صفحات أخرى

جورج دبليو بوش وثقافة الخداع

null

عمر كوش

ستظل اللعنات والفضائح والضربات تلاحق الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، بسبب الحرب على العراق التي أفضت إلى مأزق الاحتلال الكارثي، وحوّلت العراق إلى بلد يتقاذفه الدمار والفوضى. ولن تكون آخرها الضربة التي تلقاها من طرف «سكوت ماكليلان»، الذي كان من أشد الناس وفاءً له، حيث عمل معه عندما كان حاكم ولاية تكساس عام ,1999 ثم ساعده في الوصول إلى البيت الأبيض في عام ,2000 وانتقل إلى واشنطن للدفاع عن الرئيس خلال السنوات الست التالية في قضايا مثل الحرب على العراق والإعصار كاترينا عندما كان ناطقاً باسم البيت الأبيض.

ويبدو أن كتاب ماكليلان «ماذا حدث: دهاليز البيت الأبيض وثقافة الخداع»، سيفجر تداعيات وارتدادات كثيرة، ويمكن اعتباره لطخة سوداء على سمعة بوش وتاريخه السياسي، لأن ماكليلان اطلع خلال سنوات عمله على بعض من أدق أسرار بوش وطريقة إدارته للأمور، حيث يصف فيه الحرب على العراق بأنها «خطأ استراتيجي فادح»، و«لا لزوم لها»، ويوجه فيه الاتهام إلى إدارة بوش بإساءة معالجة عواقب الإعصار كاترينا الذي اكتسح ولاية لويزيانا، ودمّر مدينة نيو أورليانز التي تسكنها الأقليات والسود والفقراء.

غير أن القول بأن الرئيس جورج دبليو بوش قد مارس، مع إدارته، الخداع لتسويق تلك الحرب على العراق؛ لا يفاجئ أحداً، لأنه تحوّل لدى غالبية المتابعين والمهتمين بالشأن الأميركي إلى قناعة راسخة، لكن المهم في الأمر أن هذا الكلام سيشكل الشعرة التي قصمت ظهر البعير، كونه يصدر عن شخص ماكليلان بالذات.

وتُذكّر ممارسات الرئيس جورج دبليو بوش وإدارته بما كتبه جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984» عن دولة الأخ الأكبر التي يتولى فيها الحاكم، صاحب الأوامر العليا، فعل أي شيء يحلو له، حيث تبدي القوى المتسلطة قدرة فائقة في السيطرة على عقول الناس بواسطة الدعاية وثقافة الخداع، فيمكنها أن تزعم بأن الحرب سلام، والاحتلال تحرير، والفوضى ديموقراطية. وتواصل تكرار مزاعمها وأكاذيبها إلى أن يصدقها الناس، وهو أمر حدث في الولايات المتحدة الأميركية بصورة أو بأخرى. لكن ما كان بمقدور أورويل أن يتصور بأن أساليب الدعاية الرسمية يمكن أن تنجح بهذا الشكل في بلد ديموقراطي مثل الولايات المتحدة، ويمتلك صحافة حرة ومؤسسات راسخة.

وحسبما نقلته وسائل الإعلام، فإن من الأمور التي يؤكد عليها ماكليلان في كتابه، هو أن إدارة بوش لم تشأ التخلي عن حالة الإنكار التي اعتادتها منذ الإعداد لغزو العراق، حتى إنها بعد إعصار كاترينا أمضت أكثر من أسبوع وهي تنكر مدى فداحة الكارثة التي حدثت. كما يذكر بأن أقوى زعيم في العالم طلب منه أن يتحدث باسمه، وأن يساعد على استعادة صدقيته التي فقدها إبان الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وأنه وقف على منصة البيت الأبيض ليواجه الصحافيين وكاميراتهم، كي يدافع تارة عن سياسة بوش التي قادت إلى غزو العراق، وتارة أخرى يحاول تبرئة اثنين من أكبر مساعدي الرئيس في البيت الأبيض وهما كارل روف وسكوتر ليبي.

كل ذلك يكشف نمط التفكير السياسي السائد في الإدارة الأميركية، التي جاءت من أوساط اليمين المحافظ، الذي يحيل إلى مدرسة «التشدد»، أيام صراع النفوذ والمصالح أثناء الحرب الباردة وانقسام العالم إلى نظام الثنائية القطبية. لكن المفارقة في الأمر أن تطبق تلك الأفكار القديمة على عالم جديد مختلف، ففي إثر التفجيرات الانتحارية في 11 أيلول 2001 لم تكترث الإدارة الأميركية بالفاعل الحقيقي للحدث، بل راحت تفتش عن عدو بديل وافتراضي، حيث لم يشكل تنظيم «القاعدة» ومعه حركة «طالبان» ذلك العدو المطلوب، بل كان العراق هو الهدف المطلوب، لذلك كان لا بد من الرجوع إلى السجلات القديمة من أجل خلق الذرائع والحجج الجديدة التي تبرر شن الحرب عليه، ووجدت ذلك في صنف جديد من الحروب، هو «الحرب الوقائية» أو «الاستباقية».

وبالرغم من اعتراض أغلبية شعوب العالم، شنت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا حرباً عدوانية، غير شرعية، زهقت أرواح آلاف العراقيين والأميركيين، وأودت بالعراق إلى الفوضى والاضطراب، وما زالت آثارها تتفاعل على المستوى الإقليمي والدولي. وليس لدينا شك بأن الولايات المتحدة الأميركية، هي الدولة العظمى في عالم اليوم، المتقدمة والديموقراطية، لكن دخولها في الحرب على العراق كشف عن الوجه الآخر لها. الوجه السيئ الذي يجعلها أشد مروقاً من «الدول المارقة»، من طرف استخدامها ذات أساليب المروق، فهي تفعل، كنظام، أو إدارة، كل ما يدخل في خدمة مصالحها، وكل ما ترتئيه مناسباً لطموحاتها وشطحاتها الامبراطورية، ثم تبحث بعد ذلك عن المبررات والحجج المناسبة.

ويعود اختلاق الحرب وموضوعها إلى راديكالية المحافظين الجدد، بوصفهم نخبة الحكماء، «فقهاء الظلام»، الذين تقع على كاهلهم مهمة الحفاظ على النظام الديموقراطي ضد احتمالات اختراقه من الأعداء. وهم ينظرون إلى طبيعة النظام من جهة سلوكه، مع أنهم يرون أن طبيعة البشر لا تفسر ذلك، فنظام الطغيان والاستبداد يقوم على الكذب والمراوغة والخداع، وبالتالي لا يمكن تصديقه. ونظراً لدعواهم الرسالية، لجأوا إلى السلاح ذاته، ودخلوا لعبة الخداع والأكاذيب التي لا تنتهي، من أجل تحقيق هدفهم «النبيل»، هدف «الأخ الأكبر» المتمثل في تكريس السيطرة الامبراطورية، وهو هدف لا يخدم صالح الأمة الأميركية ولو حاولوا تسويق ذلك، بل مصالح قوى النفوذ المالي والعسكري التي يخدمونها. لكنهم بذلك أفرغوا الديموقراطية الليبرالية من محتواها الأساسي، وصادروا نظام الحكم، من خلال قلة استولت على مصادر القرار، وهم في الحقيقة لا يمثلون سوى ثلّة من الإيديولوجيين الذين يعملون بعقلية جذرية، تغييرية، ومحاطة بأجهزة أمنية وإعلامية تعمل وفق معياريتهم، وبما يتماشى مع أهدافهم ومصالحهم الخاصة ومصالح نظرائهم في إسرائيل.

([) كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى