استراتيجية الحرب المتنقلة!
ميشيل كيلو
بين مستجدات زماننا ظاهرة سيكون لها دور كبير في تعيين مستقبل منطقتنا، تتبنى منظمات ودول إسلامية فيها أسلوبا مستعارا من تكتيك كانت الأحزاب الشيوعية قد طبقته في صراعها ضد الرأسمالية والاستعمار، سمي في حينه استراتيجية الدومينو أو الحرب الثورية الزاحفة.
هذا الأسلوب، اتسم بسمتين بارزتين :
– مزج بين العمل السياسي والعمل المسلح، فمهد الأول للثاني هنا وأعقبه هناك، وكان في هذا البلد أطول أو أقصر منه في غيره، ووجهت الأول قيادة علنية في حالة والثاني قيادة سرية في حالة أخرى، بينما قادت العملين اليد ذاتها في جميع الأحوال، فلم يلغ أحدهما الآخر أو يخل بالعلاقة بينهما، واندمج العملان في كل متكامل، رغم اختلاف أولهما عن ثانيهما بوسائله وأساليبه، وتحققت الغاية منهما: إزاحة طبقة أو نخبة أو طائفة عن الحكم والحلول محلها بالعنف والسلاح.
– طبق خطة غطت أكثر من دولة وسمحت للقيادة التي مارسته بتحريكه وفق مقتضيات الحال، فرأيناه يتصاعد هنا حتى يبلغ الذروة، ويركد هناك حتى يصل القاع، ويشتد في بلد حتى يبدو وكأنه لن يهدأ، ويفتر في آخر حتى يبدو وكأنه لن يتحرك من جديد. أما سر هذه الظاهرة، فهو يرجع إلى كون اليد التي تتحكم فيه تحركه حسب خطط تتعدى أي بلد، فالحرب المتنقلة يجب أن تكون شاملة بطبيعتها، بينما يتوقف نجاحها على تحريكها بفاعلية من مكان لآخر ومن مرحلة لأخرى، وعلى نقلها من حالة أدنى إلى حالة أعلى في الصعيدين المحلي والإقليمي، وإلا كان من المحال إرباك عدوها وهزيمته نفسيا قبل هزيمته ميدانيا. بقول آخر: يتوقف مصير هذه الحرب على وجود مركز قرار وتحكم تقبل سائر فصائلها وأذرعها خياراته وتنفذ أوامره بدقة، على أن ينفرد برؤية لوحة الحرب العامة، التي تخترق بلدانا وأماكن متباينة، وبمعرفة تفاصيلها وأهدافها ومجرياتها، وبقدرته على ربط أجزائها المختلفة ربطا صحيحا بلوحتها العامة، وبحقه في تقرير دور كل ذراع من أذرعتها بالنسبة لبلوغ النهاية المنشودة. هذا المركز، يجعل تطبيق الحرب المتنقلة أمرا ممكنا وناجعا.
إذا طبقنا هذه الأساسيات على الحركة الإسلامية المسلحة في منطقتنا، وجدنا ما يلي:
– ثمة مركز قيادي إسلامي مقرر، أخذ يسمح، خلال سنوات الهجوم المركز عليه في أفغانستان، بالمرونة واللامركزية في إدارة الحرب المتنقلة، مراعاة لضخامة المعركة التي يخوضها وقوة الأعداء الذين يقاتلهم ( أمريكا وحلف الأطلسي والحكومات المحلية). هذا المركز يطبق تكتيك الحرب المتنقلة بطريقة تحول دون استفراد العدو بأي طرف من أطرافها، ودون إحساسه بالأمان في جبهاتها الخلفية، وتجبره على بعثرة قواه وتبديد طاقاته. أما المرونة، فهي تعني هنا تمثيل المركز من خلال مفوضين جوالين يكلفهم بالعمل في أماكن يعرفونها، لديهم صلاحيات واسعة تمنحهم حق الإمرة عليها، لأنهم غالبا ما يكونون من أبنائها. ينمي هذا الأسلوب طابع الحرب المتنقل، ويوزع قواها بطريقة تجعل من الصعب القضاء عليها، ويبقي المبادرة بيدها، ويتيح لها علاقة وطيدة مع قوى ودول متنوعة، تخوض معارك ضد الغرب ولها مصلحة في التعاون معها وفي تلقي العون المادي والمعنوي منها، مقابل الإفادة من خدماتها والتنسيق ضد العدو المشترك، أو تحقيق مكاسب سياسية في هذه الدولة أو تلك، وعلى المستوى الإقليمي.
– تشهد منطقتنا تصعيدا عسكريا مدروسا وواسع الأبعاد تتولاه منظمات إسلامية مسلحة تنتشر في بلدان ودول كثيرة تغطي كامل مساحتها. هذا التصعيد يأخذ شكل حرب تتركز في مرحلة معينة على بلد واحد أو عدد قليل من البلدان، حيث تتموج حركتها فترتفع هنا وتخمد هناك، وتنفجر في مكان وتهدأ في آخر، وتتناوب المد والجزر على المستويين الإقليمي والقاري، وتتبادل مكوناتها المتعددة القوميات والبلدان، المختلفة الأوضاع، التفاعل والتأثير، وتفتت بتناوبها ولامكانية حراكها جهود الخصم المحلي والدولي، وتربكه، وتسبب شروخا بين الحكومات والرأي العام في بلدانه، وتوطد مواقع القوى الإسلامية في مراكز الحرب، فتوحد جهود أطرافها وتضع في خدمتها قدرات بشرية ومالية عابرة للقومية، تجعل الأفغاني يقاتل في باكستان، والباكستاني في الشيشان، والسعودي في اليمن، واليمني في العراق، وهؤلاء جميعا في أفغانستان وباكستان: كعبة الحرب المتنقلة ومختبرها الرئيسي، الذي يرفد بالعون الضروري، مقابل الخبرة وإبعاد العدو عن النقاط الطرفية، وتقديم نموذج ناجح في القتال والتنظيم والدعاية.
– تكمن خصوصية الحرب المتنقلة في خوضها من خلال نخبة سرية فاعلة ومؤثرة، تحظى بدعم وحماية قسم من أبناء بلدانها، وتملك القدرة على تنفيذ ما يرسمه المركز، أو ترسمه هي لنفسها من خطط وبرامج تنال موافقة المركز، على أن تكون مستعدة دوما للانتقال من السكون إلى الحركة، ومن السلبية إلى الفاعلية، لنجدة غيرها أو لتحريك الوضع في أماكن نشاطها، وتفعيل التراكم التدريجي والمتقطع لحرب لا تمر بمرحلة واحدة يتم اجتيازها دون توقف، على غرار ما حدث في حروب العصابات الصينية والفيتنامية والكوبية … بل يتبدل مركز ثقلها فيكون العمل المسلح اليوم، والدعوي العقائدي غدا، والسياسي/التنظيمي بعد غد، وتستعر مرة في القرن الإفريقي وأخرى في الشيشان وثالثة في موريتانيا أو الصحراء الأفريقية أو العراق … فهي تحقق هدفها الاستراتيجي عبر تراكم مراحل مترابطة وأنشطة جزئية متباينة الأشكال، لكنها متكاملة أشد التكامل.
تقدم التنظيمات الإسلامية المسلحة مسوغين للحرب المتنقلة هما : كمال الإسلام وكفر الأنظمة السياسة القائمة. بمقارنة صورة الإسلام الزاهية مع واقع أنظمة المنطقة الكئيب، يسعى أتباع الإسلام الجهادي، الذين يرون في الماضي كمالا لا يعرفه الحاضر، إلى تقويض الوضع القائم واستعادة حال الأمة الطبيعي، الذي عرفته في ماضيها، وبقي حيا إلى اليوم في نفسها، حاضنته الحقيقية، التي أبقته بمنأى عن النظم التي انحرفت عن المثال الإلهي، وحفظته من التشوه، الذي حاولت حقنه به. هدف الجهاد هو، إذن، استعادة النموذج الأول، الأصلي، بإزالة نظم التشوه والانحراف والنقص، وإقامة حكومة إسلامية تجسده في صعيد السلطة والدولة، ليكتمل تطابق المثال والواقع، الدين والدنيا، والمؤمن وذاته الحقيقية. على الجهاد قطع رأس الأمر السياسي القائم، أيا كان، وإعادة إحياء الأمر الأصلي، الطبيعي والإلهي: أمر الدنيا بما هي شأن من شؤون الدين.
تشبه الحرب المتنقلة الحرب الثورية من وجوده عديدة، وتختلف عنها في سريتها وتدرجها وأيديولوجيتها وشمولها. وقد صارت قوية الحضور في حياتنا، مع أن وعينا بروابط مكوناتها المختلفة ما زال ضعيفا، وإدراك ما بينها من أدوار تبادلية ولديها من قدرة على التنقل بين البلدان والمجتمعات، ما زال غائما. إن هناك بيننا من لا يعتبرها ظاهرة موحدة، ويرى فيها ظواهر متفرقة لها توجه عام، هي، في نهاية المطاف، محلية الطابع وتفتقر إلى تنسيق كاف، وإن كان مركز واحد وهدف عام يجمعها. لا شك في أن التقطع والمرحلية والتدرج هي التي تضفي الغموض على هذا النمط من الحرب، خاصة لدى من يقارنون بينها وبين الحرب الثورية، التي كانت حرب عصابات في بلد واحد، وكان لها طابع علني وتواصلت دون هوادة إلى أن انتصرت أو هزمت، بينما الحرب المتنقلة متقطعة وتدريجية، تعلو وتهبط، تتقدم وتتوقف، وتتسم بالسرية دوما.
لهذا النمط من الحرب جذور في كل مكان. وهو يخترق حياتنا العربية والإسلامية بدأب وإصرار. ولا مفر من الاعتراف بأن مستقبله واعد، لأسباب أهمها حال النظام الرسمي السائد، العاجز والضعيف، الذي يرفض إصلاح نفسه خشية أن يقوي الإصلاح خصومه عامة والإسلاميون منهم خاصة، بينما يقول الواقع إن وضعه الراهن يقوض شرعيته ويستدعي التطرف كبديل مقبول له. ومن لا يصدق فليتأمل ما يجري في اليمن والصومال والعراق ولبنان وفلسطين والسودان وأفغانستان وباكستان والجزائر وموريتانيا وتشاد … وليقارن قوة الحركات الإسلامية اليوم بقوتها البارحة، وانتشارها اليوم بانتشارها قبل أعوام قليلة، فيفهم لماذا تخاف أمريكا الهزيمة على يد طالبان، ولماذا عجز جيش اليمن خلال ثلاثة أشهر من القتال عن قهر الحوثيين.
ثمة أساسان سياسيان للحرب المتنقلة، إلى جانب حماسة أنصارها لخوضها، أحدهما شعور أتباعها بأن النظام الدولي ظلم ويظلم المسلمين، وثانيهما التدهور السريع في الأمر القائم، الذي هو نقيض الدين الصحيح والهوية الحقيقية. يخوض أنصار هذه الحرب معاركها على جبهتي النظام الدولي والنظم المحلية، ويحققون تقدما تدريجيا تسارع في كل مكان خلال العقد الأخير. بالمناسبة، لا يؤمن هؤلاء بالتسويات والحلول الوسط، ويعدونها كفرا، فالمثال الإلهي لا يمكن ولا يجوز أن يختلط بالنقص والفساد الدنيويين، ومن الكفر إدخاله في تسوية معهما. لا يريد أنصار الحرب، كذلك، تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم، لعدم وجود مثل هذا الحد بالنسبة إليهم. لذلك، يقول شعارهم، الذي أخذوه عن بعض حركات حرب العصابات الشيوعية والوطنية : الشهادة أو النصر، فلا تسوية ولا حل وسطا بينهما، وليس هناك، بطبيعة الحال، حد أدنى من الشهادة أو النصر، فإن أجبرت الظروف طرفا من أطراف هذه الحرب على عقد صفقة ما، فليكن هدفه نقضها في أقرب وقت وليس احترامها وتطبيقها، كي لا تسيء إلى الخط الاستراتيجي القائم على خيار نهائي يقول : إما نحن وإما هم. إما دار الإسلام أو دار الكفر.
تمثل الحرب المتنقلة نوعا جديدا من الإسلام السياسي، يختلف عن نوع سابق عرفته نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وفشل في صد زحف الاستعمار الأوروبي على العرب والمسلمين. كما يختلف عن إسلام العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، الذي غلب عليه الطابع السياسي وعبرت عنه بصورة رئيسية حركة الإخوان المسلمين، وتم تحطيمه في مصر ثم في سورية.
ترى منظمات الحرب المتنقلة في نفسها نقيض الغرب، والإسلام السياسي المهزوم، والعالم الرسمي، الذي ينخره الفساد وينهكه الضعف والعجز وتبدو حظوظه معدومة في الإصلاح كما في الاستمرار بسبب عداء شعوبه، وفشل كل ما فعله أو وعد بتحقيقه، ووجود اقتناع شامل لدى الأمة بأنه لم يعد يملك القدرة على تلبية آمالها.
إلى هذا، تتصاعد الحرب المتنقلة وتتوطد في فترة انحسار مدارس فكرية وسياسية ‘حديثة’، ظهرت ردا على فشل إسلام القرن التاسع في حماية المنطقة العربية من الاستعمار، هي المدارس القومية والاشتراكية والليبرالية والإسلامية المعتدلة، التي تكونت مطالع القرن الماضي وتولت حكم بلدان عربية عديدة، وفشلت في تنمية بلدانها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وفي بناء دولة وطنية، شعبية وديموقراطية، وتحقيق الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية، وحماية الوطن العربي واللحاق بالعصر، علما بأن فشلها يضفي شرعية شعبية على منظمات الحرب المتنقلة، التي تسد فراغا سياسيا لا تستطيع الأمة التعايش معه، وتثبت بأدلة ملموسة قدرتها على منازلة القوى العظمى والكبرى. إذا ما تذكرنا، الآن، أن المسلمين دافعوا دوما عن أنفسهم بدينهم، حين عجز غيره عن الدفاع عنهم، وأنه يقوم اليوم أيضا بدوره هذا، بينما تتخاذل قوى الأمر القائم وتستسلم أمام الخارج أو تطلب عونه لحل مشكلات لطالما قالت إنه هو الذي يقف وراءها، كاحتلال العدو الإسرائيلي للأراضي العربية عام 1967. ومن يتأمل تخلي نظم المنطقة عن ما كانت تسميه ‘محددها الأيديولوجي ‘، قوميا كان أم اشتراكيا أم ليبراليا، وتحولها إلى نظم أمنية تتملق الإسلام وقواه المسلحة، وتتبنى كثيرا من مقولاته حول ‘الغرب’، يدرك حجم الشعور بالخطر الذي يراودها، وكم يشجع سلوكها منظمات الحرب المتنقلة ويسهم في إقناع الناس بصواب أفعالها وسياساتها.
للحرب المتنقلة مستقبل واعد. إنها اليوم بديل أمر قائم فقد دوره وأحدث فراغا مخيفا في العالم العربي / الإسلامي، وكبت أي خيار شعبي، وأحجم بعناد عن بذل أي جهد لإصلاح أوضاعه واحترام إرادة مواطنيه. هذا البديل قطع نصف الطريق إلى النصر، ولن يحول بينه وبين بلوغه شيء، إن بقيت نظم العالم العربي / الإسلامي على حالها، وواصل الغرب حربه المجنونة على الإسلام والمسلمين، وتجنب المسلمون فخ الانقسام ونجحوا في عدم الانجرار إلى معركة مذهبية، إن نشبت بينهم دخلوا في حروب قد تستمر لنصف قرن، سيضيعون فيها كل شيء !.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي