صفحات ثقافية

فصل من كتاب ‘الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب’: كْلْمِتين يا مصر همّا يمكن آخر كْلْمِتين!

null
أمير العمري
‘وكنت أيضا أطمح من خلال ما كتبته من صفحات اتسعت فيما بعد لتصبح عددا من الفصول أو المحطات التي توقفت أمامها واحدة بعد أخرى، أن أقدم للقارىء جزءا من تاريخ الحركة الوطنية المصرية من خلال خصوصية ظاهرة الشيخ إمام- أحمد فؤاد نجم وعلاقتها بالحركة الجماهيرية الطلابية والشعبية في مصر، وأن أضع الظاهرة في إطار عصرها، وأناقش أبعادها ومنعرجاتها وما انتهت إليه اليوم.
وفي الصفحات التي سيطالعها القارىء هنا سيجد علاقة متلازمة بين الذاتي والموضوعي، وبين السياسي والفني، وبين الماضي والحاضر، وبين التأملات الشخصية والتحليل الذي يلزم نفسه بالبحث في الحقائق وتسيط الأضواء على بعض ما تجنب الكثيرون من قبل الاقتراب منه ربما تجنبا لما يمكن أن ينتج عنه من حرج.. بين الغناء كفنّ ٍ، وكتابة القصيدة الشعبية كشكل خاص من أشكال التعبير، وبين التحريض السياسي والهجاء والتعبير عن الغضب عبر ما أطلقت عليه ‘عصر الثورة والغضب’.
وفي سياق ‘التأملات’ ورد ذكر عشرات الأسماء لشخصيات لعبت دورا بارزا في مسار الحركة السياسية والثقافية في مصر، من طلاب في الجامعة تصدوا لقيادة حركة التعبير عن الرفض في عهد الرئيس أنور السادات في فترة من أكثر فترات الحياة السياسية المصرية سخونة فيما بين الحربين، أي بين حرب حزيران ( يونيو) 1967 وحرب تشرين الأول ( أكتوبر) 1973، ومثقفين تباينت مواقفهم خلال سنوات الاستقطاب الحاد بين اليمين واليسار، وبين الانحياز لحركة الشارع أو القيام بدور تصورونه إيجابيا، بالقرب من مواقع السلطة والنفوذ.
وبين هذا الجانب وذاك، وقف الشيخ إمام بقوته الخاصة في التعبير وعبقريته في الأداء، وصمد في وجه كل أشكال القمع والتجاهل والنكران والاستنكار والشجب، وصمد معه شاعره الأول الكبير أحمد فؤاد نجم، الذي زود تلك الظاهرة الخاصة التي لا تتكرر كثيرا في حياتنا، بوقودها المحرك من الأشعار التي لا تزال صامدة في وجه الزمن، برقتها وعنفها، وبقدرتها على إثارة الشجن وشحن النفوس بالغضب والثورة’.
من صنع من؟
والآن أتوقف أمام هذا السؤال الذي أصبح مطروحا في فترة ما في الثمانينيات من قبل الكثيرين، بعد أن ابتعد الشيخ إمام عن نجم وبدأ يغني لشعراء آخرين منهم، كما أشرت، الأبنودي الذي هجاه نجم في أكثر من قصيدة من قصائده وكان يعتبره ‘شاعر سلطة’.
والسؤال هو: من المسؤول عن بروز الظاهرة وإعطائها بريقها وخطورتها وأهميتها الكبيرة؟ هل كانت قصائد نجم هي التي صنعت شهرة وتأثير الشيخ إمام ولم يكن إمام من دونها يمكنه أن يحقق ما حققه؟ أم أن ألحان الشيخ إمام بموهبته العظيمة، وصوته القوي المميز وأدائه الفذ، هي التي أكسبت كلمات نجم قدرتها الهائلة على التأثير، وجعلتها تتردد على ألسنة الناس في أرجاء العالم العربي، وظلت حية حتى يومنا هذا؟
أنا شخصيا أميل إلى أن كلا منهما كان ضروريا بالنسبة للآخر، فقد كانا يكملان بعضهما بعضـاً، ومن دون نجم لم يكن يمكن للشيخ إمام بالطبع أن يحقق كل ما حققه. صحيح أنه لحن وغنى لشعراء آخرين بعد افتراقه عن نجم، إلا أن أغانيه التي ظلت محفورة في ذاكرتنا جميعا، ارتبطت أساسا، بأشعار نجم. ولكن الصحيح أيضا أن نجم لم يكن يمكن له أن يصل وينتشر وتصبح قصائده على كل لسان إلا بفضل الألحان العبقرية للشيخ إمام وصوته القوي المعبر كواحد من أعظم المؤدين للغناء في تاريخ الموسيقى العربية.
ربما لم يكن الشيخ إمام مطربا بارعا في الغناء بالطريقة التقليدية المعروفة، رغم قوة صوته وإمكانياته الصوتية العريضة، لكنه كان مغنيا عظيما لهذا النوع من الكلمات تحديدا، أي الأغنية السياسية والتحريضية والاجتماعية الساخرة التي انسجمت مع موسيقاه ومع طبيعة صوته وجنوحه الدائم إلى التفاعل مع السامعين، فالشيخ إمام لم يكن يغني لكي يستمع الآخرون، بل كان أحد أهدافه أن يجعل السامعين يندمجون معه في الغناء، ويرددون وراءه. وكانت تلك أجواء الغناء الجماهيري المفتوح في مدرجات الجامعة قبل أن يصدر السادات قرارا بإغلاق الجامعات المصرية أمام كل أشكال التعبير الثقافي والفني من خارج الجامعة في 1979. وكان الشيخ إمام يغني أيضا في الحفلات التي كان يقيمها حزب التجمع وقت أن كان حزبا معارضا، في زمن السادات، وفي التجمعات النقابية مثل حفل نقابة الصحافيين الحاشد عام 1976 الذي اعتقل إمام ونجم بعده مباشرة.
الشيخ إمام بهذا المعنى كان مغنيا ومنشدا جماهيريا عظيما، ولم يكن بالضرورة ‘مطربا’ رغم ما يحتويه غناؤه من طرب أصيل. وقد غنى أيضا الكثير من الأغاني العاطفية مثل ‘أنا اتوب عن حبك أنا’ التي كانت أول أغنية يلحنها ويغنيها من كلمات نجم بعد لقائهما الأول، ثم غنى ‘قيدوا شمعة’ على إيقاع الفالس الشهير، لكنه حوله من لحن راقص مرح كما هي عادة ‘الفالس’ إلى لحن حزين، شجي، فيه تطلع وحنين إلى الخروج من الظلام إلى النور، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام، أي للناس جميعا. وقد غنى أيضا أغنية جميلة من كلمات نجم، تكثف الكثير من المعاني من خلال الرموز البديعة هي أغنية ‘أتوب إزاي وانا أيوب.. رماني لوعدي والمكتوب’ وقد كتبها نجم في السجن وقت أن كانت تجري محاولات من طرف السلطة لتطويعه أو لعقد صفقة معه ‘يتوب’ بموجبها عما يكتبه، مقابل حصوله على الحرية والشهرة بعد ان تفتح أمامه الطرق إلى الإذاعة وأجهزة الإعلام الرسمية.
وقد غنى الشيخ إمام واحدة من أحلى القصائد التي كتبها نجم، هي قصيدة ‘أهيم شوقا’، التي كانت آخر تعاون بينهما قبل أن ينفصلا. ورغم أنها، في إطارها المباشر، أغنية غزل عاطفية إلا أن لها مثل معظم قصائد نجم، مدلولا سياسيا، فهي قصيدة غزل في الحبيبة صحيح، ولكن في مصر أيضا. أنظر مثلا إلى هذه الأبيات:
أهيم شوقا اعود شوقا
الى لماكي وسلسبيلي
يا سمرا ياللي الهوى رماني
وتُهت فيكي وضاع زماني
يحدفني بحرك لبرّ تاني
يجيبني شوقي أو تندهيلي
أهيم شوقا أعود شوقا
الى لماكي وسلسبيلي
هربت منك لقيتني فيكي
بعدت عنك قربت ليكي
سهرت وحدي اتونست بيكي
غلب حماري وتاه سبيلي
أهيم شوقا اعود شوقا
الى لماكي وسلسبيلي
وقد لحن الشيخ إمام على إيقاع ‘الفالس’ أيضا قصيدة ‘كلمتين لمصر’ لنجم، وهي قصيدة تبدو كما لو كان كاتبها يلقي آخر كلمتين عنده إلى محبوبته مصر قبل أن يغادر الحياة. وبرع الشيخ إمام بصوته القوي وأدائه المتميز، أيضا في غناء الأغاني التراثية مثل موشح ‘ملا الكاسات’ الذي يؤديه بطريقته الخاصة بشكل أجمل مما سمعته من أي مؤد أو فرقة من الفرق التي تؤدي هذا النوع من الغناء. كما أن له تسجيلات رائعة لموشحات أخرى من التراث مثل ‘يا غصن نقا’ و’يا جريح الغرام’ و’يا مليح اللما’ و’قوم في دجى الليل’ و’ياهلالا’ وغيرها.
العلاقة بين إمام ونجم كانت، في تصوري، علاقة بين توأم منسجم مع بعضه، فكريا وروحيا وفنيا، فقد كان كلاهما ينتميان إلى نفس العالم، إلى بسطاء الناس، ولا يستنكفان أن يعيشا حياة بسيطة متقشفة، يجدان أنها على نحو ما، شديدة الثراء، بسبب ما يحوطهما به جماهيرهما من الطلاب والعناصر الثائرة التي اعتبرت ‘ضمير الشعب’.
بالطبع ليس من الممكن القول إن الشيخ إمام كان رجلا مسيسا أو بالأحرى ‘مؤدلجا’ أي يختار انحيازه في موسيقاه وأغانيه إلى الجماهير البسيطة التي يعبر عن آلامها وإحباطاتها، استنادا إلى غطاء فكري نظري واضح، بل كان أقرب هنا إلى الروح الشعبية المباشرة، التي لا يشغلها فهم وتحليل نظرية ‘الصراع الطبقي’، بل التعبير بصدق وتدفق وجمال، عن الأمل في حياة أفضل، والتطلع إلى مجتمع يشيع فيه العدل، ويتقلص الظلم، يختفي فيه الطغيان والقمع، ويحصل البسطاء على حقوقهم ويستردون كرامتهم.
وكان نجم أيضا، رغم ثقافته ومعارفه وميله الواضح بلا أي شك، إلى اليسار السياسي، يشارك الشيخ إمام مشاعره. وأقول ‘مشاعره’ لأن نجم كشاعر، لم يكن مطلوبا منه أن يكون زعيما سياسيا، أو مفكرا يعمل بعقله من أجل تغيير الواقع، بل كان وظل دائما، شاعرا يسعى إلى التعبير الصادق عن روح امته وأملها في حياة أفضل، وكان يستخدم الصور الشعرية والكلمات، لكي ينقل أحاسيسه بل وغضبه الشديد أيضا على ما يجري من انتهاك لأحلام البسطاء في الواقع. هنا حدث التلاقي مع الشيخ إمام. ومن هنا كانت الظاهرة التي استمرت إلى حين تم ‘نفيها’ إلى ما وراء الحدود.
عبقرية الشيخ إمام
يعتبر البعض أن الشيخ إمام كان مجرد ‘مغني صالونات’، يقصدون بذلك صالونات المثقفين الذين كانوا يستضيفونه في مصر في السبعينيات، وهو رأي ظالم يتجاهل دور الشيخ إمام الجماهيري الكبير في الإضرابات والاعتصامات، داخل الجامعات، وفي الميادين العامة مثل ميدان التحرير في قلب القاهرة. صحيح أنني لم أسمع أن الشيخ إمام نزل إلى الريف بأغنية مثل ‘الطنبور’ مثلا، وهي من الأغاني العبقرية التي كتبها نجم وعكس فيها مأساة الفلاحين المصريين الذي يعيشون في سكون واستكانة منذ آلاف السنين، وعلى لسان فلاح مثلهم يخاطبهم ليقول لهم بطريقتهم في التفكير ومن منطقهم الخاص:
معدودة الخطاوي..
رايحة والا جاية..
ميهمكش خوفك
ع الدنيا الدنية..
قول الكلمة عالي..
بالصوت الملالي..
قول إن العدالة دين الإنسانية..
وإن كنت ناصح وفهمت المقالة.
فهمها يابني للي ما فاهمشي..
بسيطة..
كيف الدنيا لف ودور
يا طنبور..
هِم شوية خللي المية
تغطي البور
ولكن هل كان يمكن للشيخ إمام أن ينزل إلى الريف المصري في زمن القمع المخيف، وأن يغني للفلاحين في القرى؟
الإجابة ببساطة: مستحيل. لماذا؟ لأن هذا لكي يحدث ينبغي أن تكون الأرضية مهيأة له، أي أنه ليس من الممكن أن يحدث إلا في إطار حركة جماهيرية كبرى تصل إلى القرى والنجوع، لها قياداتها وكوادرها التي يمكنها تأمين الشيخ إمام وحمايته، ومن ناحية أخرى، وهي الأهم، يجب أن يكون الفلاحون أصلا قد وصلوا إلى تلك الحالة من ذلك ‘التأهب الثوري’ ولا أقول ‘الحالة الثورية’ حتى يمكنهم استقبال أغاني الشيخ إمام السياسية وفهمها تماما والتجاوب معها.
والواقع الذي كان، وربما لا يزال قائما حتى الآن، هو أنه لم تنجح أي قوة سياسية أيا كانت، من اختراق الريف المصري والتأثير فيه حتى الآن، منذ انهيار حزب الوفد على أيدي ضباط يوليو في 1952.
لقد أصبحت ظاهرة إمام – نجم ظاهرة قاصرة، ليس فقط على المدينة، بل ويمكن القول إنها كانت أيضا ظاهرة ‘قاهرية’ بمعنى ما، أي لم تغادر القاهرة إلى خارجها سوى في القليل النادر.
وربما لو كان الشيخ إمام قد ظهر أيضا قبل ظهور الإذاعة كما حدث مع سيد درويش، لكان من الممكن أن يكون له تأثير أكبر على الشارع المصري، لأن آليات الوصول للجمهور كانت ستختلف، وستكون مقبولة بشكل ما، ويمكن استخدامها. أما وقد جاء الشيخ إمام في عصر الإذاعات المتعددة التي أحكمت الحكومة المركزية قبضتها عليها، وجعلتها الوسيلة الرئيسية للدعاية، فقد أصبح من الصعب أن يصل الشيخ إمام إلى جمهوره الطبيعي الكبير في عموم البلاد إلا إذا أتيح له الغناء من خلال الإذاعة الرسمية أو التليفزيون، وهو ما لم يحدث بعد أن فشلت محاولة مدير إذاعة ‘صوت العرب’ محمد عروق احتواء و’توظيف’ الشيخ إمام ونجم في 1968 حسبما يروى كلاهما.
ومن الأغاني التي أداها الشيخ إمام هناك الكثير في رأيي، الذي أتصور أنه كان من الممكن أن يصل وأن يحقق نجاحا كبيرا وسط الجماهير العادية، في البيوت، والمصانع، والحقول، والحارات الشعبية.
هناك مثلا الأغنية الفولكولورية الشعبية القديمة المعروفة التي يتغنى بها المصريون في الريف منذ مئات السنين وهي أغنية ‘عطشان يا صبايا.. دلوني على السبيل’. لقد أخذها نجم وجعل كلماتها تدور في اتجاه آخر عكس الشائع تماما، ووضعها الشيخ إمام في سياق لحن مبدع أصيل يتمتع بحلاوته وجاذبيته لكنه يوقظ العقول والأذهان على حقيقة أن النيل لم يعد كما كان، وطعم الحياة اختلف بسبب الحالة المزرية التي يعيشها الناس في مجتمع ما بعد الهزيمة:
عطشان يا صبايا
وأنا عاشق ع السبيل..
على عكس ما يجري النيل
والنخل العالي مطاطي..
والجذع الواطي ذليل..
والريح العاكس كابس..
والريح العاطي بخيل..
والنسمة اتعكر لونها
من هم الناس يا خليل..
عطشان والنيل في بلدنا
والزرع أخضر وجميل..
وانا كنت امبارح خالي
واليوم ده صبحت عليل
عطشان ودوايا حبيبي
يسقيني العشق دليل
ودليل الحب عمايل
وكلام الحب قليل
وأنا كل ما اقول التوبة
تغويني المواويل
تتطرح في القلب جناين
تفقس فيها الزغاليل

وكلها بالطبع صور مألوفة، يعرفها الناس جميعا، يمكن التفاعل معها بيسر وسهولة.
ومن الناحية اللحنية والموسيقية، إذا كان الشيخ سيد مكاوي قد حقق كل ما حققه من نجاح وقد كان ‘تلميذا’ للشيخ إمام في وقت من الأوقات في بداية حياته وهو يتعلم العزف والغناء، فما بالك بالشيخ إمام نفسه إذا ما أتيحت له الفرصة للوصول إلى جمهوره الطبيعي، بغزارته في الإنتاج وقدرته الفذة على تلحين كلمات يصعب تصورها ملحونة ، بل وكانت لديه القدرة حتى على تلحين جدول الضرب ودليل التليفون إذا أراد، وهناك الكثير من الأمثلة لارتجالات الشيخ إمام اللحنية التي أدهشتني وأنا أستمع إليها.
وقد تمثلت عبقرية الشيخ إمام في قدرته على تلحين كل الأنواع الموسيقية والانتقال من لون إلى آخر، دون أن يفقد قدرته على الإمتاع. فقد لحن الأغنية السياسية والعاطفية والأغنية التحريضية والأغنية الشعبية والطقطوقة الساخرة وأغاني الأفراح والأعراس، وغنى التراثيات والموشحات القديمة كما قرأ القرآن مجودا كأحسن ما يكون. ولا شك أنه استفاد كثيرا من إجادته قراءة القرآن بسبب تكوينه الأساسي، وتمكن من الإلمام وهو الضرير الذي لا يرى، بالكثير من المعارف، عن طريق السمع والانصات الجيد لأحاديث زواره من المثقفين، وأيضا من علاقته الوثيقة بنجم.
وبمناسبة أغاني الأفراح علمت في أوائل الثمانينيات عندما عدت من الجزائر حيث كنت أقيم وأعمل لفترة، أن زميلنا الدكتور خليل فاضل، عندما تزوج أقام حفل زواجه في قاعة احتفالات استأجرها في شارع القصر العيني وكان الشيخ إمام هو الذي أحيا الحفل. وقد أحيا الشخ إمام بعد ذلك الكثير من حفلات زواج الأصدقاء. ومن أغاني الأفراح الشهيرة التي كان يغنيها الشيخ إمام ببراعة وسحر خاص أغنية ‘شوف الحكاية يا وله شوف الحكاية.. عشق الصبايا يا وله طول معايا’، و’ساعة العصاري يا نسايم’ وكلاهما من الفولكلور الشعبي بعد إعادة صياغته من جانب نجم، وهما أيضا من أوائل الأغنيات التي لحنها الشيخ إمام لنجم قبل أن يتجها إلى الأغاني السياسية.
وبعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 قدم نجم أغنية ‘دولا مين ودولا مين.. دولا عساكر مصريين’ للممثلة الراحلة سعاد حسني التي غنتها للإذاعة من تلحين كمال الطويل، إلا أن الشيخ إمام ظل أيضا يغنيها من تلحينه، في لحن مختلف بالطبع عن لحن الطويل.
ومن علامات عبقرية الشيخ إمام أيضا قدرته الهائلة على إحياء حفل كامل لأكثر من ثلاث ساعات وحده، كان يغني فيه أكثر من اثنتي عشرة أغنية، منها بعض الأغاني ‘الصعبة’ التي يمكنها أن تنهك أقوى المطربين مثل ‘الأرغول’ و’جيفارا مات’، وكان عادة ما يختتم حفلاته أو سهراته الغنائية بالأغنية الأخيرة التي تعد قمة في الجمال والتحريض في آن واحد.
ولعل الشيخ إمام كان أيضا من أمهر العازفين على آلة العود، وكان قد تعلم العزف عليه على يدي الشيخ درويش الحريري أحد كبار علماء الموسيقى في قاهرة الثلاثينيات، وكان الحريري هو الذي علمه الموسيقى بعد أن استمع إليه يؤدي بعض الأدوار وأعجبه صوته وأداؤه. وارتبط الشيخ إمام بعلاقة قوية أيضا مع الشيخ زكريا أحمد والشيخ محمود صبح. هذه الخلفية الموسيقة والغنائية واللحنية القوية ساعدت في جعل الشيخ إمام يصبح قادرا على العزف على العود والغناء لساعات طويلة بمفرده، ومن دون الاستعانة بفرقة موسيقية، بل ومن دون حتى توفر الشروط الأولية الأساسية التي يجب توفرها على خشبة مسرح للأداء فقد كان يغني من فوق منصات مدرجات الجامعة، أو وسط المساجين في السجن، أو في الميادين العامة، أو النقابات والتجمعات. ورغم ذلك كان الشيخ إمام يتمتع بالقدرة على الاستمرار في الغناء بمهارة حتى بعد أن تجاوز الستين من عمره (توفي عن 77 عاما).
وعرف عن الشيخ إمام ايضا انه كان يرتجل كثيرا أثناء الغناء، أي يخرج عن اللحن الأصلي الذي وضعه هو، ويبتكر في الموال والتلوين في الأداء. ويمكن القول إنه أصبح للكثير من أغاني الشيخ إمام المعروفة أكثر من ‘طريقة’ في الأداء، حتى لا نقول أكثر من لحن. وكان هذا أحيانا يسبب الحيرة والارتباك للذين اعتادوا أن يرددوا خلفه. إلا أنه كان يجد في هذا التنويع متعة خاصة، ولعله كان ينشد مفاجأة جمهوره بطريقة جديدة ومختلفة لأداء الأغنية نفسها، أو كان يجد في هذا نوعا من التحدي الفني الذي يشبع طموحه الشخصي.
‘ ناقد من مصر يقيم في لندن وهذا فصل من كتاب يصدر قريبا عن دار مدبولي في القاهرة
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى