صفحات ثقافية

شيطان الأدب

null
عباس بيضون
«أدباء أمام المحاكم» كتاب جماعي يتناول 4 قرون من الأدب الألماني. لن نعرف من قراءته تاريخ الرقابات الألمانية فحسب بل إن هذه القراءة، ستضيف كثيراً إلى معرفتنا بالأدب الألماني. قراءتنا لغوته وهولدرلين وريلكه وتراكل وبن وشيلر لا يتيح لنا أن نعرف مقدار الانشغال السياسي لهذا الأدب. ومن قراءة «أدباء أمام المحاكم» نفهم كم كانت السياسة والنضال السياسي المباشر والكتابة السياسية المباشرة أساساً في هذا الأدب، حمل الأدباء الألمان عبر العصور على عاتقهم مسؤولية سياسية. لم يكن بريخت ولا غونتر غراس ولا اتسنبرغر استثناءات في هذا الأدب. لقد كانوا في الصميم منه وواصلوا تقاليد راسخة فيه.
تاريخ الرقابة هل ينفصل عن تاريخ الأدب نفسه. أليس وجهاً من وجوهه، ألا يمكننا أن نؤرخ للأدب عبر الرقابة وهل نتصور الأدب غير معني بالرقابة. بعض أدبنا هو من هذا القبيل. هل نتصور سعيد عقل في المحكمة مثلاً. لكن جبران حوكم والريحاني حوكم ومارون عبود حوكم والسيدة مي زيادة وضعت في مصح عقلي وليلى بعلبكي حوكمت، لا بد أن الأدب طاش ونزف ولأمر ما لا تناسبه القيم الراسخة، لأمر ما لا يستطيع أن يقبل السياسة والدين والأخلاق على علاتها، مع ان هذه جميعها أساس الاستقرار والتوازن والمنعة، وكل زعيم سياسي ومرجع ديني وداعيه أخلاقية في وسعه أن يثبت أنها حصن الأمة وأمانها. الأدب في قراراته، لنقل، غير متزن وغير عاقل وغير رصين. الاتزان والتعقل والرصانة تنشئ بسهولة عائلات وأعماراً رابحة ومؤسسات وربما غير ذلك. اما الأدب فمتهور وجامح ومتطرف وطائش ويمكن لأي كان أن يحاكمه على هذا الأساس.
كان من شطط الأدب الألماني السياسي التلميح الساخر للقيصر والنيل من الوطنيات والحروب التي هي مجال الوطنية، ومن شطط الأدب الألماني السياسي السخرية من القوة الألمانية والأمة الألمانية. هذا كثير على أمة في اعتداد الأمة الألمانية ومن يقيم به يتحدى الأمة لا الشرطة والدولة فحسب. من شطط الأدب ضد الدين، السخرية من المسيحية ومن المسيح. وسخرية كهذه لا تطال المؤسسة الدينية وانما تتحدى الشعب المؤمن نفسه والأمة التي ترى الدين أحياناً من أسسها ومن سماتها القومية، وقد قيل للمجوفين ان الأمة الألمانية مسيحية ومن يجدف على المسيحية يجدّف عليها. ثم هناك الجنس وفي بال كثيرين ان الكبت قد يكون من قيم الأمة وأن الأمة الألمانية وغير الألمانية عفيفة بالطبع. هكذا نجد أن بين الدين والسياسة والأخلاق الجنسية أدعية متصلة، وأن ثمة من يدمجها جميعها فلا تعرف حين تتناول واحدة أنك تواجه الثلاثة. وأن الوطنية والإيمان الديني والكبت الجنسي قد تبرز لك بروز رجل واحد. لكن الأدب هكذا. لا يحيا إلا في الغد ولا يدري أي شر يحمله وأي شيطان يقوده إلى التهلكة، وأي دافع خبيث يسوقه إلى أن يكون، واعيا او غير واع، ضد شعبه وإلهه وسعادته وخيره.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى