لعبة المرايا و شباك العنكبوت بين المقاومة و الغرب
ثائر دوري
إن العلاقة بين الإنسان و المرآة ليست بالبساطة التي نتخيلها للوهلة الأولى . لأنه لا توجد مرآة واحدة في الكون بل هناك أنواع لا نهاية لها من المرايا و هذا ما يعرفه أخصائيو البصريات .
صانعو السيارات انتبهوا إلى خطورة المرايا و أنها لا تعكس الواقع بحرفيته بل إنها تقدم صورة ما عن الواقع لذلك يكتبون أسفل المرآة ( الأجسام تبدو في المرآة أقرب مما هي في الواقع )
هناك مرايا تقرب الأجسام و هناك مرايا تبعدها . هناك مرايا تكّبر و أخرى تجعل الأجسام تبدو أصغر من حجمها . هناك مرايا صافية تعكس الواقع بشكل أقرب إلى الأمانة و هناك مرايا مشوهة و تساهم بتشويه الواقع . لذلك من الخطورة بمكان أن يكّون الإنسان صورة عن جسده أو عن ذاته استناداً إلى صورته في المرآة . لكن هذا عين ما يحدث لأمتنا منذ أكثر من قرن من الزمان . لقد اختارت الغرب كمرآة لها ، فكونت صورة لذاتها عبر مرآة الغرب
في كتابه (هوامش ثقافية) يسجل الكاتب المسرحي العربي السوري الراحل سعد الله ونوس الحوار التالي ، الذي دار بينه و بين الكاتب المسرحي الثوري الفرنسي جان جينيه ، أواسط السبعينيات من القرن الماضي في باريس ، و سأنقله لأهميته الشديدة كاملاً :
(( …. باغته جان جينيه بهذا السؤال البديهي:
ـ لماذا جئت الى فرنسا ؟
فيرد سعدالله ونوس:
الدورة التدريبية ذاتها لا تعنيني كثيرا لكنها تتيح لي الفرصة كي اطلع وأتعلم.
ـ لا يمكن أن تتعلم أي شيء هنا اسمع إن الحضارة الأوروبية تمت وانتهت إنها الآن في طور الاحتضار أو الموت فماذا يمكن أن تتعلموا من حضارة تحتضر أو تموت؟
لكن سعدالله ونوس يرد:
بالنسبة لك من السهل أن تقول ذلك أما بالنسبة لنا فان الأمر مختلف إن هذه الحضارة التي تقول أنها تمت وانتهت مازالت تملك القوة التي تمكنها من هدم استقلالنا والهيمنة على مقدراتنا ونحن لن نستطيع مقاومتها بكفاءة وفعالية ما لم نعرفها ونتمثل علومها هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى علينا أن نعترف موضوعيا بأن هذه الحضارة قد أحرزت خلال القرنين الأخيرين مخزونا هائلا من المعارف والعلوم هو الذي أتاح لها تقدمها وسيطرتها وأنا اعتقد أننا معوزون لكي نبني تقدمنا الخاص إلى استيعاب هذه المعارف واقتباسها بما يتلاءم وظروفنا التاريخية.
ـ ولكن الاقتباس كالترجمة سواء بسواء.
ـ لا .. لا اقصد ان ننسخ الحضارة الاوروبية بل أن نتمثل معارفها كي ننقدها ونقاومها وبالتالي كي ننجز تقدمنا المستقل.
ـ انت قلت انك تريد ترجمة او اقتباس معارف الغرب لكي تنقده وتقاومه ولكن ما الذي يضمن نجاح خطتك؟ إن الاقتباس هنا غالبا ما يؤدي وفي غفلة منا إلى الافتنان بالآخر وبالتالي إلى محاولة تقليده وفي أسوأ الحالات إلى التماهي معه.
ـ ألا توجد فرصة للتعلم من الغرب دون الوقوع في فخ الافتنان به؟
ـ ليس وانتم تعتقدون أن الغرب هو الأقوى والأنضج ثقافة.
ـ وماذا تقترح علينا إذن؟
ـ أن ترفضوا هذا الغرب وان تبنوا أنفسكم بأنفسكم.
ويضيف جان جينيه واضعا يديه على بؤرة الإشكالية:
ـ للأسف لقد لاحظت أنكم موشومون بالثقافة الغربية وأنكم تشكلون أنفسكم وفقا للنموذج الأوروبي وهذا يعني أن الغرب اصطادكم في فخه الماكر لقد نجح في أن يصبح مرآتكم .. ولكن أية مفارقة أنكم تبحثون عن صورة مرضية في مرآة لا يمكن أن تعكس لكم إلا سيماء الضعف والنقص والانسحاق هذا هو الفخ الذي تتخبطون في حبائله.
حيث يصبح العدو هو بالذات مرآتكم ومرجعكم في الثقافة والسلوك والطموح فإني أتساءل أين وكيف تأملون هزيمته ؟! ويضيف جان جينيه مشرحا ومعريا الحالة العربية:
ـ إنكم تتخبطون في لعبة مرايا شبيهة بشباك العنكبوت .. اسمع .. هل تعرف أن أهم معوقات المقاومة الفلسطينية هو أنها لم تستطع أن تفلت من الفخ الغربي؟ لقد استدرجها الفخ بكثير من المكر . انظر إلى اهتمام بعض زعماء المقاومة ومثقفيها بما تكتبه الصحف الأوروبية عنهم أحيانا أحس أنهم يتصرفون وفقا لما يمكن أن يرضي هذه الصحف وقراءها حتى التصريحات والبرامج السياسية تصاغ أحيانا على هذا الأساس))
كان هذا الفخ قاتلاً للمقاومة الفلسطينية في السبعينيات وصولاً إلى التسعينيات ففي محاولتها أن تكون مقبولة في الغرب و بأي ثمن عدلت برامجها ، و صاغت أهدافها و استراتيجياتها و أشكال نضالها لتكون مقبولة من الغرب . و بالطبع إن الغرب لن يرى إلا سيماء الضعف و الانسحاق و النقص كما يقول جان جينيه . كما سعت منظمة التحرير الفلسطينية للحصول على الاعتراف الأمريكي بأي ثمن لذلك اعتبرت قبول الأمريكان الحوار معها انتصاراً في معادلة مرضية فحواها التالي :
– الولايات المتحدة تعترف بي إذاً أنا موجود . و بالعكس …….
و النتيجة النهائية لكل ذلك أن منظمة التحرير لم تعد منظمة تحرير حتى حصلت على اعتراف الولايات المتحدة بها. بل صارت شيئاً مشوهاً أضاع خصائصه الأساسية .
لكن الأجيال الجديدة من المقاومة الفلسطينية استفادت من التجربة المريرة السابقة و بدأت تقطع مع طريقة الفكر ، التي لا ترى نفسها إلا بمرآة الغرب . لذلك لم تتوقف العمليات الاستشهادية ، و التي هي سلاح بسيط و فعال عدّل ميزان القوى المختل تكنولوجيا لصالح العدو . لم تتوقف هذه العمليات رغم عشرات الكتبة و السحوت الذين يصرخون ليل نهار أن هذه العمليات مؤذية لصورتنا في الغرب …!!
و اليوم يحاول بعض المثقفين العرب عن جهل و حسن نية ، أو غير ذلك . يحاولون تكرار نفس تجربة المرايا وإيقاع المقاومة العراقية في شبكة العنكبوت الغربية . فما إن أعلن جاك شيراك عن ضرورة تمثيل المقاومة العراقية في المؤتمر المزمع عقده في القاهرة . حتى اعتبر هؤلاء أن هذا انتصاراً هاماً تحققه المقاومة ( لم يلاحظوا الانتصارات اليومية التي تحققها على أرض الواقع في الفلوجة و الرمادي و البصرة ….. لأن ما يهمهم هو صورة المقاومة عند شيراك !! ) ، فكتبوا أن المقاومة العراقية بدأت تحوز على اعتراف العالم و بالتالي بدأت تثبت وجودها . و هذه عودة للعبة المرايا القديمة و كأن المقاومة العراقية لا تكون موجودة إلا إذا اعترف بها الغرب و السيد جاك شيراك تحديداً !! و لا يكون لها أهمية إلا إذا طلب الغرب محاورتها !!
كما يمكننا ملاحظة هذا الافتتان المرضي بالغرب عبر توهم أنه هو كل العالم . فيقولون العالم و يعنون الغرب فقط مع أن الكتلة البشرية الأساسية و الصاعدة موجودة خارج هذا الغرب و تحديداً في جنوب شرق آسيا . فالهند و الصين تشكلان سوياً ثلث العالم !! فهل يهتم هؤلاء المثقفون لصورتنا لدى الهنود و الصينيين ؟!!!
لكن الأمة اكتسبت خبرة هائلة من التجارب السابقة و بدأت تتحرر من لعبة المرايا هذه فلم تعد تكترث كثيراً لصورتها لدى الغرب و بدأت تدرك أن الغرب مرآة مشوهة . لذلك لم تكترث المقاومة العراقية لدعوة شيراك . كما أنها تتابع تنفيذ برامجها و تكتيكاتها التي تراها ضرورية على أرض الواقع دون أن تغرق بالوهم القاتل الذي يحاول بعض الكتبة إدخاله بالرؤوس و هو :
– انتبهوا إلى صورتكم لدى الغرب .
أو حاولوا تحسين صورتكم في الغرب ، أو لا تفعلوا الأمر الفلاني لأنه يسيء إلى صورتكم في الغرب ، انتبهوا إلى الرأي العام العالمي ( هم يقصدون أيضاً الرأي العام الغربي ) .
و كأن علينا أن نضبط كل خطواتنا كي نحوز على رضا الغرب ، الذي لن يرضى عنا مهما فعلنا . اللهم إلا إذا خرجنا من جلودنا و قبلنا الصورة و الدور الذي يرسمه لنا . أي إذا استسلمنا للمصير الذي قرروه لنا سلفاً …………
الحضارة الغربية مفلسة و هي في طور الاحتضار أو الموت ، كما يقول جان جينيه . و ليس أمامنا من طريق للخلاص سوى أن نفك ارتباطنا بحضارة الغرب جملة و تفصيلاً و أن لا نكترث لصورتنا لديه لأنه مهما فعلنا فلن نحوز على رضاه ، كما ذكرنا . بل علينا أن نصوغ برامجنا و طرق تحركنا و نضالنا وفقاً لاحتياجات واقعنا لا وفقاً لما يقبله الغرب أو يرفضه ، معيارنا القيمي يجب أن يكون من داخل حضارتنا . كما أن احتياجات تحررنا و نهوضنا هي أهم من صورتنا لدى الغرب . و هذا ما تدركه جيداً المقاومة العراقية ، و الأجيال الجديدة من المقاومين الفلسطينيين .