ماذا تربح أميركا إن خسرت فلسطين؟!
ميشيل كيلو
في خطاب القاهرة، قدم الرئيس الامريكي بيانا يفهم منه، وإن بشيء من الغموض والمواربة، أنه يعتبر قضية فلسطين أحد مفاتيح أبواب العالمين العربي والإسلامي. وأكد أن حل القضية الفلسطينية سيكون بين أولويات سياسته، وانه يرى فيه جزءا مهما من الحوار الامريكي مع الإسلام، ومن المصالحة بين الحضارة الغربية وحضارة المسلمين.
يومئذ، قلنا: سيكون لدى الرئيس الامريكي فرصة، إن نجح في تخطي العقبة الإسرائيلية والضعف الامريكي. واليوم، يبدو أن الفرصة زالت بصورة تكاد تكون تامة، بسبب قدرة العقبة الإسرائيلية على المغالبة داخل وخارج أمريكا، وتعاظم الضعف الامريكي، بين البحر المتوسط وجبال هندكوش وباكستان.
ومع أن كثيرا من الجهد سيبذل خلال الفترة القادمة، في واشنطن والعالم العربي على حد سواء، لتبرير التراجع الامريكي عن مضمون خطاب القاهرة، ولإيجاد مسوغات تعلل إخفاق أوباما في تحقيق وعوده، فإن من المرجح أن يكون تراجع أمريكا نهائيا، وأن يعود بسياسة أمريكا إلى الأسس التقليدية التي قامت تاريخيا عليها. ومن المؤكد كذلك أن التراجع سيكلف أمريكا الكثير، ليس فقط لان الوعد صدر عن رجل بدا لأول وهلة مختلفا عن بقية رؤساء أمريكا المعاصرين، بل لأنه صدر كذلك في لحظة احتدام شديد للصراع بين واشنطن وبين العالم الإسلامي، في وقت بدا فيه جليا تعثر حروبها ضد المسلمين، وضياع سيطرتها أكثر فأكثر على مجريات الأحداث، مع تصاعد زخم المقاومة الإسلامية وتوطد ثقة المسلمين بأنفسهم وبقدرتهم على الانتصار، ووجود أدلة كثيرة تؤكد أن حسم معركة أمريكا ضدهم ليس قريبا أو سهلا، وأن قوتهم تتعاظم وانخراطهم في المعركة يتزايد، في حين تتناقص، بالمقابل، قوتها وتتزايد رغبتها في الخروج من المعركة، ويتشكل داخلها رأي عام معارض لسياساتها حيال المسلمين، ويظهر الإنهاك على شعبها، الغارق في أزمة اقتصادية يعطيها الأولية من اهتماماته، والذي يعلم أن حروب بلاده الخارجية تعمق هذه الأزمة وتعززها بدل أن تجعل حلها في متناول الأيدي، أو خلال وقت قصير.
المشكلة أن أمريكا لم تفهم، بعد نيف ومائة عام من نشوب الصراع على فلسطين، أن الحركة الصهيونية والقسم الأكبر من دول العالم وقواه الكبرى والعظمى، التي ساندتها بلا تحفظ ومكنتها من الاستيلاء على القسم الأكبر من أرضها، وسكتت أو أيدت طرد معظم شعبها العربي منها، لم تنجح إلى اليوم في حسم المعركة لصالحها، رغم حروب متعاقبة شنت ضد فلسطين والدول العربية، وانتصارات متلاحقة حققتها، فضلا عن أن مشروعها للاستيلاء على كامل أرض فلسطين التاريخية بدأ يتعثر باعتراف قادته، في السنوات العشرين الأخيرة. واليوم، لا يوجد في العالم، بما في ذلك العالم الغربي، من يعتقد أن الحل الصهيوني للمسألة الفلسطينية هو حلها النهائي، وأن إسرائيل انتصرت على فلسطين وقررت مصيرها مرة واحدة وإلى الأبد، أو أن الشعب الفلسطيني رضخ لما تريد إملاءه عليه، بالقوة أو بغيرها، فهذا الشعب، شعب الجبارين كما كان يسميه قائده التاريخي ياسر عرفات، لم يشعر يوما أنه مهزوم، وأن قضيته ضاعت ولم يبق له من خيار غير قبول الواقع القائم، بل أحس طيلة قرن من الصراع المتواصل أنه صاحب حق لا يجوز التهاون فيه، وأن للقوة جانبا روحيا ومعنويا يملكه هو ويفتقر إليه الغزاة والمعتدون الصهاينة. وقد كان حريا بالرئيس الامريكي أن يفكر مليا بمعنى أن يكون أكثر من 90 ‘ من شهداء النضال الوطني الفلسطيني ولدوا خارج بلدهم الأصلي، وأن أحدا منهم لم يعرفه، ولم يحمل أية ذكريات عنه، وأنها كان وظل حيا في نفوس بناته وأبنائه، الذين لم يعيشوا يوما واحدا فيه، ولم يقلعوا عن القتال في سبيله جيلا بعد جيل، وسنة بعد سنة، وصمموا على استعادته كوطن مادي لطالما حملوه كوطن روحي / معنوي في قلوبهم وعقولهم، فلا تنازل عنه لأي كان، لأن التنازل يعني نهاية وجود عرب فلسطين كشعب، ونهاية ذاكرتهم وقتل روحهم بأيديهم. ما دام هناك فلسطيني واحد، ستكون هناك مشكلة فلسطينية، وستكون إسرائيل غير آمنة، فلا حل في فلسطين إن لم يكن فلسطينيا، ولن تتوقف الحرب عليها وفيها قبل إيجاد هذا الحل، الذي هو النقيض المباشر للحل الصهيوني / الإسرائيلي.
ثمة هناك وجه آخر لمشكلة فلسطين، كان على أمريكا رؤيته، لتنجح في انتهاج سياسة عادلة حيال العالمين العربي والإسلامي. ليست فلسطين قضية فلسطينية وعربية فقط، إنها أيضا قضية إسلامية بامتياز، تخص كل مسلم في العالم، لأن المسلم يرى فيها شيئا روحيا ومعنويا يتوطن فيه ويلازمه حتى في تفاصيل حياته اليومية، فيجعل فلسطين ملكا له هو أيضا، ويجعله فلسطينيا بصورة من الصور ويعطيه حق المشاركة في تقرير مصيرها، وحق القتال في سبيلها. ليست فلسطين ملك الفلسطيني وحده، بل هي ملك المسلم أيضا، أينما كان من عالم الإسلام. إلى هذا، إن فلسطين هي وقف إسلامي لا يحق لشعبها تقرير مصيره بمعزل عن بقية المسلمين، ولن تحل قضيتها ضد إرادة مسلمي العالم أو بغير رضاهم، فمشكلتها ليست محلية أو مقتصرة على شعب بعينه ومكان بذاته. إنها في نظر المسلم قضية عامة، كونية، سياسية ودينية، مادية وروحية، فلسطينية / عربية وإسلامية. لو كانت أمريكا تراقب وتفهم ما يجري، لعرفت معنى أن يقاتل ويستشهد الباكستاني أو الأفغاني أو الماليزي أو المالي أو الجنوب أفريقي … الخ وكلمة فلسطين على فمه. إن فلسطين هي وطن كل مسلم وكل مسيحي عربي، ووطن جميع المسلمين والمسيحيين العرب، وربما كان لأرضها المقدسة أولية في نفوس أبناء الإسلام والمسيحية الشرقية على أراضي أوطانهم الخاصة، غير المقدسة أو المباركة. ومن يفرط فيها يفرط بدينه وإيمانه ويخسر رحمة الله ورضا رسله.
ماذا سيكسب أوباما إن خسر شعب فلسطين؟. إنه لن يكسب شيئا، وسيقيد يديه في منطقتنا وكل مكان من العالم الإسلامي، الذي يزداد حنقا عليه ومقاومة لسياساته، ولن يتردد في طلب الموت فداء لدينه، ولفلسطين، أرض القداسة والإيمان، التي تفوق قيمتها قيمة أي شيء آخر، بما في ذلك الحياة، ما دام الموت في سبيلها يقود إلى جنان الخلد ونعيمها الأبدي!.
لن يربح أوباما إلا ما ربحه سابقوه من رؤساء أمريكا : قليلا من الوقت، وربما انتصارات وهمية أو عابرة لا تبدل شيئا في صورة الصراع العامة، ولا تشطب فلسطين ورمزيتها من معادلات المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بدلالة نيف وقرن من الانتصارات المتلاحقة، التي حققتها الصهيونية، دون كسب المعركة النهائية، أي الحرب!.
سيخسر أوباما الكثير إن تخلى عن وعوده الفلسطينية والسلمية. وسيدرك متأخرا أن مصالح أمريكا الاستراتيجية في منطقتنا ليست عند إسرائيل، بل هي عند العرب والمسلمين، وإن بدوا اليوم ضعفاء وعاجزين ومستسلمين. هل يفهم الرئيس الامريكي دروس الواقع، فيبادر إلى حل القضية من داخل موازين القوى التاريخية، التي تجعل السلام أمرا يتصدى لحل مشكلات تتجاوز الحاضر، أساسه تفوق العرب الموضوعي الساحق على عدوهم، الذي سيفيد كثيرا منه، اقله لأنه سيحول إسرائيل من دولة تحارب فلسطينيين وعربا لن تقهرهم مهما فعلت، إلى معزل يهودي على شاطىء المتوسط الشرقي، يقبل العرب التعايش معه، ريثما يندمج تماما في جسديتهم الخاصة، كما سبق وحدث في تاريخهم مع يهود مسالمين عاشوا كمواطنين صالحين بين ظهرانيهم!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي