مدينة الأزمة

الياس خوري
-1-
لا ادري ماذا يجري بالضبط في دبي، فأنا لم ازر الامارة الصغيرة الا مرة واحدة، ولمدة يومين فقط. رأيت الأبراج، وتفرجت على ميدان التزلج الاصطناعي، لكنني لم افهم شيئاً، ولم استطع ان اصدّق ما رأيته. كل ما استطعت استنتاجه من بعض الأصدقاء اللبنانيين العاملين هناك، هو انهم يعيشون في منطقة غائمة بين الحلم والوهم. وحين لا تقول لك الأشياء حقيقتها، او حين تكون الحقيقة عصية على الفهم، فإنني اصدّق الأدب. هنا، على الأقل، نجد اركيولوجيا التجربة الإنسانية، ونذهب الى اعماق الروح. لذا فأنا اصدّق عبدالرحمن منيف ولا اصدق هذا السيل من التحليلات الاقتصادية التي لا تستبطن سوى التبن.
اصدّق منيف لا لأنه حمل طوال حياته موقفا اخلاقيا لا يتأثر بتقلبات الأزمنة، بل يزداد رسوخا، بل لأنه ايضا كاتب كبير، ورؤيوي خلاق، وروائي من طينة الكبار.
حدثنا عبد الرحمن منيف عن ‘مدن الملح’، ولم يصدقه احد، او صدقوه في وصفه يكتب عن الماضي. لكن الكاتب لم يرو الماضي الا كاستعارة للحاضر، وكرؤية للمستقبل. اذهبوا الى منيف واستعيدوا قراءته، كي تفهموا ماذا يجري اليوم، وماذا سيجري غدا.
سحر هذا الكاتب كان تواضعه، لكن التواضع والشعور بالخيبة من انقلاب حلم التغيير الى كابوس، ومن رؤية فكرة الانبعاث العربي تتحول كارثة، كانا يحملان قدرة على الذهاب الى اعماق الظواهر وكشف مستوراتها. فهذا الكاتب السعودي الجنسية، والذي نزعت جنسيته، كان وسيبقى الرؤيوي الأكبر الذي انتجه ادب جزيرة العرب في العصر الحديث.
اقرأوا منيف قبل ان تنهالوا علينا بالتحليلات الفارغة، وعندها ستفهمون ان ما يجري الآن في الواقع سبق له وان جرى في المتخيّل الروائي.
-2-
اغرب ما سمعته وقرأته عن الأزمة المالية في دبي، هو بعض التحليلات اللبنانية الساذجة عن ان بيروت سوف ترث دبي، وهي تحليلات تشبه في سذاجتها بعض ما قيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية من ان دبي ورثت بيروت.
كان بعض اللبنانيين يصفون انهيار مدينتهم وصعود دبي بمرارة من اضاع فرصة العمر، ويعطون حكاية صعود المدينة الاعلامية في دبي كنموذج لما يقولون. سذاجة هذا الافتراض تشبه تلك المقارنة الغريبة بين الدور الذي لعبته اذاعة ‘صوت العرب’، في الستينات، والدور الذي تلعبه فضائية ‘الجزيرة’ اليوم. وهي بالطبع مقارنة نافلة وبلا جدوى. اذاعة ‘صوت العرب’، و’اهرام’ محمد حسنين هيكل كانا جزءا من مشروع سياسي تاريخي قادته مصر الناصرية في سياق مشروع وحدوي تحرري. اما ‘الجزيرة’، فليست سوى مشروع توازن داخلي واقليمي لأمارة صغيرة تحاول الدفاع عن ثروتها الهائلة من الغاز.
مقارنة بيروت بدبي مستحيلة، فبيروت كانت امتصاصا للتداعيات الاقتصادية والاعلامية للناصرية على المستوى الاقليمي. وحريات الاعلام في بيروت، رغم الضوابط الطائفية والاقليمية كانت حريات لا تحدها المصالح الاقتصادية المباشرة، التي هي سمة مدينة دبي الاعلامية. بهذا المعنى لم تأخذ دبي مكان بيروت، بل كانت تعبيرا عن مرحلة جديدة ساد فيها البترو دولار على الجميع. لذا فبيروت لم ولن تكون مرشحة لوراثة دبي على هذا المستوى.
-3-
ليست ازمة دبي انعكاسا للأزمة المالية العالمية فقط، بل هي انعكاس لعجز البترو دولار عن الاستثمار المنتج في الصناعة والزراعة في العالم العربي. المنطقي هو ان توظف الثروة البترولية العربية الهائلة في الاستثمار المنتج، وهذا دونه عقبات لا تحصى. اهمها ان نظام التجزئة الذي صنع الدولة الوطنية في المشرق العربي، هو نظام قائم على عدم الثقة بالنفس وبالآخر العربي. كما ان هذا النظام قائم على فصل الثروة عن الاراضي المنتجة. ومن جهة ثانية فإن الديكتاتوريات والفساد هي سمة انظمة الحكم، وخصوصا في الجمهوريات الوراثية واشباهها. تخيلوا مشروعا زراعيا في السودان، أو مشاريع صناعية في سورية ومصر او الى آخره… وهذا محال اليوم، وممنوع ايضا. فالثروة يجب ان تبدد في الثروة نفسها.
-4-
الشماتة ليست سوى تعبير عن فقدان العقل والخيال. كما ان البحث المتسرع عن وريث، ليس سوى جزء من لعبة الوهم العربية.
بيروت ليست مؤهلة لهذا النوع من الإرث، على اللبنانيين الخروج اولا من لعبة حافة الحرب الأهلية قبل ان يبدأوا في التفكير في ماذا يرثون، وعليهم ثانيا ان يفكروا في معنى تقلص العمالة اللبنانية في دبي، كما ان عليهم اخيرا ان يجدوا حلا لمسألة الدين العام المتنامي، والذي لا حلّ له في المدى المنظور، على الأقل.
-5-
إحدى سمات الانحطاط السياسي العربي هي ان لا نجد حلولا. فالانحطاط يتخذ اليوم شكل التعايش مع الأزمة، الى درجة ان الأزمات تتحول الى نمط الحياة.
وهذه الأزمة المالية العاصفة سوف تتحول، للأسف، الى جزء من هذا الواقع.
القدس العربي