صفحات العالمما يحدث في لبنان

أين المثقفون اللبنانيون من الانتخابات النيابية ؟

محمّد شيّا
لو أريد للمشهد الإنتخابي اللبناني الجاري منذ بضعة أشهر أن يكون مشهداً سوريالياً أو عبثياً كاملاً، لما وُجد لذلك صيغة تامة ولا تفاصيل أفضل مما يجري راهناً ويومياً، والمرشح لأن يستمر بالنوعية نفسها والوتيرة نفسها حتى السابع من حزيران. السوريالية تلك تمسك بمفاصل الإنتخابات النيابية اللبنانية الراهنة (2009)، بدءاً مما هو مهم ورئيسي فيها وإنتهاء بأصغر التفاصيل.
المهم والرئيسي هو، أولاً وقبل كل شيء، القانون الانتخابي الذي يحكم الهيكلية العامة للإنتخابات والذي ارتضته الزعامات اللبنانية من دون استثناء بفعل تسوية الدوحة. قانون 1960 ذاك، وفي وسعه أن يحتفل العام المقبل بذكرى ميلاده الخمسين، اخترع تقسيمات انتخابية للمناطق اللبنانية ذات وظيفة سياسية محددة وهي – باختصار – أن لا يصل إلى الندوة النيابية إلاّ زعماء الطوائف الكبرى، وبخاصة الزعماء الأكثر تطرفاً وتصميماً في الجهر بخطابهم المذهبي دونما ذرة من حياء أو خجل. ليس مهماً وفق هذا القانون من يصل إلى الندوة النيابية، إنما الأكثر أهمية بالنسبة إليه هو تحديد من لا يصل، والأصح من يجب ألاّ يصل.
سيّان بالنسبة لقانون الإنتخاب هذا – أي لواضعيه – نجح زيد أو عمرو من زعماء الطوائف، فكلهم واحد والفارق بينهم هو في الدرجة واللون فقط، لا في الهوية أو النوع. ليس مهماً أو مقلقاً في شيء أن ينجح هذا الزعيم الطائفي، أو أن يفشل ذاك، في هذه الدائرة، ولهذه الدورة. فمن يخسر في دائرة ما قد يربح- هو أو حليفه- في دائرة أخرى، ومن يخسر حقاً وبوضوح نيابياً فحقه محفوظ في كل الأحوال بمقعد وزاري.
أما المهم والمقلق حقاً فهو أن لا يخترق السياج الطائفي المضروب حول الندوة النيابية مرشّح من غير زعماء الطوائف، أو من غير أزلام زعماء الطوائف، أو من غير الواقفين على أبواب زعماء الطوائف. هوذا ما يجب أن يُخشى منه وما يجب أن لا يحدث، وما يجب تقليل إحتمالات حدوثه في كل الأحوال وبكل الوسائل والمناورات والألاعيب التي يتقنها زعماء الطوائف ويملكون منها عشرات الحيل وعلى نحو لا يبارى أو يجارى. هذه الوسائل والمناورات والألاعيب تمرّ مع الأسف، المرة تلو المرة، على عدد من المرشحين الذين يفترض أن يكونوا من طينة اخرى، فتنتهي رحلة إستجدائهم لمقعد نيابي لا بالفشل الذريع وحسب بل وبتدمير صورة المرشح البديل – على سبيل الافتراض- فتكون خسارة المرشح “البديل” ذاك خسارتين، ويكون فوز الزعيم الطائفي فوزين بل كسبين كبيرين وعبرة لمن يعتبر.
هوذا الأساس والرئيسي، والباقي تفاصيل فرعية لا تغيّر في جوهر الانتخابات الجارية شيئاً. هي مجرد أمثلة لتثبت أو لتؤكد صحة ما نذهب إليه. في باب التفاصيل هذه، ونتوقف عندها من باب المثال لا أكثر، نختار مسألتين فقط وهما: كيفية تسمية المرشح أو المرشحين، والبرنامج الانتخابي.
كيف يتم “إنتقاء” المرشح السعيد الحظ ليكون في اللائحة المضمونة الفوز وفق قانون 1960 – والذي في وسعه ضمان فوزه بالتالي قبل صدور النتائج بوقت قصير أو طويل؟ ليس مهماً على الإطلاق مواصفات المرشح لأن يكون مرشّحاً في لائحة الزعيم، ليس مهماً علمه وفكره وثقافته وبرنامجه، ولا تاريخه وسمعته وخبرته في أي اختصاص أو شأن عام. الأكثر أهمية من ذلك بكثير هو أن يتوافر في المرشح العتيد شرط من إثنين: إما إمكانات مالية عالية وبالقدر الكافي، أو إمكانات “المونة” على عدد كاف من الأصوات في دائرته – بسبب من التقليد، أو العزوة، أو النعرة، او المصلحة، وما شابه. وفوق الشرطين وقبلهما شرط أول هو الولاء السياسي والشخصي لزعيم اللائحة في السرّاء والضرّاء ومن دون قيد أو شرط.
إن ما يتسرب من الأخبار و”المفاوضات” التي تجري في جلسات المرشحين ليكونوا مرشحين في لوائح الزعماء سعيدي الحظ دون استثناء، لأمر هو من جهة مبكٍ ومحزن ومخجل لأصحابه وللبنانيين، لكنه دال بقوة ووضوح من جهة ثانية على حقيقة النظام الإنتخابي اللبناني وزيف إدعاءات الحرية والديموقراطية فيه. كيف ينتقي زعيم ما، في جلسة ما، مرشحاً ما، هو بعض السوريالية والجنون وأحياناً المجون في السيستام الإنتخابي اللبناني- والمسمى زوراً ديموقراطياً. كيف يجري “تصنيع” المرشح لأن يكون مرشحاً، قبل جلسة الإنتقاء الموعودة، وكيف لا يحسم الإنتقاء في جلسة واحدة، وكيف يتابع “الخيّرون” والوسطاء الأمر قبل موعد الجلسة التالية – والتي قد تكون في منتصف الليل، أو “على الواقف”، أو عبر الوسيط، أو على التلفون.
لا يسأل الزعيم المرشحَ لأن يكون مرشحاً الجالس أمامه – إذا سمح له بالجلوس – عن علمه وملفاته وبرنامجه وخبرته وما يقترحه أو لا يقترحه. هو يسأله عن امور أخرى مختلفة كلياً، وشخصية في الغالب، بعضها – بعضها فقط – كيف يراه، كيف ينظر إليه، ما سر إعجابه بالزعيم، ماذا قال في مجلس ما، ولماذا، وماذا قيل عنه في مجلس ما، وما كان موقفه مما قيل، وهل أجاب، وبماذا، وما نوع نظارته، وما هي الوجهات المفضلة إليه، وما شابه.
إذا كانت تلك هي معايير الترشيح للندوة النيابية في لبنان- ومن المخزي تسميتها معايير- فما بالك بعد ذلك بالبرامج الإنتخابية، ومن يسأل عنها، أو يتوقف عندها، حكاماً كنّا أو محكومين، زعماء أو مرشحين، واللبنانيون راضون عن ذلك في كل الأحوال. والكل في الهمّ شرق: الكلّ، نعم جميعاً ودون استثناء، باتوا متعوّدين واقع أن البرنامج الإنتخابي لا قيمة له، لا يعني شيئاً، ولا من يتوقف عنده، حتى الناخبون باتوا من الطواعية الى درجة انهم لا يسألون المرشح او زعيمه أو لائحته عن برنامجهم الإنتخابي. لم يتورع زعماء اللوائح – حتى أولئك الذين ظُنّ لوهلة أنهم افضل من سواهم – لم يتورعوا عن القول لجمهورهم: هؤلاء هم مرشحونا في كل الدوائر، أي نوابكم، أما البرنامج الإنتخابي فسيلي في وقت لاحق، وهو لن يلي حتماً، وإذا ورد فمن باب رفع العتب ولزوم ما لا لزوم له أو ما لا طلب عليه.
هي ذي الإنتخابات النيابية العتيدة عندنا، وتلك هي “النخب” المرشحة لأن تكون مرشحة على اللوائح الفائزة، ولإن يكونوا نواباً للأمة، ومؤتمنين على الدستور والتشريع والمحاسبة والحكم. ومرة ثانية هي ذي الهوية الحقيقية للنظام الإنتخابي في لبنان، بل للنظام السياسي اللبناني، والذي يزداد تدهوراً ونأياً عن الديموقراطية والحداثة، دورة إنتخابية بعد دورة، وإلى الحد الذي يشعرك أنك تعيش في مملكة إفريقية قبلية صغيرة لا في لبنان – بلد الأربعين جامعة، والمئة وخمسين ألف طالب جامعي، والأربعين الف مهندس، والثلاثين الف طبيب، وآلاف المثقفين والاختصاصيين البارعين والناجحين تحت كل شمس ولكن المسلوبة بل المشلولة إرادتهم، وبرضاهم، في بلدهم وفي موطنهم.
هوذا مبرر التساؤل في عنوان هذه المقالة: أين المثقفون اللبنانيون؟ أين المؤسسات الثقافية اللبنانية وهي بالعشرات؟ أين الأحزاب اللبنانية غير الطائفية التي كانت تزعم أنها البديل، وأنها ليست شريكة في الفساد النيابي والسياسي الجاري؟ أين المثقفون المستقلون الذين يعلو صوتهم في القضايا الهامشية والجزئية ثم لا نسمع لهم صوتاً واحداً معترضاً على ما يجري؟
إن أسوأ ما يجري حقاً ليس ما يجري ظاهراً أو آنياً، بل هو الإيحاء بقوة وبنجاح ولكل للبنانيين، وبخاصة لأجيالهم الشابة، أن ما يجري هو “الطبيعي” و”العادي” والصحيح بالتالي، أي هو ما كانت عليه الأمور دائماً، وما يجب أن تكون عليه بالتالي في المستقبل!
تلك هي ذروة الإيديولوجيا، وذروة السوريالية، وذروة النجاح للنظام السياسي اللبناني المستعصي على كل تقدم وتطور. والمثقفون اللبنانيون، بكل ألوانهم، هم شركاء أصيلون في النتيجة هذه.

(كاتب وأستاذ جامعي)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى