صفحات الشعر

من قصائد أنطونيو غالا السورية

null
دمشق
وصلتُ أعمى، كالقديسِ بولس
– أو من كان ما يزال شاؤول، مثلي اليومَ، –
إلى الحيّ الذي ينفتح على باب توما،
وهبطتُ بين الحجارة…
هو كان يمضي آخذاً بيد الربّ،
وأنا بلا يدِكْ.
التفتُّ بعينيَّ، واثقاً بأنّني
سألقى عينيكْ
– أنتِ، يا من كنتِ حنانيايَ وملاكي –
ولم تكوني موجودةً، وأنا في عمايَ،
أتعثّرُ بزوايا الذكرى…
أتعثّرُ بالصباحاتِ الساطعة
وضوعِ الياسمين المشتعل،
الذي هو أنتِ، بالسعادة
التي هي ابتسامتُكِ.

ساقطاً عن جوادِ السعادةِ الأبرش
سألني الصوتُ الهادِرُ لماذا كنتُ ألاحِقُك.
‘حبّاً ـ أجبتُ- حبّاً ليس إلاّ’
وسقطتُ بوجهي على الغبار ولم أرَ بعدها.

قبر العربي (ابن عربي)

اجتزتُ الأغذيةَ الأرضية،
الفواكهَ والخضراواتِ الفوّاحةَ:
الحياة التي تصيرُ إليها كلُّ حياة
تمضي في طريق الحياة.
اجتزت بستانَكَ المُرسيَّ الخصيبَ
كي أصل القبرَ الذي فيه تستريح.
(وإنْ ليسَ كثيراً، فالشاميون يُضايقونك بطلباتهم المتكرّرة.)
وتذكّرتُ قصّتََكَ مع القطّةِ المسعورة،
التي لم تكن تحترم غير الشيخ…
بين الزُلَيْج الأزرق والنيليّ والفيروزيِّ، ، الجميلِ،
على السجاد المهترئ،
تحت ثريّاتِ البازارِ الزاهية،
والمراوحِ،
في حماية قبّة متواضعة مطلية،
ترقدُ، يا العربيُّ،
أنتَ الذي فاجأتَ ابنَ رشدٍ، الحكيمَ،
بابتسامة حبّك الواثقة.
أسمعُ الآن صدحَ المؤذّن،
الذي لا يكاد يهزّك،
لأنّك أدركتَ نهايةَ كلِّ النهايات:
يهوديّ ومسيحيّ ومسلم،
مؤمن رقيقٌ، مُتّبعٌ ديانة المُحبّ الوحيدة…
حتى أصص الزهر المحيطة بِتُرْبَتِكَ
أُُدَحْرِجُ الصدقةَ الصغيرة.
وبينما أنا خارج، يمدّ الحارسُ متقطّباً ، متذلّلاً ومتواطئاً
يدَهُ المتسخة باتجاه مظهري، مظهرِ الغريب:
الغريب، مثلك، يا العربيّ المرسيّ.
وفي مسجد محيي الدين
بين نيونات تخدشُ التيجانَ ورق الشوك الكبيرة، ساجِداً
أعبدُ إلهَ الحبِّ نفسَهُ الذي عبدتَ،
ولا أعبدُهُ وحدي
فأنتَ على مسافة منّي
عبدتَهُ أكثر.

قاسيون ليلاً

نهاراً تتسلّقُ المدينةُ
جبلَ قاسيون،
شبهَ ساهيةٍ،
ببيوتها بيوتِ الرمل على الرمل،
مثل عمامة بالية
لكنّ جمال ملايين الأنوار الزاحفة ليلاً
تاجٌ فريد.
الفقر، الذي تفضحه الشمسُ
يُحوّله ميداس القمر المكفهرّ
كنزاً برّاقاً.
لا الغوطة أكثر بريقاً
ولا أرضها أخصب.
الحياةُ التي تنبضُ في سفحِ الجبل
تُحدِث بأغمادها
هذا الغناءَ المتلألئَ والأخرسَ للحُباحِبِ الأخضر
والورودِ البيضاء والذهبيّة.
إنّها مثل حُشّ ٍ
من ألعابٍ نارية ضاجّةٍ،
جامدةٍ في ألقها،
ناهضةٍ في ذاتها،
راضيةٍ بثرائها الساهِد
مذهولةٍ به.
أُفكِّر بك، أيها الملاك، مبهوراً
بليل: كلّما اشتدّ حلكةً ازددتُ انبهاراً.

معلولا

المدن الميتة ُ ـ هل كقلبي-
لا تصلحُ أن تكون حتى مقالع؟.
أيّة حياة ممكنة مع ميّت؟
أو ربّما مُخطِئ أنا.
يا معلولا الآراميّة ُ المُتقلِّبة.
يا اللاذعةُ مثلَ قهوةٍ
يا المشبعةُ بالهال،
يا المتدثّرةُ بالجبل،
يا المتوَّجةُ بالصلبان،
واثقةٌ أنتِ برأسك الملتفت إلى الخلف أو إلى الداخل…
من أنّ العالمَ ينتهي في لغتك وواحتك،

‘تعلَّـقـتُ ليلى وهـي ذات ذؤابـةٍ ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهْمَ يا ليتَ أنّنا إلى اليومِ لم نكبر ولم تكبر البَهمُ’.

ألن تنتهي الصخورُ، التي تسقفك وتكلّلك بهالتها، من الانسلاخ أبداً؟
ألن ينزاحَ أبداً لونُ الرملِ الباهت عن تقاسيمك؟

‘ومع ذلك كلّه، يُداعبُ قوسُ قزحٍ نبعي؟’

في وحشةِ المساءِ
تنمو وردةٌ في حضنِكِ العقيم:
مخطئةٌ، آهٍ، مُخطِئةٌ، مثلك أنتِ، مثل شقوقك.
ما الذي تريدُ أن تقوله محاريبُك، مغائرُكِ، شقوقُ صخورِكِ،
حروقُك وندوبُك؟
من صلّى وأحبَّ فيها أو أمامها؟
ما فائدة التنحّي؟
هل الغيابُ طريقةٌ لإبعاد الموت؟

‘أتاني زماني بما أرتضي، فبالله، يا دهرُ لا تنقضي’.

مضت الشمسُ ولم تنتبهي،
ساحِبةً فوقكِ معطفَها القرمزي.
موشَّحَةَ الوجهِ تغفين، يا معلولا،
كما قبل قرون.
فلنتعلَّم، يا ملاكي.

صحراء

ظهيرة ويشتعلُ العالمُ.
في الصحراءِ، بجانبِ بئرٍ، امرأتان.
الأولى، تحملُ طفلةً بين ذراعيها؛
الأخرى، دلواً على رأسها.
ماذا تفعلان؟ مَنْ تنتظران؟
أين ستذهبان بالدلو والطفلة؟

لا سقفَ، لا ظلَّ، لا شيء.
لا سيّارة في الطريق اللامتناهي.
وأقربُ قطيع يبعدُ عشرة كيلومترات.
دارةٌ من جبال تُغْلِقُ الأفقَ القصيَّ
بشرفاتها المسوّرة .
رصينةٌ الحياةُ، غامضة،
لا تكادُ تكون أبداً روضةَ
وردٍ شاميّ.
لكن ما همّ إذا كنتِ موجودةً؟

من قاسيون

عند سفحِ الجبلِ الشاهِقِ
ترقدُ المدينةُ، مستسلمةً، مشتعلة.
تحت القمرِ، البدرِ،
– والعشاق يرونه دائماً بدراً-
تُسمع قُبُلاتٌ مُختَلَسةٌ وتنهُّدات.

موكبُ عرسٍ طنّان
يعبرُ الليل. والذين يتزوَّجون اليومَ
كانوا بالأمسِ هنا يتعانقون،
قد ينسون بعضَهم في الأسفل.
وأنا في أرض الحبّ هذه،
كما أنا عادةً وحيد.
أحدٌ يقول بينما هو يضم خصراً:
‘سينشد الشاعرُ جمالَ هذا الأُوارِ وهذه الساعة’.
ومع ذلك فالشاعرُ المتعبُ من الإنشادِ للأسماعِ الغريبة،
لا يستطيعُ أن يُقاوِمَ كلَّ هذا الكمال… ويتذكّر.
العبقُ والجداجدُ تجعلُ
الأرضَ تتنفَّس،
طليقةً وبعيدةً، حتى عن نفسها، كالشاعر.

تدمر

يحمي الأسدُ الغزالةَ
بين براثنِهِ الغليظة.
فتسندُ مطمئنَّةً
جسدَهَا الناعمَ إلى واحدٍ منها.
تهمسينَ لي ساهية: ‘هي ذا أخوّةُ الكون،
السابقة على الخطيئة الأولى’.
*
هنا كان كلُّ شيء.
كان كلُّ شيءٍ
قبل ألفِ سنةٍ من
أن يلعبَ الإنسانُ، مثل فتى شجاع، لعبةَ البعثِ
ويفشل من جديد ـ كما هو الحال دائماً.
*
أُفكِّرُ بهذا وأُبهَرُ
لأنّني أستطيعُ أن أراهُ من دون عينيكِ.
لو كنتِ، آهِ لو كنتِ،
لتهتُ على عمايَ في نظرَتِكِ الحلوةِ
وشفتيك، شفَتَيِّ الفاكهة.
*
العتبة التائهة قروناً،
لم تتحطّم بعد.
كيفَ يُمكِنُ للجمالِ أن يُصبحَ أطلالاً في سنواتٍ قليلة،
وتبقى أطلالُهُ بعدَهُ سليمة؟
تكفي لحظةٌ كي تنهارَ السماءُ:
كنتِ تنظرين إليّ
وفجأةً ما عدتِ تنظرين.
*
في وادي القبورِ هذا توجدُ بعدُ حياةٌ،
لأنّ أصحابَها آمنوا بِصناعِها يقيناً.
توجدُ حياة أكثر منّي بجانبك،
يا من أشتاقُ إليكِ بين هذه الأطلال،
لكنّني ما عدتُ أومن بِك.
*
لن ينبعثُ الكنكرُ في الحجر
كلَّ ربيع بعد الآن.
ولن يرفعَ شمراخه الخشنَ
أو يُطلقَ بذورَهُ منفجرةً نحوَ الشمس.
*
أزورُ مدفنَكِ
مرَّتَيْن في الأسبوعِ
لأضع لكِ فيه طعاماً،
آكلُهُ قليلاً فقليلاً،
فلا الموتى عادوا يأكلون،
ولا الأحياءُ الذين من الموتى يعيشون.
*
الصحراءُ، من هذا الباب
مثل ساحةٍ صغيرةٍ مرسومةٍ
لتمثيل مشهدٍ،
مسرحُهُ صحراء.
لتمثيله في فضاءٍ
مُفعمٍ بالمتعةِ والخضرة والماء.

*
ما الذي تعنيهِ الآنَ هذهِ الحجارةُ
الموشّاةُ كَحُلْيٍ
ما عادت تُقَدِّمُ شعائرَها لأحد؟
ما معنى حياتي
المكرّسة لكِ بكلّ إصرار؟
*
ألمسُ هذا الحجرَ
الذي نقشوا عليهِ رمّانةً وكوزَ صنوبرٍ،
كي يُباركني ويمنحني القوّة:
كما ألمسُ جسدَك. وأشعر بدفئه طازجاً وحارّاً في آنٍ معاً،
فأقبّلُهُ وأسندُ جبيني إليهِ،
وأبكي أخيراً عليهِ،
كما أبكي على جسدك.

*
ما الموتُ؟ مجرّدُ رحلةٍ طويلة.
حزينٌ الوداعُ، بلى، لكنّ العودةَ إلى الذراعين الحبيبين…

حلب ـ سورية

في بابِ القلعة الثالث،
في بابِ الإعلانات، رأيتُ عينيك.
نظرتا إليّ قبلَ ألفِ عامٍ
بقوّةِ كلّ المهزومين.
بقوّةِ صلاح الدين وجيوشه،
والمسيحيين، وعُطيل وتركيِّهِ،
بفرحةِ أنّهم أحياءٌ اليومَ، على الرغم من كلّ الموت…

عدتُ ورأيتُ ليلاً، في السهادِ، عَيْنَيْكِ،
وتحتهما كانت شفتاك تبتسمان.
وتحت شفتيك ابتسمتْ شفتاي.

انتحابُ أبي عبدِ الله الصغير على ضياع غرناطة

أناشيدُ النصارى
تُسمَعُ في الحمراء.
صهيلُ خيولٍ يُؤرِّقُ السلطانات.
يقتربونَ، إنَّهم يقترِبون…
يطرقُ الألمُ بيدهِ الحجريّةِ بابَ الخمر.
في باب العدالةِ تهبُطُ يدُ الألمِ إلى المفتاحِ،
فتفتحُ شيئاً فشيئاً قصوري.
ما الذي فعلناهُ؟
‘لا غالبَ إلاّ الله… لا غالبَ إلاّ الله’
هل ما قالوه لنا كذبٌ؟
نحنُ أيضاً كُنّا نحلَمُ: ‘إسبانيا’ الأندلس … على امتداد ثمانيةِ قرونٍ بقينا نُردِّدُ هذا الاسمَ: ‘إسبانيا’ الأندلس.
بصوتٍ كانَ في كلِّ مرَّةٍ أخفضَ…
سوف تُخْفي نجمةُ المُقرنصاتِ النصريَّةِ عنّا وجهَها،
وستمحوكِ شمسٌ،
أيَّتُها النجومُ الكسولةُ،
التي تكتبين قدَرَ الخاسِر.
يقتربونَ، إنَّهم يقتربون…
أيَّةُ ملِكاتٍ جديداتٍ سينحنينَ بجذوعِهنَّ في مشرف ليندراخ هذا؟
أيّةُ أقدامٍ، منتعلِةٍ من يدري كيف، سَتَطَأُ هذه القاعاتِ؟
أيّةُ أسماعٍ، ما اعتادت غيرَ صوتِ البارود، ستُصغي إلى موسيقى الحبِّ في نوافيرنا؟
لمن سيكبرُ الريحانُ؟ فالأقوياء لا يحتاجون إلى كلِّ هذه الرِّقَّةِ…
حوافِرُ خيولهم ستدوس الزهرَ الكَنْكَر دونَ أن تنظرَ إليها. في برج أبي الحجَّاجِ سيضعون مِمشطاً لملكةٍ صعبةِ الاسمِ، ولن يكونَ اسمُها عائشة، أيّ المحتشمة، ولا ثُريّا، أي نجمةَ الصبح. فوقَ شِعارِ بني الأحمرَ الوحيدِ ‘لا غالِبَ إلاّ الله’- سيكتبون هم شعارهم،
سيكتبون الفاءَ من فرناندو والألفِ من إيزابِل.
وعلى لونِ زُلَيْجِنا سيرسمون نيرَهُم وحزمةَ سهامهِم.
الأقوياءُ لا يحتاجون إلى كلِّ هذا الجمالِ: تكفيهمُ القوّة.
من كوَّاتِ مباخِرنا سيعملونَ محاريبِ لِقدِّيسيهِم.
في قصرِ العدالةِ سيبنون مُصلاّهم.
‘لا غالِبَ إلاّ الله’.
في جرن الميضأةِ سيضعون ماءً مُقدّساً.
يقتربون ، إنّهم يقتربون…
في الحمّامات الساخنةِ، حيثُ سُمِعَتْ موسيقى العازفين العميان،
وحيث تراخَتْ أجملُ الأجسامِ، ويتلوَّى البخارُ مثل مآزرِ الشفّ، وحيث تُطلُّ الشمسُ مُبتسِمَةً دون أن تدخلَ… سيُقيمون مخازنَ بارودِهم وقمحِهم،
وحيثُ كنّا سعداء ونُغنّي لن يكونوا هم إلاّ أقوياء.
وحيثُ كنّا أقوياءَ ولطفاءَ سيضعون هم حجارتهم.
والكتبُ التي تعلّمنا منها تاريخَ البشريّة سيُضرِمون هم فيها النيران.
في الأماكن التي أحببنا فيها الحياةَ، هُم سيموتون…
يقتربونَ، إنّهم يقتربون.
سيأتون بأزهار مختلفةٍ، لغاتٍ أخرى، عيونٍ أخرى، وطريقةٍ غريبة في تبادل الحبّ.
وفي الأماكن التي يرتاحُ فيها أسلافُنا ـ ‘لا غالبَ إلاّ الله’- سينمو العشبُ المهجور.
ستُدَنِّسُ النملةُ حشائشَ المرمر، التي لم يُقبّلها غير الشمس وغيرُ المطر.
ستُنْسى القاعةُ التي تطيَّبت فيها الأجسادُ الملكيّة.
‘لا غالب إلاّ الله’.
وفي أرضنا هذه، المشغولةِ والخصيبةِ والسعيدةِ سيُوارون هم موتاهم.
وستشهَد شلاّلاتُ المرمر مُندهِشةً مناظِرَ لم تُرَ من قبلُ ولن نُشارِك فيها.
سعيدٌ الزُّلَيْجُ، وسعيدٌ أرْزُ السقوفِ الأشقرُ، لأنّه باقٍ هنا في مكانه،
بينما سَنَنْحَلُ نحنُ شوقاً إليه.
والعالم سيكونُ قد بدّل أصحابَهُ نهائيّاً.
‘لا غالِب إلاّ الله؟
خدعني الآسُ والزهرُ. خدعني قلبُ غرناطةَ…
يقتربون، إنّهم يقتربون.
يصِلون، ها قد وصلوا.
ترجمة: رفعت عطفة

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى