سعدالله ونوس: ملحمة صراع بين الحياة والموت
حازم نهار
في الخامس عشر من شهر أيار أسدل الستار على الفصل الأخير من ملحمة صراع بين الموت والحياة قل نظيرها على امتداد العصور ، فقد توقف قلب سعد الله ونوس عن الخفقان وأغمض عينيه الإغماضة الأخيرة ورحل .
رحل ونوس في نهاية هذه المعركة ذات السمات الملحمية بعد صراع مرير دام سنوات مع المرض العضال أبدى خلالها إصراراً عنيداً على دفع الموت للتراجع إلى حين إنجاز كل ما يمكن إنجازه من مشاريع ، فأثرى بذلك الفكر العربي والعالمي عامة ، والأدب المسرحي العربي بخاصة بأروع الإبداعات المسرحية وأكثرها شفافية وتعبيراً عن الواقع بكل تناقضاته وعن ضرورة النضال للارتقاء به نحو الأفضل والأجمل أو للتخفيف قدر الإمكان من شروره ومآسيه .
لقد أمضى ونوس حياته يدافع عن قضايا التحرر العربي في كل مكان وعن دور الثقافة في مواجهة القهر والاستبداد ، وأهمية دور المثقف النزيه في التصدي لقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تهم الأمة بأسرها من محيطها إلى خليجها . حياته مليئة بالمعاني النبيلة ، تحمل في ثناياها حرارة الصدق ، مثلما تحمل وضوح الرؤية المتجاوبة مع واقعنا ، فكانت تجربته المسرحية والفكرية دعوة للتخلص من أوهام القرون الماضية ، ودعوة لتصحيح نظرتنا إلى قضايانا وجعلها أكثر وضوحاً وحدة ، من منطلق أن النقد لا يعني التخلي عن المبادئ ، ولا اعتناق أفكار موسمية تتبدل بتبدل الفصول الثقافية والسياسية ، ولذلك كان يرى في الثقافة وحدة فكر وعمل ، محورها الهموم المجتمعية في أبعادها الحقيقية مثلما كان يرى في المثقف مسؤولاً عن كرامة العقل والإنسان . إنه – عبر قناعته بدور المثقف – كان من القلائل الذين توحدوا بإبداعهم ، وسعوا لتقريب المسافة بين الفكر المعلن والحياة اليومية ، فهو لايختلف في كتاباته وفنه عن ممارساته وأحاديثه في الحياة ، ولهذا اكتسب احترام المثقفين جميعاً على امتداد خارطة الوطن العربي .
هو ذلك المثقف المسؤول الذي ارتبطت آماله وأحلامه ، بل وحتى وجدانه الداخلي بأمته العربية ووطنه العربي الكبير ، كيف لا وهو يرى الأخطار المحدقة بهذا الوطن والمحاولات المستمرة لإخراج العرب من التاريخ وتحويلهم إلى أمة مذلة ، مهانة ، ومهزومة .
إن ارتباط حياته ، بإيقاعها الداخلي والخارجي ، بقضايا الأمة المصيرية ، غلب طابع التشاؤم عليه ، وهذا طبيعي عندما يعيش المرء بصدق و يتفاعل بوجدانه وأعماق روحه مع آلام أمة حياتها سلسلة متكررة من الهزائم والإحباطات و الانكسارات ، لكن هذا التشاؤم لم يمنعه عن الحياة ، بل بالأحرى صار الحافز الأقوى الذي يدفعه باستمرار لتجاوز ذاته وشرطه الاجتماعي والإنساني ، ولعل أعماله الأخيرة وصراعه المضني مع المرض يؤكد ذلك ، فلم يدفعه المرض إلى مراجعة تجربته فحسب ، بل أبرز أفضل ما فيه ، أي شجاعته ونزاهته والتزامه ، فقد كتب وهو على عتبات الخطر أفضل أعماله وأعمقها وأغناها وجدانياً وفنياً .
كان رده على هزيمته كجسد وعلى هزيمة وطنه بالكتابة !! وما أعظم الرد ، الكتابة ذات الفعل التنويري والتغيري في مجتمع أدمن الانتكاسات ، لكنه بحاجة إلى أمثال سعد الله ونوس يهزون هذا الركود القاتل بإرادات صلبة وحازمة . كان ذلك أروع ما قدمه في سنواته الأخيرة : إصراره على رفض الاستسلام لأي واقع مهما كان قاسياً ومريراً و لو كان الموت ذاته ، كل ذلك في سبيل تقديم كل ما يثري الحياة ويغني الفكر والعقل والقلب والروح .
الإرادة المصممة على التحدي : هذا ما أراد ونوس أن يقوله عبر مقاومته لمرضه ومرض أمته في آن معا .. إنه الحلم الذي مازال يدغدغ مشاعر النبلاء في هذا الوطن الكبير ، هذا الحلم الذي رأى فيه ضرورة ، خاصة في هذا الزمن الصعب ، فالحلم أولى درجات المقاومة وأكثرها ضرورة ، لكنه يحتاج منا كثيراً من العمل والصبر وقليلاً من الخوف .
إن معركته مع الموت في سبيل الحياة هي مصدر إلهام لنا جميعا ، ولكل الأجيال القادمة ، بل هي ما ينبغي أن نستلهمه . إذ عبر تداويه من جراح النفس والجسد ، قدم لنا مجموعة من أهم أعماله وأكثرها إيلاماً وكشفاً ، فكانت مسرحياته الأخيرة تجارب وإبداعات لامست حدود العالمية ، وشكلت إرهاصات متقدمة لبناء مسرح عربي يبصر جيداً أهدافه وغاياته في الشكل والمضمون وطرح الأفكار والتجارب . إنها مسرحيات جديدة ومدهشة وفريدة في تركيبها الفني ومناخاتها الأخاذة ، وهذا يجعلنا نرى فيها وقفة صادقة مع الذات ، ومع ثوابته الفنية نفسها ، مع المكبوتات والمحرمات العربية ، ومع الحياة .
إنه المسرح – دون غيره من الفنون – كان محور اهتماماته ، لأنه يرى فيه ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فبه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً ، من خلال إيمان مطلق بأن المسرح في النهاية هو عملية جدل وشكل من أشكال الحوار مع الناس .
من خلال هذه الرؤية للمسرح ولدوره ، ومن خلال إنتاجه المدهش والفريد بتكامله العضوي عبر مسيرة حياته ، أصبح ونوس ” وجهاً مرجعياً بين وجوه المسرح العربي المعاصر ، وهو خير وريث لأبي خليل القباني ” ، إذ عرف كيف يطور نفسه باستمرار ، وكيف يجدد و يجذر مسرحه على امتداد السنين ، و عرفت أعماله المسرحية تطوراً مثيراً ، وسلكت دروباً جديدة ، واختبرت أشكالاً وقوالب غير مطروقة ، لكن مع كل هذا التجدد والتطور بقيت هذه الأعمال ” تحفر من دون كلل في الاتجاه نفسه : اتجاه يختصر وضع المسرح في مواجهته لواقع لا يبعث على الرضى ، في عالم عربي يبحث عن نقاط ارتكاز ثقافية وتاريخية جديدة ” ، إذ كان اتجاه الرؤية الفكرية لونوس على امتداد أعماله المسرحية الكاملة ، يقوم على قراءة المجتمع العربي في بناه العميقة وفي سيرورته وصيرورته ، إنها ” قراءة أفقية وعمودية تتلاقى فيها أبعاد الزمن ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، وهي تبعاً لذلك ، قراءة تتجاوز النقد إلى نوع من الإحاطة التي تتضمن نوعاً من إعادة التكوين ، لا في ما يتعلق بالمجتمع وحده ، بل في ما يتصل أيضاً بالفرد ووعيه ” ، إنه يقارب الحياة والأشياء بطريقة إبداعية جديدة وبجمالية جديدة أيضاً .
لقد كان مسرحه موجة عالية و قوية في تيار المسرح العربي الجديد ، الذي توجه نحو الالتزام السياسي و الاجتماعي بقضايا الأمة ، و بالاتجاه نحو استلهام التراث التاريخي و الفولوكلوري ، و نحو طرح القضايا العصرية ، و تطوير اللغة الفصحى المسرحية ، و تطوير و تغيير الأشكال المسرحية التقليدية .
إن قراءة ونوس كاملاً ، خاصة أعماله المسرحية ، منذ بدايتها حتى اللحظة التي أغمض فيها عينيه ، توضح لنا مدى تطور نظريته ورؤيته الفكرية للواقع العربي والتاريخ العربي ، مثلما تبرز لنا التجدد المدهش في تطور وتنوع أدواته المسرحية .
في مسرحياته الأخيرة ، عمق ونوس مستوى البحث في الكتابة المسرحية و إمكانيات التعبير التي يسمح بها المسرح ، بحيث أصبحت إشكالية الكتابة مجالا لطرح قضايا إنسانية و ذاتية ، و محاولة لسبر علاقتها بالسياق الذي تتم فيه ، وقد أبدع ونوس في ذلك ، إنه – كما ترى خالدة سعيد – : “مهندس منظومات ورؤى ،وكشاف بواطن ،ونحات رموز ” .
إن المسرحيات الأخيرة ، تمثل فيما تمثل ، محاولة لإعادة التأمل في مشروع نهضتنا المنكسرة وحداثتنا المجهضة والمشوهة ، من خلال تعميق ساحة الرؤية لتطال كل شيء السياسي والاجتماعي والذاتي والفردي ، من خلال رؤية جدلية جسورة في الكشف والتعرية والبحث عن الحقيقة .
لم ينظر ونوس للمسرح على أنه حلية ثقافية لابد من وجودها في المجتمع ، كي يبدو هذا المجتمع معاصراً ، بل نظر له بصفته حاجة ، هي جزء من حاجات أكبر بالتعريف الاجتماعي للمسرح . هذا المسرح– الحاجة أو المسرح – الحوار ، يتطلب وجوده شروطاً عديدة ينبغي توفرها لكي يستمر ويزدهر ، إذ أن الثقافة بعامة ، والمسرح بخاصة ، هما نشاطان شديدا الحساسية كما يرى ونوس ، و إن ازدهارهما يتطلب تعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء ، كما يتطلب وجود السلطة المدنية التي تشجع اللقاء وتعتبر تمويله ضرورة حيوية . و لعل أهم أولويات السلطة المدنية الراغبة والشاعرة بالمسرح – الحاجة ، هي إشاعة الديمقراطية وتعزيز مظاهر المجتمع المدني ، لأن المسرح هو أحد أبرز الفضاءات الديمقراطية ، حيث الحوار والاعتراف بالآخر المختلف ، ثم حرية الرأي والتعبير ، وأيضاً النقد ، ونحن في مجتمعنا العربي نستشعر الحاجة إلى الديمقراطية أكثر من غيرنا ، بسبب عهود الاستبداد الطويلة ، مثلما نستشعر الحاجة إلى المسرح – الحوار ، الذي يمكن أن يلعب دوراً جوهرياً في إنجاز المهام النقدية والإبداعية المطلوبة ، مثلما يساعد على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة .
المسرح – كما يقول ونوس – ليس واحدا من تجليات المجتمع المدني فحسب ، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع ، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره . إن العملية جدلية ، فالمسرح ، والثقافة بشكل عام ، يجدان حياتهما ضمن مجتمع مدني ، والمجتمع المدني لا يزدهر بدون المسرح والثقافة ، ومفتاح هذه العملية الجدلية هو الديمقراطية التي تدفع تلك العلاقة المترابطة بين المسرح والجمهور نحو تجسيد نفسها واقعياً . هذه العلاقة المترابطة تقوم في مناخ ديمقراطي بين جمهور يدفع بالمسرح إلى الأعلى ، ومسرح يرقى بجمهوره نحو الأفضل والأحسن . إن توافر شيء من الحرية وعدم انكسار كبرياء الإنسان في مجتمعه – كما يقول ونوس- ” يمكن أن يمد الحياة في المجتمع ، حتى لو كان مفككاً ، بكثير من علائم الحياة والصحة ” .
أخيراً نقول : إن تفرد ونوس إنما يكمن في ذلك التكامل المدهش بين فكره وإبداعه المتصل بحياته ، ووفائه لهذا وذاك عبر مواصلة البحث والإخلاص لرسالته ، ولا شك أن هذه التجربة الإبداعية الخلاقة ، تشكل منارة يجب الرجوع إليها باستمرار ، بجوانبها المتعددة ، المسرحية والفكرية والإنسانية والوجدانية .