صفحات ثقافية

آيـــة الغيـــاب

null
عباس بيضون
ان نتكلم باستمرار حول ما يجري كما لو كان عجيبا و»سيرياليا« يهين ذكاءنا، نحن الذين »نستعمر« صفحات عديدة في الصحافة اليومية. نقول في النهاية ان ما يحدث فوق مجال رؤيتنا وفهمنا، فيما لا يعاني ابن الشارع أي مشقة في متابعته ولا يقول البتة انه فوق متناول رؤيته وفهمه. انه يقتنع بسرعة. وما يحصل او يُقَل في تبريره يغدُ بسرعة من »أدوات« وعيه، اما نحن »المراقبين« فنتكلم كما لو ان كل هذا يسبق خيالنا. في ذلك نوع من الافتتان بالتأكيد، كل لحظة نشعر فيها اننا امام نشاط زلزالي للواقع، انه يتحرك بسرعة ويغير مظاهره على نحو يخطف انتباهنا ووعينا. في النهاية نقول ان هذا فوق امكان الواقع وانه لم يكن ليملك كل هذا الخيال والقدرة على الابتكار واللعب والاختفاء والظهور، لو كان أمره بيده. لا بد، اذن ان يدا فوق يده تفعل هذا، ارادة عليا لمخلوقات اذكى تترجم عادة بمخابرات أجنبية تخطط وترسم. لا بد ان هذه الخفة وتلك السرعة والارتجال ليست من عندياتنا. في النهاية نحيل الأمور على قوة أخرى واعية ومدركة ومتخيلة، ونبدأ على الفور، وقد استعدنا تقديرنا لمواهبنا، ننبش في عقل هذه القوة الخفي. والحق اننا في سبيل ذلك ننظر في »مقلاب« فنقول ان خير ما نفعله لمعرفة ما في عقلها هو النظر في ما يحصل عندنا فهو الاثر الصريح الذي بيّته هذا العقل. ستكون المسألة داهية وبسيطة ومركبة في آن معا. لتفهم ما يجري عندنا عليك بلعبة الأمم ومعرفة ماذا يدور في عقول القوى اللاعبة. ولمعرفة ذلك يكفي النظر في ما يجري عندنا. انها معادلة واضحة فنحن نعرف انفسنا ونعرف العالم على الطريقة السقراطية، أي بدون ان نعرف شيئا. لنكن سعداء بهذا الفكر السياسي، نحن المثقفين الذين نقارع وعيا كونيا. اننا بالطبع في المستوى، لقد وضعنا المسألة في مدارها وحق علينا ان نرتاح.
مع ذلك يحق لنا ان نتعجب، انها فضلة الضعف البشري والسذاجة الشعبية. نقول: لتعرف نفسك اعرف العالم، لتعرف العالم اعرف نفسك. لكن أحيانا، احيانا قليلة، نتعب من الركض بين انفسنا وبين العالم، نرتاح قليلا من »مقلابنا« ونرى الأمور مذهلة غريبة. نفكر ان ما يجري الآن هو الجهيض المتعسر لفكرة الدولة التي تداولها الجميع منذ اغتيال الحريري الى أيامنا. نفكر ان هذا الجهيض هو المعادل المسكين للوحدة الوطنية التي اخترقتها الى الآن ثلاث حروب كبيرة وصغيرة ويتوقع ان تحتاج الى دعامات اكبر في المستقبل. لا بأس فإن ما انقصف لم ينقصف في يوم. لقد حصل ذلك بالتدريج واذا كنا الآن في هذا القاع »الصفصف« كما يقال فلأننا نسير اليه منذ ذلك الحين. اي منذ رحل السوريون وتركوا لنا واقعاً »صفصفا« بدون الاصطناع الذي كان يحميه. الدولة التي كانت فقط اصطناعها وقدمت لنا كفضيحة مستمرة بماضيها وحاضرها. المقاومة التي خرجت اقوى بكثير من واقع فقد اصطناعه ولم يعد له ازاءها سوى ابداء تقصيره وعجزه وتفادي الارتطام بها أو الخوف من ان ترتطم بنفسها. السيادة التي بدا اختراقها المجهري والمسامي اسهل من اختراقها المحيطي. حصل ذلك منذ ذلك الحين لكننا لا نزال نتكلم عن حالنا بذات اللغة، بهذا الثالوث الذي لا نعرف على ماذا تنطبق مسمياته. وشيئا فشيئا صرنا نتكلم عن الواقع بلغة الاصطناع نفسها اي بلغة فقدت موضوعها، برموز لم تعد متصلة بمرموزها. ربما نحتاج بدلا من هذا المقلاب الذي بتنا نرى فيه صورنا ايضا مقلوبة، نحتاج الى اعادة نظر بلغتنا نفسها. ربما ينفع اكثر ان نبدأ برصف »الوقائع« وقراءتها بعيدا ما امكن عن عناوينها، فهذا يساعدنا على الاقل في مجال اللغة. اذ اننا من هذه الناحية لا نزال جميعا في ذات المقلاب، الكلمات تصنع الوقائع والوقائع تعيد لنا ذات الكلمات واللعبة المفرغة تبدو »سحرية«، فحين تختفي الاشياء بذات الطريقة التي ظهرت بها لا ننتبه الى ان هذا من طبيعة الاشياء التي لم تعد هي نفسها.
اذا كنا في مجال العودة الى الدولة رئيسا للجمهورية وحكومة فان بعض الأمور تستحق اعتباطا التعليق. لم يفعل الوزراء الشيعة سوى ان خرجوا من الحكومة. لم يكن احتلال الوسط التجاري حكيما ولا ناجحا بذاته، لقد لعب الثورة بدون ان يفعلها وحرم الدولة منذ البدء من القوة التي بها تستطيع ان تحاوره او تقبله شريكا. كان الخروج من الوزارة نبذاً لشرعية بدونها لا تحق المطالبة ولا المشاركة. لكن هذا التناقض لم يبد مهما فخروج الوزراء واحتلال الوسط التجاري فعلان من جهة أخرى. لقد اعلن او كشف غياب الدولة من الاساس ومنذ هذه اللحظة تقاسم الطرفان هذا الغياب. بدا بوضوح اكبر ان اعلان الغياب المتمثل في الخروج والاحتلال اقوى من الحضور المتمثل في السرايا المحاصرة، بل بدا ان في الغياب مطابقة للواقع لا يملكها الحضور. لا يحتاج الغياب لأكثر من الاعلان فيما يحتاج الحضور الى اثبات لا يملكه. منذ لحظة الخروج لم يعد امام »الحكم« سوى المقايضة »بشرعيته« التي تركها الطرف الآخر اسميا له ليستطيع ان يتنصل من مسؤولية الغياب وليلقيها على عاتقه. عدا ذلك كانت السلطة منذ اليوم الأول للغياب، كانت المدينة تحت سلطة الغياب ولم يكن الطرف المعترض ليحكم الا بمد الغياب الذي يقع تحت سلطانه، مد سلطة الغياب او لنقل تجسيدها، تجسيد نفي »الدولة« الذي بات اكثر ملموسية من حضورها. النفي الذي كان يتوسع اكثر فأكثر ويصل الى اقصى ذلك في معركة بيروت والجبل بل يجد تجسيده الامثل في محاصرة المطار والمرفأ، منفذي البلد على العالم ويشترك في هذا الحصار او يدعمه قادة سياسيون وعسكريون. لنقل ان ما لم تفهمه الحكومة وهي تمسك مفاتيح الشرعية واسم الدولة، ان اعلان الغياب كان منذ اللحظة الاولى حاسما. لقد كشف باختصار حقيقة بسيطة، فيما لم تكن الدولة الماثلة سوى ارث الفضيحة، سوى الغياب التاريخي، سوى الجثة المنبعثة ودائما بقوة مستعارة. كان خروج الوزراء واحتلال الوسط التجاري فظين لكن الذي سقط امامهما لم يكن جمهورية من أي نوع. ما سقط امامهما كان نوعا من الجثة الحكومية فضلا عن كونه ارث الحرب والانتداب. هكذا امكن لتدبير كهذا ان لا يخسر، لقد اجبر الحكومة على ان تدخل في سلسلة تكرارية من اعلان شرعيتها زادتها صورية، ثم لما وصل الأمر الى نزع هذه الغلالة في حرب بيروت والجبل، لم تتزلزل الارض. تواجهت الشرعيتان، شرعيتا الغياب والحضور في الدوحة، وبدا فجأة ان الثلث المعطل قد يكون افضل لحصر الغياب وادماجه. لا نعرف اذا كان الاعتراف بالتعطيل يحتاج الى مكابرة كهذه، ما بدا رمزا في البدء تحول الى واقع بل الى واقع فوقي يطغى على الواقع ولم يعد ممكنا قياسه بالثلث او الربع او النصف. لكن الاقتتال على الرمز لم يهم. كان لدى المعترض شبكة رمزية، الدولة احداها ومعها المقاومة وحقوق المسيحيين، لذا بدا القتال على رمز الدولة قتالا تراجعيا وعلى الشعرة الأخيرة. بالطبع ليس ظرف كهذا مناسبا للسؤال عن النموذج، عن ارادة نموذج آخر، اذا كانت موجودة اصلا. لكن كل الكلام عن الرمز لم يقدم نزرا على مستوى النموذج. ما زال الصراع على رمز خسر موضوعه اصلا. انه هكذا رجم بالكلام.
لنتكلم عن بعض طرائف التشكيل الوزاري. الجنرال عون متشدد صلب قوي حتى على طريقه، هكذا يتم فرز نتائج حرب بيروت، انها تتم في مكان آخر وحيث لم تجر اصلا. هكذا يبدو كأن احدا لا يطالب، انها القوة حقا لكن بماذا تفرق عن الاستقواء. ثم اننا اذا عدنا الى المنهج ذاته افلا يبدو اعلان القوة الصارخ اشعاراً بغيابها او بأنها في غير مكان. بالمقابل حزب الله، كما وعد، لا يريد لنفسه سوى وزير واحد. أين كاسب الملك من واهب الملك، انه عقل استراتيجي لا يفوت حزب الله وعلى زمر ١٤ آذار المتنازعة على الوزارات ان تفهم ان معركتها هنا وان التعلل بالديموقراطية والطبيعة الانسانية لا ينفع حين تكون المعركة على المستقبل. حين تكون تقريبا مسألة حياة او موت. وحين يخوضها طرف تحت رايات كوكبة من شهدائه ومستشهديه. لقد جير حزب الله انتصاره لحليفه المسيحي بينما يتنازع أطراف ١٤ آذار شيئا اقل من الهزيــمة. مع ذلك فإن كرم حزب الله هو مجددا اعلان عن ان الوزارة في ادنى مراتــبه او مطالبه، وفــوق ذلك هــو اعلان عن ان القوة في مكان آخر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى