تركيا.. إمبريالية ناعمة بلبوس عثماني
غازي دحمان
تبدو مقاربة التوجهات التركية، بغير ما يريده المزاج العربي المتأثر بالسلوك التركي رسميا وشعبيا، مسألة فيها الكثير من المجازفة، وخاصة في ظل دعوات عربية رسمية وأكاديمية إلى تشجيع الدور التركي وعدم التشكيك فيه ومساندته ما أمكن.
ولكن، تتطلب المعالجات العلمية للظواهر السياسية عموما قدرا من التحليل العقلاني والبارد، وتقبل الرأي الآخر، وخاصة إذا انطلق هذا التحليل من وقائع ومعطيات وأدلة وبراهين تعزز صحة هذا الرأي وتقدم إضافات معينة لفهم الظاهرة المراد دراستها، وهي هنا إمبريالية تركيا ذات اللبوس العثماني.
وهكذا، فإن تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الشهر الأول من هذا العام وفي خطاب أمام الهيئة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، والتي قال فيها إن على إسرائيل أن تعلم أنه “ليس زعيم دولة عادية، بل هو زعيم أحفاد العثمانيين”، قد أطلقت ظاهرة في الأدبيات العربية والأجنبية سميت بـ”العثمانية الجديدة”، واعتبر خبراء ومحللون أن ذلك التوصيف، أو بلغة أدق التعيين الأردوغاني، هو تمهيد لطبعة جديدة منقحة عن الدولة العثمانية في العالم العربي، وقالوا إن هذه الطبعة تتشابه مع الخلافة العثمانية في انطلاقتها من جذور إسلامية، لكنها لا تحمل الأطماع الإمبراطورية السابقة، وليست لديها أهداف للسيطرة الإقليمية أو أخذ دور اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، وقد استند معظم المحللين في ذلك إلى معطيات معينة أهمها:
– توجهات تركية تجاه العالم العربي.
– تغيرات العلاقات التركية الإسرائيلية.
فما حقيقة أدوار وتوجهات تركيا الجديدة؟ وكيف يمكن قراءتها؟
أولا: جيوإستراتيجية الحراك التركي
أ- بيئة الحراك التركي: إن فشل الولايات المتحدة الأميركية في العراق، وفشلها الموازي في ترويض إسرائيل والحد من تجاوزاتها، شجعا تركيا على الخروج من قفص تأييد الولايات المتحدة، وتأكيد مكانتها كلاعب قوي مستقل في قلب منطقة شاسعة تمتد من الشرق الأوسط إلى البلقان إلى القوقاز وآسيا الوسطى.
وكانت تركيا بعد نهاية الحرب الباردة قد تعرضت إلى تراجع قيمتها الإستراتيجية، غير أن الفراغ الذي حصل في المنطقة بعد احتلال العراق، وامتداد الطموح الإيراني الإقليمي والقومي، دفعا إلى ضرورة استدعاء قوى وازنة في المنطقة لصد الطموح الإيراني، ولم يكن أفضل من تركيا للقيام بهذا الدور انطلاقا من مصالحها الجيوسياسية المتقاطعة في الآن ذاته مع مصالح عربية ودولية، في العراق والخليج ولبنان، وتمكين تركيا تاليا من احتلال مساحة جيوسياسية واسعة لملء الفراغ الإقليمي.
وهكذا فإن دخول تركيا للمنطقة العربية يأتي في الأساس متوافقا مع مصالحها، ووفق نمط من الصراع العربي التركي الإيراني للهيمنة على المنطقة، في ظل تعرض النظام العربي للاهتراء.
ب- فلسفة الحراك التركي: تقوم فلسفة الحراك التركي الجديد على جملة من الحقائق والمعطيات:
1- اعتبار أن مستقبل تركيا في آسيا والشرق الأوسط وليس في أوروبا، وهو ما نبه إليه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي” وتبناه حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم.
2- إدراك تركيا قيمتها ومكانتها الإقليمية والدولية وفق المستجدات الحاصلة على صعيد السياسة العالمية.
3- بحث تركيا عن التفعيل الأفضل لوضعها الجيوإستراتيجي ضمن أنساق فاعلة تكسبها الدور المؤثر في السياسة العالمية بشكل عام، وفي السياسات الإقليمية المحيطة بشكل خاص.
وبناءً على هذه المعطيات تسعى تركيا إلى بناء منظومة إقليمية تمتد من القوقاز إلى البلقان فالشرق الأوسط، والهدف من ذلك كما يقول أوغلو حماية المصالح الوطنية ومنع القوى الكبرى والقوى الخارجية من التفرد بسياسات دول هذه المنظومة.
ج – الأدوار الإستراتيجية للحراك التركي: لوحظ أن العلاقات الأميركية التركية، وبالتبعية العلاقات مع الغرب عموما، لم تتأثر بالحراك التركي، بل إن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد خص تركيا بأول زيارة لدولة إسلامية، ولهذا الأمر مبرراته الإستراتيجية:
1- إن النشاطات التركية تبقى تحت سقف الغرب وحلف شمال الأطلسي، كما يستطيع الأميركيون والأوروبيون تصحيح علاقاتهم بالعرب.
2- وقوع تركيا في قلب مثلث المصالح الأميركية، وسط آسيا والبلقان والشرق الأوسط، وقدرتها على مخاطبة الهويات والتكوينات السياسية والعرقية في المنطقة مما يجعلها مصلحة أميركية.
3- في البيئة الإستراتيجية التي تقوم فيها تركيا، هي وحدها تستطيع عرقلة خطة إنشاء “محور شيعي” يصل طهران ببغداد بعد رحيل الأميركيين.
4- إمداد أوروبا بالغاز من تركيا إلى غرب أوروبا عبر مشروع “نابوكو”، فتتمكن أوروبا من النأي بنفسها عن انفعالات روسيا القيصرية.
5- وهذا الأمر بدوره يحقق طموح تركيا بأن تصبح من الهيكل الطاقي الذي تسعى أوروبا الكبرى الاقتصادية إلى إنشائه عبر خطوط تصلها من الجزائر وتركيا والقوقاز.
6- على الجانب الأميركي تبدو مقاربة إدارة أوباما مطمئنة إلى أن تركيا لن تذهب بعيدا في توجهاتها الاستقلالية الحالية:
– لأنها محكومة بحتمية التحالف مع واشنطن بسبب اعتمادها الكلي على التسلح الأميركي.
– بسبب دعم الولايات المتحدة لجهودها الهادفة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
– لأن أميركا هي بطاقة تأمين دائمة لها ضد الدب الروسي إذا أراد مواصلة ما انقطع من طموحاته الجيوإستراتيجية.
ثانيا: دوائر الحراك التركي:
شكلت متغيرات السياسة الخارجية التركية أحد أهم عوامل الإثارة التي أعطت للدور التركي احتراما عربيا وصل في بعض المحطات إلى حد القداسة، فما الدوافع الحقيقية لهذه المتغيرات؟ وكيف يمكن قراءتها؟
أ- في الدائرة العربية: إن تطور علاقات تركيا مع جوارها الإقليمي وخصوصا العربي منه، يتيح لها بناء تحالف إقليمي واسع يفرض قوته وسيطرته على الشرقين الأوسط والأدنى، وهو أمر سيتيح لأنقرة مكانة ووزنا دوليا أكبر.
– العلاقة مع سوريا: تدرك تركيا أن سوريا لاعب شرق أوسطي مهم، بسبب موقعه الجيوإستراتيجي، وبسبب شبكة العلاقات التي أقامتها سوريا مع عدد من المكونات السياسية والفاعلين الجدد في المنطقة، ولا يمكن لتركيا أن تلعب دورا مهما ومعترفا به في الشرق الأوسط بدون البوابة السورية، الأمر الذي من شأنه أن يبرز دور تركيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
وقد التفتت مؤسسة بروكنيغنز للدراسة والأبحاث لهذه القضية، فأكدت في ورقة بحثية بعنوان “سوريا وتركيا تعمقان العلاقات الثنائية” أن الممر السوري سيلعب دور البوابة الرئيسية التي ستتيح لتركيا الانطلاق باتجاه بلدان الشرق الأوسط الرئيسية، وهو أمر سيعزز قوة الاقتصاد التركي ويفتح الباب لأنقرة إزاء الخيارات الحرجة التي تأتي في مقدمها احتمالات تخلي تركيا عن إسرائيل.
عمليا يمكن لسوريا أن تعرقل أية جهود تركية على صعيد الوساطة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، كما أن لسوريا ارتباطات قوية فيما يتعلق بالملف العراقي، ومن خلال علاقاتها بإيران تستطيع أن تتحكم في قضايا عراقية محددة، ولهذا فإن الدول الغربية التي لها علاقة بالملفات العراقية واللبنانية والفلسطينية، تعطي لتركيا أهمية في المنطقة من خلال علاقاتها بسوريا التي تستطيع التحكم بهذه الملفات، ولهذا أيضا فإن علاقة تركيا بسوريا هي أحد مفاتيح مكانتها القوية عند الدول الغربية في الوقت الراهن.
– العلاقات الاقتصادية مع العالم العربي: يشكل الدافع الاقتصادي دافعا رئيسيا للانفتاح التركي على الشرق الأوسط، فالاقتصاد التركي متنام يقترب سريعا من رقم تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي، مما يخلق له حاجات ملحة يأتي في طليعتها:
ـ توفير أسواق قريبة للصادرات المتنامية.
ـ توفير الطاقة اللازمة لاستمرار هذا النمو.
إن ادراك تركيا، بحكم الاحتكاك المباشر بالتجربة الأوروبية، أن المصلحة القومية ترتبط بعمق الاستقرار وبالأسواق الإقليمية الكبيرة، دفعاها إلى تبني سياسة خارجية تسعى إلى تهيئة البنية التحتية المناسبة لهذا النمو عبر ترسيخ العلاقات مع الدائرة العربية، وقد شهدت العلاقات الاقتصادية التركية قفزة كبيرة، وتشير إحصائيات اقتصادية إلى أن 16% من التجارة الخارجية التركية تتم مع الدول العربية، وبلغت الاستثمارات العربية في تركيا 36 مليار دولار، مع وجود دور متعاظم لشركات المقاولات التركية في تنفيذ المشاريع في بعض الدول العربية.
ولا شك أن للمواقف التركية تأثيرا إيجابيا سيتمثل في تقديم تسهيلات سياسية وإدارية واستثمارية طالما أن هناك تقاربا سياسيا باعتباره مؤشرا ينعكس إيجابا على التبادل التجاري والاقتصادي والاستثماري، كما أن الترحيب الشعبي والاستحسان العربي الرسمي بالمواقف التركية من شأنه أن يشجع على ترويج وتصريف المنتجات التركية في الأسواق العربية وهي سوق كبيرة ومهمة.
– سياسة تركيا تجاه القضايا الخلافية: لم تقدم تركيا أي مبادرات في قضايا الاحتكاك والصراع حول لواء إسكندرونة لسوريا، أو حول حصص توزيع مياه نهري دجلة والفرات.
والملاحظ هنا صمت سوري وعراقي تجاه موضوع المياه، والغريب أن البلدين يزيدان التبادل التجاري ويعقدان المعاهدات الإستراتيجية مع دولة تعتبر دجلة والفرات مياها تركية وترفض توقيع أي معاهدة تلزمها نسبة معينة من المياه إلى دول المصب.
ولنعرف مدى خطورة السلوك التركي في موضوع المياه يستوجب قراءة تقرير منظمة المياه الأوروبية لهذا العام، والذي توقع موت نهري دجلة والفرات في العام 2040 بسبب السدود التركية، وكذلك فإن العالم الياباني أكيو كيتو من معهد “مثيولوجيكل” للأبحاث في اليابان والذي درس تحولات الطقس وتأثير السدود التركية، توقع زوال “الهلال الخصيب القديم في هذا القرن”.
الغريب في هذا الإطار أن تركيا كانت قد أبدت استعدادها لتزويد إسرائيل بما قدرته ثلاثة مليارات متر من المياه عبر أنبوب السلام دون أن يؤثر ذلك على مخزونها من المياه، كما أن نهري سيا وجيان تصب مياههما البالغة 14 مليار متر مكعب في البحر المتوسط في الوقت الذي تقيم فيه السدود في جنوب الأناضول لحرمان العراق وسوريا من المياه الوفيرة.
ب- العلاقات مع إسرائيل: يشكل العامل الاقتصادي والأمني الخلفية التي تم إخفاؤها في انهيار العلاقات التركية الإسرائيلية، وبهذا الخصوص يؤكد الجنرال التركي المتقاعد خلدون سولمازترك أن العلمانيين الأتراك ممتعضون من الإسرائيليين أكثر من نظرائهم الإسلاميين في تركيا، وذلك لاعتقادهم أن العلاقات التجارية مع تل أبيب غير جديرة بالثقة، وخاصة فيما يتعلق بالمعدات العسكرية، والمقصود هنا تأخير إسرائيل في تسليم طائرات استطلاع تسير بدون طيار، حيث استلمت تركيا طائرتين من أصل 10 طائرات، سقطت كلتاهما خلال طلعات جوية، وهو ما دفع تركيا إلى إلغاء مناقصات وعقود لتحديث طائرات ودبابات تركية، إضافة إلى عقود الشراء والمشاركة في تصنيع الطائرات
وتشكو تركيا من عجز تجارتها الخارجية مع إسرائيل، كما أن أنقرة تدرك أن الثمن السياسي الذي تدفعه لقاء مواقفها من إسرائيل متدن جدا في مقابل المكاسب المعنوية والمادية التي تحصل عليها في العالمين العربي والإسلامي.
أما على الصعيد الأمني فإن تركيا لا تزال تذكر بانزعاج استخدام إسرائيل مجالها الجوي في شن غارات على سوريا، كما تستاء تركيا من العبث الإسرائيلي بالملفين الكردي والأرمني.
ج – العلاقات مع أوروبا: من الواضح أن توجه تركيا نحو الشرق الأوسط هدفه تعويم دورها في المنطقة، وذلك لتحقيق أهداف بعيدة، وهي توظيف هذه المكانة كجواز سفر للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، وإقناع أوروبا بقدرتها على أن تكون حلقة الوصل بينها وبين آسيا، خاصة فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
كما أن توسع تركيا في معاملاتها الشرق أوسطية سيكون له تأثير على المعاملات التركية الأوروبية، فإذا كانت الحكومات الأوروبية غير راغبة في إلحاق تركيا بعضوية الاتحاد الأوروبي، فإن شركات الاتحاد سوف لن تستطيع التخلي عن مصالحها المتزايدة في تركيا.
وعليه فإن الحراك التركي الشرق أوسطي ينطوي على تعظيم قدرة تركيا للمساومة مع أوروبا، فهو:
– من جهة يجعل تركيا بوابة أوروبا الحصرية للشرق الأوسط.
– ومن جهة أخرى يهدد بفقدان الامتيازات الأوروبية في المنطقة لصالح النفوذ التركي الجديد.
ثالثا: ليست عثمنة
إن هاجس الفعالية التركية الإقليمية لم ينفك أن يكون تكوينيا في السياسة التركية، وقام في جانب كبير منه على نزعة قومية وطنية، ونزوع إمبراطوري وجد في الماضي غير البعيد ذريعة وحافزا، على نحو يداني اللاواقعية السياسية أحيانا، كما أن اتجاه تركيا قومي ليبرالي يتطلع إلى مستقبل تصنع فيه أقدار ومصائر المنطقة بما يتفق والمصالح التي ارتأتها النخبة التركية.
من هنا نجدنا نتفق مع المفكر الكبير فهمي هويدي الذي رأى في التحرك بأنه يمثل “حلقة في مسلسل مدروس، وينطلق من رؤية إستراتيجية واضحة المعالم، تستهدف إخراج تركيا من التصنيف الذي اعتبرها جسرا بين الشرق والغرب، ووضعها في موقع أكثر لياقة وتقدما، بحيث تصبح دولة لها دور بارز فاعل في منطقة الشرق الأوسط، فتغدو قاطرة تجر غيرها وراءها لا مجرد جسر يعبر عليه الآخرون”.
الجزيرة نت