تقدم البشر أم الحجر؟
ميشيل كيلو
مال فكرنا الحديث إلى اعتبار تقدم البشر مقياسا لأي تقدم. لكن الوضع العربي، الذي تخلق خلال العقود الأربعة الأخيرة، أخذ يحصر التقدم في تقدم الأشياء. حدث هذا وتحول إلى رأي رسمي غالب، بعد فشل ما سمي ‘ثورة العرب القومية’، التي بدأت مطلع ثلاثينيات القرن الماضي واستمرت حتى هزيمة 1967، ثم تلاشت إلى أن انطفأت بقوة الانقلابات والتطورات السياسية، التي أعقبتها، وطالت السلطة والمجتمع العربيين.
تقدم البشر أم تقدم الحجر ؟. تقدم يخدم الإنسان ويقاس بإسهامه في تحسين حياته كذات حرة سخر الله كل شيء لخدمتها، أم تقدم في البناء والشوارع والجسور والمصانع والمزارع، أو في ما عرفته من تغير وتبديل، وتحسين وتطوير، حجب تراجع مكانة الإنسان، واعتبر تقدم البشر مسألة تالية، وجعل تقدم الحجر شرطا له، قال إنه يترتب عليه، ما دام تقدم الأشياء المادية يسبق تقدم الإنسان.
عرفت الحياة الحديثة والمعاصرة نظرتين إلى التقدم: واحدة تراه بمعيار الإنسان، وتعتقد أن التقدم هو، قبل كل شيء، تقدم البشر. وأخرى تراه بمنظار تغيير الحاضنة المادية والأشياء المحيطة بالإنسان، باعتبارها الأساس الملموس لحياته، الذي يستحيل إنجاز شيء حقيقي فيها دون توفره.
هل يصح القول: إن المدرسة الأولى ترى التقدم بمعيار نوعي، يعتبر الإنسان أولية يجب أن ينصب التقدم عليها، على أن يكون من صنعه وله. بينما تراه الثانية بمعيار كمي يعتبر في إقامة المتطلبات المادية الضرورية شرطا لازما لتقدم البشر، الذي ينقسم، في هذا الفهم، إلى مرحلتين، تقدم الإنسان ثانيتهما؟. من الصواب رؤية مسألة التقدم بهذين المعيارين، على أن يكون واضحا أن مركز ثقل كل منهما يختلف باختلاف أولياته، فالإنسان هو مركز ثقل الأول لأنه أوليته، والعالم المادي مركز ثقل الثاني، لأن أوليته تركز على خلق تقدم في الأشياء يظن أنه يستحيل بدونه تقدم الإنسان.
تقف وراء هاتين النظرتين نظرية واحدة في الإنسان، تعتبره منطلق ومآل أية سيطرة على الطبيعة وعلى نفسه، وأي تحسين يصيب حياته والعالم. لكن هذه النظرية تنقسم إلى تيارين: – واحد يقول إن التقدم هو بالأساس وبالمآل النهائي معنوي / روحي، ويرى أن تقدم العالم المادي ضروري لتحقيق قدر متعاظم من التقدم الروحي / المعنوي، لكنه ليس شرطا كافيا لتحقيقه، ولا يترتب عليه بالضرورة، فتحققه لا يتوقف عليه، وإنما هو مجرد عامل مساعد، بمعنى أن الإنسان يستطيع أن يتقدم في مضمار إنسانيته، معنويا وروحيا، دون أن يكون تقدمه نتيجة تقدم مساو له في الصعيد المادي.
– وآخر يرى في التقدم المادي سببا، وفي التقدم الروحي / المعنوي نتيجة. ويعتقد أنه لا بد من تحقق قدر ملائم من التقدم المادي، وإلا كان التقدم الروحي / المعنوي، أي الإنساني، صعبا أو مستحيلا.
ومع أن كل واحد من هذين التيارين يورد أدلة وحججا تؤيد وجهة نظره، فإنه يجب التأكيد، هنا، على حقيقة مهمة هي أن التيار الثاني يتجاهل دور العامل الروحي / المعنوي، دور التقدم الإنساني في التقدم المادي، ويقلب الأمور، فيجعل العربة أمام الحصان، عندما يقول إن التقدم المادي هو شرط التقدم الإنساني، مع أنه كثيرا ما كان العكس هو الصحيح، وكثيرا ما مهد التقدم الإنساني للتقدم المادي، وكان شرطه. ولعل المقارنة بين وتيرة التقدم المادي في العصرين القديم والحديث تؤكد صحة هذه الملاحظة، إذ يجمع العلماء من الفروع العلمية المختلفة، النظرية منها والتجريبية، على أن التقدم الحديث يتم بوتائر تتناقص فتراتها الزمنية، تتعاظم خلالها سرعة التقدم وقدرة الإنسان على الابتكار والتجديد والإنتاج، بينما التقدم في العصور الماضية كان متباعد الأزمنة، بطيئا وتكراريا. ويعزو العلماء هذا الفارق إلى عامل روحي / معنوي هو تقدم الحرية، الذي أسهم في بروز دور ومكانة الفرد في الواقع. ثمة، إذن، قدر من التقدم الإنساني ضروري لجعل التقدم المادي ممكنا كتقدم للإنسان. ومن يتأمل العالم التجريبي يجد أنه يترتب بكامله على العالم العقلي، المعنوي والروحي، حيث تنتج تصورات الإنسان واقعا ماديا يأتي على صورتها ومثالها.
يسهم التقدم المادي في التقدم الإنساني، ويكون شرطا له، إن تم بدلالته من بدايته في الواقع إلى نهايته عند الإنسان، حيث يتحول من واقع بذاته إلى واقع له، للإنسان. بغير هذا، يتحول التقدم المادي إلى تقدم اضطهاد الإنسان وتغريبه عن ذاته وعن العالم، يأخذ شكل ضعف ذاتي يتعاظم بقدر ما تزيد فاعليته الإنتاجية وعمله عالمه قوة وامتلاء. عند هذه النقطة، يصير التقدم المادي تقدما ضد الإنسان، ومع انه قد يحسن ظروف معاشه، فإنه يقوض ذاته وروحه، ويحوله إلى مسخ قد يمتطي سيارة ويسكن قصرا ويملك ثروة، إلا أنه غريب عن نفسه فاقد إنسانيته، يشقى لأنه لا يستطيع التصالح معها ومع عالمه.
لا حاجة إلى القول: إن البلدان الاشتراكية انهارت بسبب تبنيها معيارا كميا للتقدم، واهتمامها بعالم الأشياء أكثر من عالم البشر، وتغريبها مواطنها عن ذاته، الذي أدى إلى غربته عنها، وإلى إضعافه، الذي أودى في نهاية المطاف بها، رغم ما أنجزته من معجزات على صعيد تقدم الأشياء.
كان الفيلسوف اليوناني برمنيديس يقول ‘الإنسان معيار كل شيء’. ليت عالمنا العربي يأخذ بهذه المقولة، التي قام عليها بناء النهضة العالمية الحديثة، والتي ليست فقط مقولة فلسفية، بل هي أيضا دليل عملي إلى واقع يحتل الإنسان مركزه، بوصفه المخلوق الوحيد الذي كرمه الله بالعيش على قيم معنوية، بينما يعيش غيره من المخلوقات على الأشياء والغرائز، وبعث إليه الأنبياء والرسل، وأوصاهم به خيرا، وكافأه بالخلود في الجنة.
هل يجوز أن يعامل الإنسان وكأنه سقط متاع، وهل يحق لكل من مد شارعا أو أقام بناء أو أشاد مطارا … اضطهاده والاعتداء عليه والتنكر لحقوقه؟. إذا كان صحيحا أن التقدم هو أساسا تقدم البشر لا الحجر، ألا يكون تقدم الحجر في أوطاننا ستارا يحجب تأخير الإنسان: ركن الحياة وعمود الوجود؟.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي