صناعة الثقافة
أماني العاقل
إنّ تحديد ابن خلدون لأطوار الدولة في نظريته، لم يكن توصيفاً سياسياً بقدر ما كان توصيفاً ثقافيّاً واجتماعياً، فالنظريّة تقول بعهد البداوة والخشونة، ثم الازدهار فتوطيد الحكم، ثمّ الترف الذي يطيح بالدولة على أيدي قومٍ أكثر خشونة وبداوة.
فالبداوة رمزٌ للقوةِ والسلطةِ والفعلِ في النموذج الإدراكي لنظريّة ابن خلدون، ولعلّ هذه النظرة بقيت مستمرّة في الذاكرة الثقافية للأبناء، ونجدها اليوم في عودة مغنيّات الثقافة البدويّة والمسلسلات البدويّة والخيام والجمال!!
فقد يكون التوجّه نحو البدائيّة في المظهر والنأي عنها في الأخلاق هو رغبة لا شعورية للتماهي مع نموذج ابن خلدون الإدراكي الذي ربط بين البداوة والقوّة، وقد تكون هذه الفكرة أكثر قرباً إلى الطرافة من النهج الاستقرائي العلمي، فربّما النظريّة مقلوبة، والصلة شبه مفقودة بين قشور البداوة اليوم وابن خلدون الأمس !!
لكنّ الذي ينبغي أن يندرج في مخبر التحليل الثقافي والاجتماعي هو سؤال واحد، لماذا هذا الإقبال على (إحياء) الثقافة البدائية في بلدان العالم؟ والثقافة البدويّة في مظهرها وعزلها عن أخلاقها في العالم العربي خاصّة؟ ولصالح من تقفز مغنّيات مجتمع القاع على شاشات فضائية متخصصة بهذا النموذج الغنائي الذي يشيع صوت الطبول وهزّ النهود؟ وما سرّ غياب قناة واحدة ـ بين ازدحام هذه القنوات الغنائيّة ـ متخصصة ببثّ موسيقا الناي والعود العربي أو المقطوعات الموسيقية العالميّة ، تلك الموسيقـا التي وصفها شوبنهاور بأنها أعلى درجات الفلسفة.
ما الذي يجعل دُورَ الأزياء العالمية تطرح نموذج التحيّز إلى تنافر الألوان والحلي التي قوامها الخشب والمعادن الرخيصة، هل هو التوجّه للإطاحة بارستقراطية بريق اللؤلؤ والماس؟
ما بين زمانية الموسيقا البدائية ومكانيّة (ديكور) بعض المطاعم والفنادق الذي يندرج تحت التسويق للنموذج الفنّي البدائي و القبلي في اللوحات والألوان، تبرز ثقافة عالمية تعود بنا لحالة (نكوص) هستيريّ نحو الوراء، فعندما ذهب المستعمرون البيض إلى مجاهل إفريقيا وجدوا أنّ العري حالة بدائية، وبهيميّة وبدؤوا بواجبهم لتعليم الناس تغطية أجسادهم، وكانت نساء العرق الأبيض حريصات على تغطية أجسادهنّ، ومع ستينيّات القرن الماضي بدأت حالة من العودة إلى نموذج العري تقتحم الإنسان الغربي حتى وصلوا إلى مستعمرات العري!!
ونجد اليوم مجتمعاتنا العربية في حالة استهلاك ثقافي يقبل على نموذج التنافر وعدم الانسجام أيضاً، بل وربما يصنع نماذج جديدة تقودها فضائيات القاع ، هذا الاستهلاك ليس ظاهرةً ذوقيّة تمرّ بقدر ما هو فعلٌ ذوقي تقوده ثقافة التضاد العالمية، وهذا الفعل يوسم بالفوضى أولاً، وعدم إدراك المنابع الثقافيّة التي نأخذ عنها ثانياً، فلماذا لا تعود مطرّزات العصر العبّاسي وزخارف الخط العربي المذهّبة والفضيّة على الستائر والملابس والأواني؟ لماذا ثقافة التنافر والتضاد بالتحديد؟
هل هو الاستمرار في الانصهار في بوتقة العولمة دون وعي إلى ماذا نعود نحن الذين نخطو كل خطوة إلى الأمام بشق الأنفس وبما يقدّر بمئة عام؟
فلعلّ جدليّة العلاقة بين الوعي الجمالي من جهة والوعي الاجتماعي الذي يشمل الأخلاقي والديني والاقتصاديّ والسياسيّ، من جهة أخرى تقتضي اليوم انقلاباً في آلية الاكتساب والتفاعل. فقد كان الوعي الاجتماعي بنية الهرم الأساسية التي يبنى عليها الوعي الجمالي، في حين نجد الوعي الجمالي اليوم هو الصانع الأول للوعي الاجتماعي، فإذا كانت فضائيات مجتمع القاع هي النموذج الجمالي المستهلك للسواد الأعظم من الثقافتين العالمة وغير العالمة، فإن البنية الاجتماعية والأخلاقية لهذه الفئات ستتلوّن وفق ثقافة القاع وبهذا يكون مجتمع القاع البدائي هو المصنّع والمسوّق للذائقة الجمالية بوعيٍ من المتلقي أو غير وعيٍ منه، فمهما احتقرتَ غانية ما، سيردد اللاوعي لديك ما تردده هي، وتسمعه أنت طوال اليوم من شرفات الجيران، وسيارة الأجرة (التكسي)، والمطاعم والأسواق والشوارع، فأنت محكوم بثقافة الشارع مهما نأيت عنها.
فما يحكمنا اليوم هو فوضى الاستقبال، وعبثيّة إعادة التصنيع، هناك صناعة ثقافية تدعمها بعض الفضائيات ومن ورائها أيادٍ خفيّة لإيقاظ اللاوعي الجمعي والبدائي من خلال الموسيقا والفن والأغنية، ألا يقول المثل (اجعلني أصنع أغنية الشعب أعطك الشعب الذي تريد)!.
باحثة من سورية
القدس العربي