السعودية بين إخوان الشدة والرفاه
د. مضاوي الرشيد
مهما كان موقف المراقب من حركة ‘الاخوان المسلمين’، مصرية الاصل، عالمية الانتشار، لا بد أن يعترف انها من أكثر الحركات السياسية تأصلا في المجتمعات العربية والاسلامية، ومؤخرا الغربية، حيث استطاعت الحركة أن تخترق مؤسسات حكومية دينية وتعليمية وخيرية وأخرى، تحسب على فعاليات المجتمع المدني. ان سلمنا بهذا نستطيع ان نتحول لتقييم هذه الحركة الشعبية رغم ان كوادرها هم في البداية مجموعة نخبوية انتجتها التحولات التربوية التي شهدتها الساحة. فهؤلاء يختلفون عن العلماء التقليديين ذوي التعليم المرتبط بمؤسسات تأهيل العلماء، فمعظمهم جمعوا بين العلم الديني المكتسب من خلال الاطلاع المعرفي وبين العلم الحديث الذي أدخل في الجامعات المؤسسة في القرن العشرين. فمنهم الاطباء والمهندسون والمحامون.
استطاعت الحركة ان توصل مشروعها لشرائح كبيرة من خلال هؤلاء الذين منهم من يعمل في اجهزة الدولة المستحدثة مع نمو بيروقراطية الدولة وتفرع مؤسساتها. ما يهمنا هنا هو موقف الحركة الام من الاحداث السياسية على الساحة العربية الحالية. خذ مثلا موقف الحركة الأم من الصراع اليمني الحوثي والذي تبنى الموقف الوحدوي ونأى بنفسه عن الانحياز لتيار معين في الصراع، وقد اختلف هذا الموقف من موقف الطرف وهو موقف الاخوان المسلمين السوريين، حيث اصطفوا خلف الجناح السعودي الطارئ على الصراع، وكذلك اختلفوا مع فروعهم في دول الخليج تماما كما حصل عندما غزا صدام الكويت، فظهرت مظاهر التصدع في الموقف من الغزو وانشق الاخوان بين مؤيد للضربة الامريكية مصطفا بذلك خلف اخوان الرفاهية في دول الخليج وحكوماته وآخر معارض للتدخل الاجنبي في حل معضلة الغزو ومنهم اخوان الشدة في البلدان العربية الفقيرة من اليمن الى الاردن. يطرح هذا الانشقاق معضلة الحركات السياسية العربية اسلامية كانت أم علمانية، يسارية أو قومية، وهي معضلة علاقتهم بالسعودية ودول النفط الاخرى. لقد وقع الاخوان تماما كما وقعت الحركات السابقة في كماشة الانظمة العربية وقدرتها الشرائية وصراعها مع الانظمة الاخرى في المنطقة.
الكل يعلم لماذا استقدمت السعودية الاخوان المهجرين من كل دولة عربية ومنها سورية والعراق واليمن والمغرب العربي، بالاضافة الى مصر، المركز الاول للفكر الاخواني. استعملتهم السعودية لتثبيت شرعيتها الاسلامية في وقت كانت تحتاج الى البعد الاسلامي لمحاربة ابعاد المرحلة الثورية والتي ارتبطت بالاستقطاب العربي بين عبد الناصر والسعودية. ولجأ بعضهم الى العراق الذي استضاف كوادر اخوان سورية بعد توتر العلاقة البعثية البعثية بين سورية والعراق، وكذلك فعل الاردن في مرحلة التوتر السوري الاردني. وبعد احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) وجهت السعودية اللوم الى الفكر الاخواني وقدرته التنظيمية لتتملص من تهمة تفريخ الارهاب على خلفية خطابها السلفي، فاشتدت المعركة في العلن ولكن يبدو ان الموقف الاخواني السوري المناصر لغزوات جبل دخان الحالية هو انعكاس لحالة التقارب بين معارضة سورية والنظام السعودي على خلفية توتر العلاقات الرسمية السعودية السورية والتي اشتدت وتيرتها بعد الهجوم الاسرائيلي على لبنان عام 2006. هذا العرض السريع يجعلنا نصل الى بعض النتائج منها: اولا: لم تحسم حركة الاخوان معضلة العالمية والمحلية، فخطابها الشامل يصطدم بمعطيات الاحزاب المحلية في كل بلد عربي، هذه المعطيات تنبثق من مشاكلها مع انظمتها المحلية وتركيبة مجتمعاتها الخاصة بها، خذ مثلا حدة الخطاب الاخواني السوري تجاه الشيعة، أليس هذا انعكاسا لما يحصل في سورية نفسها منها مثلا اعتبار اخوان سورية ان نظامهم نظام فئوي نصيري استنجد بالبعد الشيعي ليقضي على التمرد السني منذ عام 1980. هذه المعضلة ليست موجودة في مصر وان وجدت فهي ليست بنفس الحدة والصرامة.
ثانيا: حتى هذه اللحظة لم تحسم حركة الاخوان موقفها من النظام السعودي بشكل واضح وصريح، بل هو موقف يتذبذب حسب المعطيات السياسية، وهذا ينطبق بالاخص على اخوان الخليج والسعودية الذين ما زالوا يدفنون رؤوسهم في الرمال ويختبئون تحت شعارات الدعوة والارشاد. اخوان الرفاهية هؤلاء يطالبون باسلحة الانظمة والدولة الاسلامية في كل مكان ما عدا بلادهم ويحتضنون الاخوان المهجرين من كل مكان ويدعمونهم بالمال شرط أن لا يقوضوا علاقتهم بدولهم، والتي يرون فيها صروحا رشيدة للحكم الاسلامي العتيد.
وكلما ظلت هذه الحركات تترنح في مواقفها وتتبنى ازدواجية مفضوحة ستظل قاصرة على ان تتحول الى قوة شعبية ذات موقف مؤصل وواضح وصريح من انظمة لا تتحمل ان توصم بالاسلامية دون ان يدخل المرء في متاهات الزيف الاعلامي. وقد عرف هؤلاء ان الانظمة التي تحتضنهم قد تسلط عليهم تيارات اسلامية اخرى وتسحب البساط من تحت اقدامهم كالتيار السلفي مثلا، ويصبح الكل لعبة في يد الأنظمة ذات القوة الشرائية المرتفعة.
ثالثا: لقد وقعت الحركات السياسية العربية في فخ الانظمة التسلطية التي تستقطبها وتغدق عليها الاموال وتجرها في صراعات، بل حتى انها تبث جذور الانشقاق في صفوفها، مستغلة بذلك ضعفها اجتماعيا وماليا، إما في بلدها الام أو في موطنها، حيث تشكلت تحت ستار السرية والرعب من سوط الانظمة المتسلطة. وحالة الاخوان المسلمين لا تختلف ابدا عن الحركات السياسية العربية السابقة عندما وقعت هذه ايضا سابقا في فخ الانظمة معتمدة على مبدأ عدو عدوي صديقي. وقد ينتج عن هذا المبدأ بعض المكاسب الأنية، الا انه في النهاية موقف فاشل على المدى الطويل لانه يرهن القرار السياسي للحركات بمشيئة واهداف واموال لاعب قوي مستعد لأن يستغل ومن ثم يرمي الحركات وكوادرها خلف اسواره. نعم انها سياسة قذرة طورتها الانظمة العربية الى مستوى عال من التقنية والابداع، واثبتت ان رجالات السياسة العربية هم تماما كما وصف ارسطو الانسان على أنه حيوان سياسي بالدرجة الاولى. ولكن لم ينتبه ارسطو ان العرب وحيوانيتهم السياسية هي قطرة تربوا عليها، وهي لا تعتمد على احلاف ومناورات شريفة بل انها حيوانية قذرة تعتمد على اعمال استخباراتية عنيفة تطال النشطاء وهي مستعدة لسفك الدماء والزج بالسجون وتشويه السمعة والنفي وليست سياسة شفافة تستطيع ان تحتفظ بأقل قدر ممكن من المبادئ والاخلاقيات والاسلوب السياسي الحضاري. فتستغل الانظمة ضعف الحركات السياسية وبطش اخواتها في البلدان العربية الاخرى فتدخل على الخط ويقع النشطاء السياسيون في فخ انظمة لا تدين الا بالولاء لكراسيها وكراسي ابنائها من بعدها.
وعند أي خطر يحدق بها نجدها تضحي بأقرب الناس اليها ومن والاها خلال مراحل نشاطه السياسي العصيب.
رابعا: لم تحسم حركة الاخوان المصرية معضلة التوفيق بين العالمي والمحلي، وهي معضلة تشترك فيها مع غيرها من الحركات التي تطمح الى العالمية والمد الافقي لتبذر جذورها في بيئات محلية قد تختلف تماما عن بيئتها الام، وقد تعرضت الحركة الشيوعية العالمية واليسارية الى تناقضات تشبه كثيرا ما يحصل على الساحة الاخوانية الحالية. وتتعاظم أزمة الاخوان اكثر من ازمات الشيوعية السابقة، خاصة وانها تعتمد على مرجعية دينية ربما لا تكون تتمتع بنفس الليونة التي كانت جاهزة للحركات السياسية التي اعتمدت على فكر بشري وانتاج انساني. من هنا تصطدم الحركات الدينية السياسية بمواقف افرادها الذين يظلون اكثر قربا للنص وآخرين يتحركون سياسيا وربما يكونون اكثر ليونة من منظريهم المنغمسين في نصوصهم الدينية. واذا اضفنا الى ذلك الانقسام بين مواقف اخوان الرفاهية ومواقف اخوان الشدة نجد ان الحركة السياسية الاخوانية غير قادرة على احتواء التشظي الحاصل تجاه الاحداث السياسية العربية. وليس من السهل على هذه الحركة ان تستوعب املاءات البلدان المحلية وتحل معضلة علاقة الحركة الام بفروعها في كل بلد. وان اضفنا الى ذلك سوط القمع على الساحات العربية من محيطها الى خليجها سنجد ان الحركة الاخوانية ستقع فريسة اعداء مختلفين ومتعددي الاتجاهات والاهواء، رغم كونها استطاعت ان تثبت وجودها في معظم الدول العربية على المستوى الشعبي والنخبوي.
ويبدو ان أشد الاخطار المحدقة بالحركة هو الدور السعودي لانه دور قوي ومدعوم ماليا ومؤسساتيا، وان كان للسعودية فضل كبير على الحركة وكوادرها في السابق، الا انه دور مرهون بمصالح النظام السعودي الآنية وقابل للتحول والتغيير متى كان هذا ضروريا، وعند الفرصة المناسبة. وان ظلت حركة الاخوان تتخفى خلف دعوات اسلمة المجتمع من خلال برامج الدعوة والارشاد فستظل رهينة برنامج واحد تنافسها عليه حركات اسلامية اخرى كثيرة ومتشعبة. وعندما يدق ناقوس الخطر في معبد الانظمة ستعتمد هذه الاخيرة على مثل هذه الحركات لتحدث انقسامات ليس فقط بين الحركات المختلفة بل في داخل هذه الحركات نفسها، وهذا بالفعل ما تشهده الساحة السياسية الاسلامية حاليا. لقد استطاعت الانظمة ان تفتت التيار الاسلامي من الداخل ومن الخارج تماما كما فعلت عندما تصدت لمواجهة الحركات اليسارية والقومية السابقة. خلال العقود القادمة سنشهد تبعات هذه السياسات التسلطية. وان اضفنا اليها الانشطارات الطائفية والمذهبية والتي تنخرط في معاركها الحركات الاسلامية ذاتها فنكون قد افسحنا المجال لحروب اهلية داخلية لن تنجو منها المنطقة العربية، وخاصة تلك البلدان التي نشهد بها تصعيد الانقسام الطائفي المقيت الذي رسخت جذوره في اكثر من منطقة.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي