلح، “إسرائيل” وحدها، بل ستواجه أمريكا أيضاً، فمن الأفضل له التراجع في المسألة النووية اليوم والصاروخية غداً، خاصة أن درب النموذج الكوري الشمالي مغلق أمامه، وليس له من خيار غير النموذج الليبي، وفحواه التخلي عمّا يقلق الدول الكبرى مقابل الإقرار بمصالح إيران وعدم تقييد يديها إقليمياً، فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، ويحصل الكبار على ما يريدون، في حين ينال غيرهم مكافآت تليق بأحجامهم، تمكنهم من أن ينتشروا قليلاً هنا وكثيراً هناك، وعلى الأخص في المنطقة العربية، حيث يجوز لإيران، باسم الإسلام أو مصالحها القومية، مواصلة العمل لمنع تبلور مركز ثقل ونهوض عربي يتكور العرب حوله، ولإفشال أية سياسات قومية أو توافقية عربية على صعيدي الدول والأمة.
وصل نجاد إلى سدة الرئاسة قبل نيف وأربعة أعوام وهو يتعهد بوقف سياسات خاتمي الرخوة في المسألة النووية. وقد صمد فعلاً في وجه الضغوط الدولية خلال حقبة رئاسته الأولى. غير أن قبوله تخصيب اليورانيوم في روسيا يعني، بين أشياء أخرى، قبوله الضمني تدخل الدول الكبرى عامة وأمريكا خاصة في أخص شؤون بلاده الاستراتيجية، وتخليه عن الجانب العسكري من برنامجه النووي، وقيام رقابة دولية وثيقة على تقدم إيران العلمي والتقني، وهجره سلوك القوة العظمى الإقليمية، الذي لطالما ادعى حقه فيه، وكثيراً ما قال إنه لا يليق بدولة أخرى قدر ما يليق بدولته.
هل سينجح الرئيس نجاد في عمل الشيء وعكسه: تقديم تنازلات تسجل دولياً عليه اليوم وسحبها أو تعديلها غداً؟ ثمة رأي يرى أن رئيس إيران بدأ طريقاً ليست صفقة التخصيب نهايته، وأنه سيكون مجبراً على مواصلة ما بدأه، إذا بقي لديه وقت لذلك، ونجحت تنازلاته في تهدئة مواقف الغرب عموماً، وأمريكا و”إسرائيل” خصوصاً من إيران ودورها.
الخليج