صفحات مختارةموفق نيربية

عن مسألة الليبراليين العرب والالتزام السياسي

null
موفق نيربية *
انزوى الليبراليون (في قلب العروبة وكبدها ورئتها) منذ الخمسينات وبعدها بقليل، وولوا الأدبار مع ضياع حرية السوق ورأس المال، ولم يعد لقيم الليبرالية مفعولها الذي تستحقه من التعبير السياسي المستدام. الآن، تجهد هذه القيم لتجد طريقها إلى التجسّد في الواقع بين أمل ويأس.
ويرى بعض الباحثين في مناهج تدريس العلوم السياسية أن»إدخال تراجيديا – كالملك لير مثلاً – في منهاج النظرية السياسية يمكن أن يحفز على فهم تعقيد الليبرالية الكلاسيكية»، وأنه بالاستناد إلى نظرية أرسطو حول التراجيديا يمكن المحاجاة بأن الاندماج في تلك المسرحية يساعد الطلاب على تحديد الحركة والصوت ضمن النصوص، وتطبيق تلك المهارات لإنجاز قراءة أكثر تركيباً لكتابات هوبس ولوك. إلاّ أن ذلك لا يفيدنا، إلاّ في فهم حقيقة أن بين الليبرالية والتراجيديا ما يربطهما، في اللغة والسياق والنخبوية والمرارة.
ربما تأتي هذه المرارة من العزلة والعجز عن التواصل، أو الإحساس بأن» الشعب» لا يُدرك مصلحته في الدفاع عن حقه بحريته، أو بحرياته الأساسية. وينساق من ثم إمّا إلى الاستسلام لقيوده، أو وراء تيارات عفوية وشعبوية تجرفه ذاتَ اليمين وذات الشمال، ليست جديرة بالتاريخ الإنساني وتقدّمه وقيمه الحديثة، فيفقد بوصلته.
كان هنالك عرب منذ القديم يحملون جرثومةً ليبرالية (إذا جاز استخدام التعبير لزمن ما قبل الحداثة). وجد هذا بين المترجمين والفلاسفة والعلماء والشعراء والجماعات السرية، مثل أخوان الصفا وغيرهم. وقد نهل بعض الطليعيين في أوائل عهد النهضة من تلك الروح بالتماس غير المباشر. إلا أن الليبرالية بسماتها المدنية المعاصرة لم تأت طبعاً إلا بالاحتكاك الثقافي بالغرب، منذ البعثات الدراسية الأولى.
فكان للصدمة أن تمتص من أولئك معظم ما ورثوه، ليحلّ محلّه الميل الكاسح للحاق أو الالتحاق بالغرب الأوروبي، على غرار ما فعل طه حسين حين نادى – بشكل من الأشكال – بالانتماء لأوروبا، ليحصل ما حصل معه أمام المحكمة بعد كتابه الشهير، من دون أن يستسلم – ربما بأسى مكتوم – إلا بعد ثورة 1952. حينذاك واجه التفافاً على الموضوع لا يستطيع مجاراته ولا الاعتراض عليه، وتلك معضلة.
بعض الليبراليين ارتدوا القبعة الغربية وحافظوا عليها، ولم ينفوا غربتهم عن المجتمع» المتخلف». وبقيت سلوكياتهم ومواقفهم منفصمة عن التيار السائد، عاجزة عن توصيل رسالتها إليه. ورافقهم الاكتئاب حتى موتهم.
لا يعني ذلك إحساساً بالنقص لديهم، بل على العكس بالتفوق، والتفرّد بامتلاك الحقيقة «الثورية» حتى حدود وعيها، من دون فعل ثوري. ومن حالة التسامي تلك تولّدت ظاهرة التعالي، واندمج الليبرالي بالمثقف هدفاً سهلاً للاتّهام بالنخبوية، بل أصبح؛ وهو قرين العقلانية وصاحبها؛ متهماً باللاعقلانية. كان ذلك إضافة إلى سوء الحظ في البداية، حين لم يكن إلا لابن الفئات الموسرة مثل ذلك التماس مع الغرب، فاختلط الموقف من الإقطاع والرجعية مع الموقف من أهل الأنوار، قبل أن تصبح الليبرالية في نصف القرن العشرين الأول رائجة أكثر في الطبقة الوسطى، قبل – أيضاً – أن تضمحل تلك الطبقة بتأثير عقابيل الثورات القومية والاشتراكية والنفطية، ونتائجها على المستوى الاجتماعي الاقتصادي.
صارت المشكلة في النصف الثاني من القرن رهناً للحالتين الاجتماعية والسياسية فالاقتصادية، وانهزم الليبراليون في بداية المواجهة وخرجوا من إطار المشهد. ولعل هذه الهزيمة نتيجة لضعف علاقتهم مع مفهوم الالتزام السياسي، إضافةً إلى طبيعة التحولات العاصفة والشعبوية الجارفة المدججة بالسلاح، التي سادت وتصدّرت الموقف، وللليبرالي طبيعته المسالمة، فحمله لمبادئ الانفتاح والحوار والحرية وحقوق الإنسان، لا يرتفع بسهولة إلى مستوى المقاومة.
قد يتصّل الليبرالي بالالتزام السياسي من خلال مفهوم العدالة كقيمة أخلاقية يهدف إلى تعميمها، أو ردّ الجميل للدولة والمجتمع على ما قدماه ويقدماه له من رعاية وأمان، أو «السامرانية» التي تستوحي» حكاية السامري الطيب» لتقول إن هنالك ميلاً طبيعياً أخلاقياً لدى الإنسان إلى مساعدة أخيه حين يكون الأخير في خطر أو حاجة ملحة.. وفي كلّ ذلك لا تغيب المصلحة والنفع، في – ومن – دولة ومجتمع يسودهما حكم القانون ومبادئ العقد الاجتماعي.
إلا أن ذلك، وبسبب قيمة الفرد لديه – والنفس هنا – لا يرتفع بالتزام الليبرالي إلى درجة الاستعداد للتضحية، مع ارتفاع الثمن الذي يمكن أن يدفعه أمام سلطات تحترف الإكراه والقمع على حساب العدالة والمساواة في المجتمع. فهو يرغب بالالتزام السياسي ويطمح إليه فكرياً وأخلاقياً، لكنه يرفضه ما لم يكن علنياً ومتاحاً، أو طالما كان الثمن المحتمل أكبر من طاقته. هنا هو يحترم البطولة، لكنه لا يعتبر نفسه مطالباً بها.
ينسجم ذلك مع جبن الطبقة البورجوازية في دولنا – مع إضافة سماتها الريعية أو المرتبطة بالسلطة القمعية – وخوفها من احتمال التضحية بأوضاعها المضمونة حتى يكون الأمر آمناً، وبتأخر عودة ولادة الطبقة الوسطى التي يمكن أن تحمل رسالة الحرية وقيمة الفرد ومفهوم المواطنة.
كل ذلك في أجواء ما زالت القومية والإسلامية إيديولوجيتين سائدتين في الضمير العربي، لا تستطيعان اجتياز الحاجز نحو فضاء التقدم والعقلانية والديموقراطية، إما لضغوط مستمرة من السلطات والغرب، أو لعجز ذاتي عن التكيف مع متطلبات الحداثة. ولأسبابٍ مختلفة، تثير الدهشة قلة فعالية المسائل الاجتماعية الاقتصادية على تكوين مراكز سياسية قوية. وتبقى التيارات الثلاثة، مع الحركة الليبرالية أيضاً، عاجزة عن الظهور المكشوف، ضعيفة ومتناحرة، ويتكرر عجزها عن التحالف وتحريك عملية التغيير.
لا تظهر بارقة يمكن أن تشجع الليبرالي على التقدم خطوة نحو الالتزام السياسي، إلا ويضطر إلى التراجع مثلها، ليدور في مكانه. ولا يوجد ما يشبه ما حدث إبان التغيرات الكبرى في التاريخ المعاصر، حين كانت الشروط الاجتماعية الاقتصادية السياسية ملائمة ومجتمعة، وحين كانت التحالفات الضرورية لهذه التغيرات أمراً متقدماً في ظرف النهوض والغليان والطموح الشامل.
وما بين إحساس الليبرالي بأهمية برنامجه وحيويته، وتأخره عن الالتزام السياسي الضروري، وعزلته وعجزه عن التواصل وتردده في التحالفات، تتولد التراجيديا التي تسم حالته، لأنه البطل الافتراضي الذي تتغلب عليه الظروف القاهرة، فلا يثير في النفس المتفرجة المحايدة إلا المزيد من الرعب.. وبعض التعاطف البارد.
في حين يحتاج التغيير إلى استكمال عدة الليبرالية بالتحول إلى حرارة الديموقراطية وانضباطها، وإدخال مفهوم الشعب وحقه في السيادة على مصائره السياسية ضمن منظومة ترتكز إلى مسائل الحريات والحقوق، ليحتكّ الفرد بالجماعة، ويكتسب قوة دافعة إلى الالتزام السياسي. لكن ذلك لا يتحقق بالإرادة والرغبات للأسف، بل في إطار حالة عامة تتسم بالإيجابية والنهوض.
* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى