صفحات مختارة

«حرب» المآذن السويسرية

محمد الحدّاد
بعيداً من ردود الفعل العاطفية التي سالت بها الأقلام بعد النتيجة المفاجئة للاستفتاء السويسري حول قانون منع المآذن، يجدر أن نتبين بهدوء أين موضع الخطر في هذا الحدث. ليس هو بالتأكيد في منع تشييد المآذن، فالمساجد يمكن أن تقوم من دونها، وليس هو على الأرجح في مشاعر معاداة الإسلام، لأن جزءاً كبيراً من المصوّتين بنعم كان سيصوت أيضاً ضد بروج الكنائس بدافع التمسك بتوازن علماني وصلت إليه سويسرا بعد تاريخ عصيب، فهي مهمومة بالمحافظة عليه محافظة على كيانها الهش في عالم يتحكم فيه الكبار.
إن ما يبدو لي لافتاً في المسألة عناصر أربعة:
أولها أنّ الإسلام السويسري هو إسلام أوروبي، فحوالى 60 في المئة من المسلمين هناك هم من أصول بلقانية، أي أنهم من أوروبا الشرقية التي من المفروض أن تكون قد أصبحت جزءاً من أوروبا بعد عشرين سنة من انهيار حائط برلين.
ثانيها أن سويسرا ليست لها تركة استعمارية مع أي بلد مسلم، بما فيها المواطن الأصلية للمهاجرين المسلمين المقيمين عليها حالياً.
ثالثها أن الحضور الإسلامي في سويسرا حضور متواضع بالمقارنة بالبلدان الشبيهة مثل بلجيكا أو هولندا.
ورابعها أنّ القرار أتى من المواطنين وليس من السلطات أو الطبقة السياسية التي كانت مجمعة على رفض المبادرة وفوجئت بنتائجها مثل مفاجأة المسلمين بها.
لقد نسفت هذه الحادثة الكثير من القناعات وأثبتت أن هناك قضية مرتبطة بالإسلام وليس بالهجرة عموماً أو أعراق المسلمين المهاجرين أو مخلفات الفترة الاستعمارية. والاستفتاءات الشعبية ممارسة ديموقراطية موجودة في أكثر من بلد أوروبي ومن المنتظر أن تتكثف في المستقبل. ماذا يمكن أن يحدث في بلدان أخرى حينئذ؟ لا اعتقد أن الاستفتاء سيغير كثيراً من الواقع السويسري ومن المآذن الأربع الموجودة في هذا البلد. لكنه سيستعمل لدى الحركات الإسلامية الراديكالية في أماكن أخرى لمزيد من تأجيج مواقف العداء والانغلاق والاحتجاج بمشاعر الكراهية ضد الإسلام لتبرير المواقف الراديكالية التي تزيد هذه المشاعر تأججاً. إننا أمام حلقة دائرية خطيرة، لأن كل طرف سيستعمل طريقة المزايدة فيضيق المجال أمام الحلول الوفاقية.
على المسلمين في أوروبا أن يفهموا أن هناك عصراً قد مضى، وهو عصر الاستفادة من العلمانية الأوروبية من دون الانضباط بقواعدها. كانت أوروبا القرن العشرين تسعى إلى تقوية الطابع العلماني لمجتمعاتها، فكانت تنظر بعين الرضا لاقتحام الإسلام الديار التي عاشت «مسيحية» صرفة على مدى قرون طويلة، وكانت راضية عن تحوّل المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات متعددة الديانات، وكانت ترى في الإسلام عنصراً من عناصر إضعاف الأوساط الكنسية واليمينية الراديكالية من دون أن تتصور أنه يمكن أن يتحول إلى عنصر إضعاف للمجتمع وللعلمانية، ظناً منها أن تطور عدد المسلمين سيبقى محدوداً، وكذلك الدور الذي يضطلعون به في تلك المجتمعات.
تضاف إلى ذلك اللغة الثقافية للمجتمعات الأوروبية التي كانت من صنع تيارات ما بعد الحداثة، لغة تنفر من كل تصنيف ديني وتنظر إلى المشاكل القائمة بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات الأوروبية على أنها مشاكل عنصرية أو هجرة غير منظمة أو فشل للسياسات الاندماجية وما إلى ذلك من طرق الطرح التي تغيّب الجانب الديني في ذاته.
وربما شعرت غالبية الأوساط الإسلامية المهاجرة بالنشوة والانتصار، ناهيك بأن بعض الأحداث العابرة ضخمت ونالت قيمة رمزية مبالغاً فيها (لنتذكر مثلاً حادثة إسلام روجيه غارودي التي أخرجت في قالب سردي يبشر بقرب انهيار الغرب). وأصبحت أعداد المسلمين في أوروبا عنصر فخر، مع أن الأجدا أن تكون عنصر حسرة، لأن معظم هؤلاء أناس دفعهم إلى الهجرة غياب فرص العمل أو غياب الديموقراطية أو كانوا ضحايا الحروب الأهلية والخارجية ونحو ذلك.
والنخبة المتميزة، ما يدعى بالعقول المهاجرة، أشخاص كان يمكن أن يساهموا في تطوير مجتمعاتهم لو أنها احتضنتهم واعترفت بكفاءاتهم ووفرت لهم ظروفاً لائقة للعيش والعمل، تلك الظروف التي تتوافر عادة للأغبياء المتملقين أو الذين يضعون أنفسهم في خدمة أصحاب النفوذ.
اليوم هناك عودة إلى الدين في أوروبا، وهناك أزمات اقتصادية، وهناك بحث عن الهوية أصبح معتمداً بصفة رسمية (في فرنسا حاليا نقاش افتتحته الحكومة نفسها حول الموضوع ويديره وزير معتمد مكلف بذلك!). العلمانية التي كانت الحصن لحماية المسلمين تتآكل، والمسلمون ساهموا بأنفسهم في هذا التآكل. لذلك أصبحوا موضع نقمة قسم من العلمانيين وقسم من المتدينين على حدّ سواء. فتصاعدت الحملات المعادية للعرب والإسلام وكثر السلوك العنصري في الواقع اليومي للناس وعاد عنصر الهوية الدينية الى البروز مجدداً، لكن أليس من حق الأوروبيين أيضاً أن تكون لهم هوية، دينية للمتدينين ولائيكية لغيرهم؟
فالخلاصة أنّ مسلمي أوروبا، بل مسلمي العالم كله، إذا أصروا على معارضة كل أشكال التوافق بين الدين والعلمنة، كما تقتضيه الحداثة، وظلوا يستفيدون من العلمانية في حياتهم اليومية ويلعنونها على المنابر، فإنهم سيواجهون مفاجآت كثيرة من نوع ما رأينا في سويسرا. وينبغي أخذ الأمر على محمل الجدّ حقاً، لأن الذين صوّتوا في سويسرا هم الشعب وليس الطبقة السياسية التي يمكن التأثير فيها بالضغوط الخارجية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى