صبحي حديديصفحات العالم

الإتحاد الأوروبي: بعيدا عن أوروبا… قريبا من أمريكا

null
صبحي حديدي
مع تعيين رئيس الوزراء البلجيكي الأسبق هيرمان فان رومبي رئيساً للمجلس الأوروبي، والبريطانية كاثرين أشتون ممثلة عليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للمجلس، يكون الإتحاد الأوروبي قد خطا أولى الخطوات العملية نحو الالتفاف على مشروع الدستور الأوروبي الموحّد (الذي كانت الـ’لا’ الفرنسية قد قبرته إلى الأبد في التصويت الشعبي لسنة 2005)، واستبداله باتفاقية لشبونة.
وكان بيروقراطيو الإتحاد الأوروبي، وغلاة المدافعين عن أوروبا ليبرالية طليقة معولَمة غير مقيّدة بدستور موحّد معقد، قد تنفسوا الصعداء حين صوّتت إرلندا، قبل أيام، لصالح معاهدة لشبونة، بعد ان كانت قد رفضتها في استفتاء حزيران (يونيو) 2008، فأدخلت جميع مؤسسات الإتحاد في وضع عالق لم يكن له أيّ منفذ سوى إعادة التصويت.
والحال أنّ اتفاقية لشبونة تستبدل جميع الاتفاقيات السابقة التي أتاحت ولادة وتطوّر فكرة الإتحاد الأوروبي، خاصة روما 1957 وماستريخت 1992. بيد أنّ الأهمّ، والأخطر في الواقع، هو أنّ الاتفاقية تلغي مبدأ استفتاء الشعوب الأوروبية حول شؤون شتى، اجتماعية واقتصادية وسياسية مصيرية، تخصّ حاضرها ومستقبلها، وذلك عن طريق إلغاء الدستور الموحّد الذي يخضع للإقرار الشعبي المباشر، وليس المصادقة البسيطة في البرلمانات أو الحكومات. وهكذا فإنّ الاتفاقية تحتفظ بكلّ ما انطوى عليه مشروع الدستور الموحّد من تكريس للسياسات النيو ـ ليبرالية المناهضة عموماً لغالبية المكاسب الاجتماعية الأساسية، وتشدّد قبضة المصرف المركزي الأوروبي الموحّد على اقتصادات الإتحاد، وتمنح المؤسسات البيروقراطية ورئيس المجلس المزيد من التفويضات والصلاحيات الكفيلة بتقزيم دور البرلمان الأوروبي…
وقد يتفق معظم الذين يتذكرون النقاشات الفرنسية الساخنة حول الحجاب في المؤسسة التعليمية، مثل النقاشات الراهنة حول البرقع، أنّ جوهرها الصحّي كان يدور حول ضرورة صيانة مبدأ العلمانية، وكان الجوهر العليل منها يمسخ العلمانية إلى ما هو أكثر جاهلية من عبادة عجل ذهبي. ومعظم هؤلاء الذين يتذكرون قد تصيبهم دهشة بالغة إذا علموا أنّ اتفاقية لشبونة، على شاكلة مشروع الدستور الأوروبي الموحد القديم، تخلو تماماً (ونقصد بالمعنى الحرفي: تماماً!) من مفردة العلمانية ذاتها. ولعلّ الدهشة ينبغي أن تنقلب إلى صدمة إذا اتضح أنّ بديل الدستور يخلو من أية إشارة صريحة إلى أنّ العلمانية، وهي خيار حقوقي وفكري وسلوكي وأخلاقي في نهاية المطاف، مُصانة ضدّ أيّ ضيم؛ سواء من حيث الشكل (حجاباً كان أم قلنسوة أم صليباً)، أو المحتوى العميق، الذي يخصّ فصل الدين عن الدولة!
في المقابل، لا تبدو النصوص الجديدة وكأنها تتحرّج من اعتماد هوية سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية لأوروبا الموحدة، تضمنها بنود تشريعية صارمة تُلزم الأمم القابلة بهذه الاتفاقية على اعتناق الفلسفة النيو ـ ليبرالية، واعتمادها حصراً في تسيير مختلف المؤسسات العامة أو الخاصة. أكثر من هذا، ثمة بنود تهدّد، دون أيّ لبس، بإنزال العقوبات بالأمم التي تخرق هذا ‘الإجماع’، وتسمح للدولة بالتدخل في شؤون اقتصادية أو خدماتية أو تربوية أو ثقافية، الأمر الذي يهدّد بتكبيل المبادرة الفردية، وكسر حرّية التنافس المطلقة في السوق.
ثمة، من جانب آخر، بنود تشكّل ردّة صريحة، وبالغة الخطورة في الواقع، عن مكاسب كبرى وحقوق اجتماعية أساساً، فضلاً عن كونها سياسية ـ اقتصادية أيضاً، أنجزتها الشعوب الأوروبية بدرجات مختلفة وعبر نضالات شرسة كان بعضها دامياً مأساوياً. وفي فرنسا تحديداً سوف تبدو هذه الردّة عنيفة وفاضحة، تمسّ ‘ثقافة’ عريقة تتكامل فيها مختلف أنماط التعاضد الاجتماعي، وقد راكمها الشارع الفرنسي وقواه السياسية وهيئاته النقابية طيلة قرون، وليس على امتداد بضعة عقود.
بين هذه، مثلاً، مسألة القطاع العام وتقليص أو حجب التمويل الحكومي (أي الشعبي في عبارة أخرى: ذاك الذي يموّله المواطن عن طريق الضرائب المباشرة وغير المباشرة)، عن المشاريع والمؤسسات والخدمات التي تمسّ حياة المواطن اليومية، كالتأمين الصحي والنقل والمواصلات والبريد والهاتف والكهرباء. صحيح أنّ البنود الجديدة تستبدل تعابير ‘الخدمة العامة’ أو ‘القطاع العامّ’ أو ‘قطاع الدولة’ بمصطلح جديد واحد هو ‘الخدمات ذات النفع الإقتصادي العامّ’، إلا أنّ المحتوى الملموس ليس مراوغاً غائماً أو غائباً فحسب، بل إنّ الخدمات هذه تخضع بدورها لمبدأ حقّ التنافس، الأمر الذي يعني عملياً عجزها عن منافسة الإحتكارات العملاقة.
ولقد زاد الطين بلّة مشروع القانون الأوروبي المعروف باسم المفوّض الأوروبي السابق والليبرالي الهولندي الشهير فريتس بولكشتاين، والذي يبشّر المجتمعات الأوروبية بأنّ جميع مؤسسات القطاع العام في جميع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي سوف تُطرح على السوق كبضاعة، أي سوف تدخل بالضبط في ذلك النوع من المنافسة غير المتكافئة مع الإحتكارات العملاقة. الأمر، بالطبع، لن يقتصر على هذا، لأنه ببساطة سوف يعني انحطاط الكثير من تلك الخدمات إذا ما بيعت للقطاع الخاصّ (كما باتت عليه حال السكك الحديدية في بريطانيا جرّاء سياسة مماثلة اعتمدتها مارغريت ثاتشر، على سبيل المثال الأبرز)، فضلاً عن ارتفاع أسعار خدماتها على نحو لا تتحكم به سوى البورصات.
هنالك أيضاً مسألة ‘الخصوصية الثقافية’ لكلّ أمّة، حيث تبدو البنود قاطعة في النصّ على أنّ الإتحاد الأوروبي سوف ‘يسهم في التطوّر المتناسق للتجارة الدولية، وفي الإلغاء التدريجي للعوائق أمام المبادلات الدولية وأمام الإستثمارات الأجنبية المباشرة’. وغنيّ عن التذكير أنّ مسألة الخصوصية الثقافية كانت قد أثارت الكثير من الشجون والسخط والثورة ضدّ منظمة التجارة الدولية، وكانت وتظلّ تعني الحقّ في مقاومة الهيمنة الأمريكية من جهة، وكبح جماح الجوانب الوحشية في العولمة من جهة ثانية. ولهذا فإنّ المقاربة التي يعتمدها ليبراليو أوروبا الجدد إنما تصبّ المياه، كلّ المياه، في الطواحين الأمريكية وتلك الطواحين الأخرى التي تديرها منظمة التجارة الدولية.
كذلك فإنّ اتفاقية لشبونة تحوّل جغرافية الإتحاد الأوروبي إلى سوق بلا حدود، مفتوحة تماماً أمام الأعمال ورأس المال والمبادلات؛ ولكنه يحوّلها، في الآن ذاته، إلى قلعة حصينة مغلقة تماماً أمام المهاجرين أو الأجانب. وليس صحيحاً أنّ الحقّ في التنقّل بين الدول الأعضاء يشمل بصفة آلية جميع الأجانب المقيمين في أوروبا بصفة قانونية، ولعلّنا سنشهد المزيد من التدهور في حقوق هؤلاء. فمن جهة أولى تشدّد البنود على سياسة صارمة في منح تأشيرات الدخول، وتضع المزيد من العراقيل الإدارية أمام إجراءات منحها؛ كما تقيم، من جهة ثانية، مناطق اعتقال جماعية خارج حدود الإتحاد، وتخفّف في الآن ذاته الرقابة القضائية على إجراءات طرد وترحيل المهاجرين؛ وتسقط الكثير من حقوق المواطنة الأساسية عن المقيمين شرعاً في دول الإتحاد الأوروبي، من غير الحاصلين على جنسية أوروبية.
الأمر، في حصيلته الإجمالية، أبعد تأثيراً على حياة الشعوب (داخل أوروبا، ولكن خارجها أيضاً للتذكير!) من أن يُترك هكذا، حيث تتمّ تسوية المسائل الحاسمة في ميزان الصفقات البيروقراطية، والمحاور الثنائية أو الثلاثية. والأرجح أنّ المواطن الأوروبي، والفرنسي تحديداً لأنّ تصويته السلبي كان قد قلب المعادلات رأساً على عقب، يدرك أنّ عواقب هذه المواثيق أخطر بما لا يُقاس من أيّ قرارات أخرى جوهرية تخصّ بناء الإتحاد الأوروبي، من التوسيع إلى اعتماد العملة الموحدة، مروراً بفتح جولات التفاوض حول انضمام تركيا.
وفي عام 1999 اتخذت قمّة بروكسيل لزعماء الإتحاد الأوروبي ما عُرف آنذاك بـ ‘القرار التاريخي’ الذي يطلق اليورو عملة موحّدة لأكثر من 300 مليون مواطن أوروبي، في 21 دولة طُلب منها أن تتنازل ـ بالتراضي السلمي وليس بالإكراه ـ عن مبدأ أساسي في السيادة هو العملة الوطنية، وما يقترن بالأمر من تنازل عن استقلالية التخطيط والتشريع في ميادين مالية ومصرفية بالغة الأهمية. وكان ذلك القرار يستحق صفة الحدث التاريخي بالفعل، ليس لأنه فريد ونادر ولا يتكرّر مراراً في حياة الأمم فحسب، بل لأنه كان يطلق ‘القارّة العجوز أوروبا’ في معمعة العولمة أولاً؛ ويطلقها، ثانياً، في شروط التنافس الشريف، أو التراضي المساوم، أو التصارع الشرس (غير الشريف عموماً) مع كتل أخرى في عالم العولمة: مع الولايات المتحدة، واليابان، والصين، وما تبقّى من ‘النمور الآسيوية’ الجريحة.
بعد ثلاث سنوات بات القرار حقيقة مادية، ومنذ الساعات الأولى من فجر السنة الجديدة سارع الأوروبيون في فنلندا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ واليونان والنمسا وإسبانيا والبرتغال وإرلندة إلى حيازة هذه الأوراق والقطع النقدية الجديدة التي حلّت محلّ عملات وطنية عريقة (مثل الدراخما اليونانية) يعود عمر بعضها إلى قرون خلت. ولقد تلهفّوا على تحسّسها بلهفة كانت تنهض على مزيج من الفضول، والقبول بالأمر الواقع، والقلق من احتمالات المستقبل. أقلّ الأوروبيين تشاؤماً أخذ يردّد: جميل أن يستخدم المرء عملة واحدة، أينما حلّ وارتحل في اثنتي عشرة دولة أوروبية؛ وأمّا أكثرهم تفاؤلاً (كما كانت حال رئيس الإتحاد الأوروبي آنذاك، رومانو برودي، مثلاً) فإنه قال: سوف نصبح أصحاب العملة الأعظم في العالم، الأقوى من الدولار والينّ والباوند.
والحال أنّ مؤشرات إطلاق اليورو في أسواق البورصة، أي منذ عام 1998 وقبل اعتماده عملة موحّدة، لا تدلّ على أنّه ربح بعض الرهان مع الدولار الأمريكي، رغم ارتفاع أسعاره بالطبع. المنطق الاقتصادي الصارم يبرهن على العكس: أنّ الدولار، عملة المركز الرأسمالي الأوّل، ربح الرهان ضدّ المراكز الرأسمالية الأخرى، كلّ الرهان أو معظمه، حتى إشعار آخر لا يبدو قريباً البتة. لقد بدأ اليورو بسعر صرف 1.17 دولار أمريكي، ثمّ مرّ بمرحلة لم تكن قيمته تتجاوز 80 سنتاً، ثمّ راوح طويلاً وهو يسعى إلى تجاوز عتبة الـ 90 سنتاً، قبل أن يقفز فوق الدولار في معدّلات متصاعدة لا تستقيم مع منطق البورصة السليم.
ولا يخفى على أحد أنّ إطلاق اليورو تزامن مع هيمنة أمريكية شاملة، أو تكاد، على مقدّرات الكون: بالمعنى السياسي المحض، ثمّ بمعنى السياسة بوصفها اقتصاداً مكثفاً. صحيح أنّ جميع الدول الأوروبية تعتبر معركة واشنطن ضدّ الإرهاب معركتها أيضاً، والبعض يذهب إلى حدّ القول إنّ البيت الأبيض يخوض الحرب بالنيابة عن ‘العالم الحرّ’ بأسره. إلا أنّ طبائع حروب التبادل تظلّ صحيحة أيضاً، وليس من السهل أن تكتفي واشنطن بغنائم سياسية من وراء الحرب، وتترك المغانم الاقتصادية لأهل اليورو. في عبارة أخرى، اليورو غائب سياسياً عن مناطق ساخنة مثل الشرق الأوسط وأفغانستان وشبه القارّة الهندية والصين والبرازيل، وهذا الغياب السياسي له أثمان اقتصادية دون ريب، طال أجلها أم قصر.
وفي مطلع كانون الأول (ديسمبر) القادم، حين تدخل اتفاقية لشبونة حيّز التطبيق الفعلي، سوف يخطو الإتحاد الأوروبي خطوة جديدة، مناهضة للقرار الشعبي الأوروبي؛ هي في الآن ذاته خطوة أخرى جديدة، للإنضواء أكثر تحت نير القرار الأمريكي!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى